الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي أعزَّ المؤمنينَ بالجهاد, وقَمَعَ الكافرينَ بالفساد, رفعَ أولياءَهُ المتقين, وحطَّ أعداءَهُ الفاجرين. شرعَ الجهادَ لإقامة حجَّتِهِ, وأمرَ بالقتالِ لإعلاءِ كلمتِهِ. أمرَ المجاهدينَ بالكفاحِ, ووعدَهُم بالفوزِ والفلاح, المقتولُ منهم في رحمته, والناجي منهم في فضلِهِ ومنَّتِهِ. أرواحُهُم في ذات الله تعالى رخيصةٌ, ونفوسُـــهم في سبيل مرضاتِهِ قليلةُ. وأشــــهد أن لا إلــــه إلا الله وحده لا شريك له, نصرَ عبده وهزمَ الأحزابَ وحده, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرُ الخلقِ أجمعين, وإمامُ المجاهدينَ ا لمتقِينَ. أرسله ربُّه عزَّ وجلَّ بالهدى والنور, وأيَّده بالمؤمنين, فأقامَ الدينَ, ونشر الحق, وجاهدَ في الله حق جهاده, حتى أتاه اليقين, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فإن الله تعالى يقول:
) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَـــسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَـــرٌّ لَّكُــمْ وَاللَّـهُ يَعْلَــمُ وَأَنــتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (، ويقول أيضاً: ) إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَـهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُــــم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيـــمُ(، ويقول أيضاً: ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتـَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِـرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَـــوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (، ويقول سبحانــه أيضـــاً: ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: » أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله «, ويقول أيضاً: » رأسُ الأمر الإسلام, وعَمُودُهُ الصلاة, وذِروةُ سنامِهِ الجهاد«, ويقول أيضاً: »إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدين في ســبيل الله, ما بين الدرجتينِ كما بين السماء والأرض«, ويقول أيضاً: »تكفَّلَ اللهُ لمن خرج في سبيله لا يُخرجُهُ إلا جهادٌ في ســبيلي, وإيمانٌ بي, وتصديقٌ برسلي, فهو عليَّ ضامنٌ أن أُدخِلَهُ الجنة, أو أَرجِعَهُ إلى منزله الذي خرجَ منه بما نالَ من أجرٍ أو غنيمة, والذي نفسُ محمدٍ بيده, ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله – يعني ما من جُرحٍ يُجْرَحُ في سبيل الله – إلا جاء يومَ القيامة كهيئته يوم كُلِمَ, لونُهُ لونُ الدم, وريحُهُ ريحُ المسك. والذي نفسُ محمدٍ بيده, لولا أن يَشُـقَّ على المسلمينَ ما قعدتُ خلاف سريةٍ تغزو في سبيل الله أبداً, ولكن لا أجدُ سَعَةً فأحمِلُهُم, ولا يجدون سعةً, ويشُقُّ عليهم أن يتخلَّفوا عني, والذي نفسُ محمدٍ بيده لوددتُ أن أغزوَ في سبيل الله فأقتَلَ, ثم أغزو فأُقتلَ, ثم أغزوَ فأقتلَ«. ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن خير الناس قال: »رجلٌ مُمسِكٌ عِنانَ فرسِهِ في سبيل الله, يطيرُ على متنِهِ, كلَّما سمعَ هيعةً أو فزعةً طار عليه: يبتغي القتلَ أو الموتَ مظانَّهُ«. ولما سأله معاذُ بن عفراء رضي الله عنه فقال: »يا رسول الله ما يُضحكُ الربَّ من عبده؟ قال: غمْسُهُ يدَه في العدوٍ حاسراً, فألقى درعاً كانت عليه, وقاتلَ حتى قُتِلَ«.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ هذه النصوصَ القرآنيةَ, والتوجيهاتِ النبويةَ, كانت ولا تزال تفعلُ فعلها في نفوسِ المسلمين, فتُحيي فيهم محبة الجهاد, وتربيهم على حبِّ الاستشهاد, حتى ظهرَ من بعض المسلمين من المواقف البطولية, والأعمالِ الاستشهادية ما يعجبُ منه التاريخ, ويستغربُ له الزمان . فهذا أسدُ الله وأسدُ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم حمزةُ بنُ عبد المطلب قاتلَ يومَ أحدٍ بسيفين، ففعل في المشركين ما فعلَ حتى قُتل, ومَثَّلَ به المشركون, فوقفَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: » لولا جَزَعُ النساءِ لتركتُهُ حتى يُحشرَ من حواصلِ الطير وبطون السباع «. وهذا عبد الله بن عمرو بن حرام يقول لولده جابر رضي الله عنه: » إني معرِّضٌ نفسي للموت, وما أراني إلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم«، فكان أوَّلَ من يُقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أوَّلَ شهيد يومَ أحدٍ, أظلَّتْهُ الملائكةُ يومها حتى رُفع, وكلَّمهُ ربُّهُ بلا واسطة. وهذا سعدُ بنُ الربيع يسقط يومَ أحدٍ متأثِّراً بِجِراحه, ومع ذلكَ يبعثُ إلى قومِهِ رسالةً يقولُ فيها: »إن سعداً يقولُ لكم: إنه لا عذرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيِّـكُم ومنكم عينٌ تَطْرِف «. وهذا عبد الله بن جحش صاحبُ الهجرتين, وأولُ أمير في الإسلام, لما خرجَ يومَ أحدٍ دعا ربه فقال: »اللهم أقسمُ عليك أن نلقى العدوَّ, فإذا لقينا العدوَّ أن يقتلوني, ثم يبقروا بطني, ثم يمثِّلوا بي, فإذا لقيتُك سألتني فيمَ هذا, فأقول فيكَ«. فكان كما دعا. وهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه يُصِرُّ على الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رغمَ عرْجَةٍ كانت فيه, ثم يدعــو عنــد خروجـه فيقول: » اللهم لا تردني «. فلما سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »قوموا إلى جنَّةٍ عرضُها السماوات والأرض« قام وهو يعرجُ ويقول: »والله لا قحزنَّ عليها في الجنة«؛ يعني لأثبنَّ عليها في الجنة, فقاتل حتى قُتل . وهذا خيثمةُ بن الحارث وولده سعدٌ يقترعان على الخروج يوم بدر, فقال خيثمةُ لولدِهِ سعدٌ: »آثرني بالخروج وأقم مع النساء, فقال: يا أبت لو كان غيرَ الجنةِ لآثرتُكَ به«. فخرج سعدٌ فقتلَ يوم بدر, وخرج أبوه خيثمةُ فقتل يومَ أحد. وهذا جعفرُ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مؤتة, عَقَرَ جواده, وحملَ الرايةَ فقاتلَ بها حتى قُتل, فإذا به نحوٌ من خمسين ضربةً ليس شيءٌ منها في قفاه.
وفي يومِ اليمامةِ خرجَ أبو عقيل عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري رضي الله عنه: فجُرحَ وحُمِلَ للعلاج, فلما سمعَ مناديَ الأنصار يصيحُ بهم: خرج يزحفُ حتى قُتل. وهذا زيد بنُ الخطابِ أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يوم اليمامة بلا درع, فلما كانت المعركةُ قال: »يا أيها الناس عَضُّوا على أضراسِكُم, واضربوا في عدوِّكُم, وامضوا قُدُماً, والله لا أتكلَّمُ حتى يهزمَهُمُ اللهُ, أو ألقى اللهَ فَأُكَلِّمَهُ بحجَّتي«, فقاتل يومها حتى قتل. وهذا سالمٌ مولى أبي حذيفةَ رضي الله عنهما حفرَ لنفسه حفرةً يومَ اليمامة ومعه رايةُ المسلمين فوقفَ فيها يقاتلُ حتى قُتل. وهذا البراء ابن مالك الأنصاري رضي الله عنه البطل الذي لا يهابُ الموت, لما تحصَّنَ مُسَيلِمَةُ الكذاب في حديقته، وعَجَزَ المسلمونَ عن اقْتحامِ أسوارِ الحديقةِ: قال لهمُ البراءُ: » يا معشرَ المسلمينَ ألقوني إليهم «, فحملوه على رماحِهِم حتى ألقوهُ من فوقِ الأسوارِ فأخذَ يُقاتلُهُم وحدَهُ حتى فتحَ بابَ الحديقةِ, وقد أصيبَ رضي الله عنه بثمانينَ جرحاً. وفي معركةَ أجنادين بأرض فلسطينَ تأخَّر المسلمــــونَ فقامَ هشامُ بن العاصِ رضي الله عنه فقال: »يا معشرَ المسلمينَ أنا هِشَامُ بنُ العاص أمِنَ الجنَّة تفرون« ، فقاتل حتى قُتل, فوقع في مكانٍ ضيِّق فمرت عليه الخيول فقطَّعت جسدَهُ رضي الله عنه. وهذا البطلُ عبد الله بنُ الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلمَ بعدَ الفتح, وكان يحبُّ المبارزة لا يصبرُ عنها, ففي إحدى المعارِك مع الروم وُجدَ رضي الله عنه مقتولاً بين عشرةٍ من الروم قد قتلهم, والعجيبُ أنهم وجدوا سيفَهُ لاصِقاً بيده, قد صبَّ عليه مادة صمغيةً حتى لا يفلُتَ منه.
أيها الإخوة: إنها صورٌ يعجزُ اللسانُ أن يعبِّرَ عنها، ولكنها حقائقُ وعجائبُ أخرجها هذا الدين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله المتفرِّد بالملكِ والملكوت, المختص بالعزَّة والجبروت, الناصرِ لأوليائِهِ, المنتقمِ من أعدائِهِ. أحمده وحده لا شريك له, وأستغفره وأتوب إليه , ولا حول ولا قوة إلا به. أما بعد:
فإنَّ أمَّةَ الإسلام لم تُخلَقْ لتزول, ولم تُوجد لتنتهي, بل هي الأمةُ الشاهدةُ الباقيةُ إلى آخر الدهر, لا ينقضي خيرها, ولا يزولُ أثرُهُا, فهذا العطاءُ الجهادي لم ينقطع بانقراض جيل الصحابة أو التابعين بل هو مستمرٌ في كلِّ جيلٍ حتى عصرنا الحديث. فهذا التابعي البطل علباءُ بن جحش العجلي شاركَ في معركَةِ القادسية, وقبل بدايةِ المعركةِ برَزَ له رجلٌ من المجوسِ فبارزه, فضربَ علباءُ صدر الرجل فشقَّهُ, وضربَ الرجلُ بطنَ علباءٍ فخرجت أمعاؤهُ, فأخذَ يعالجُ أمعاءَهُ حتى يرجعَهَا إلى بطنِهِ فَعَجَزَ عن ذلك, فمرَّ به رجلٌ من المسلمين فقال : » يا هذا أعنِّي على بطني «، فأعانه وحزمَ بطنَهُ, فإذا به يأخُذُ سيفَهُ ويزحفُ تجاه العدو مرَّة أخرى دون أن يلتفتَ إلى الوراء ويتقدَّمُ خُطُواتٍ, ثم يقضي نحبه ميتاً في سبيل الله. وهذا البطلُ علي بن أسد, شاركَ في بعض المعارك البحرية مع الروم, ولما تقابلت سفنُ المسلمينَ مع سفن الرومِ قال الرجلُ: »لا أطلبُ الجنَّةَ بعد اليوم«, ثم اقتحمَ على إحدى سفنِ الروم وحدَهُ, وأخذَ يُقاتلهم, فانحازوا إلى إحدى جهات السفينة, فاختلَّ توازُنُها, فانكفأت بهم في الماء وغرِقَ الجميعُ. وهذا المجاهدُ عمرُ المختار السنوسي الليبي جاهدَ الاستعمارَ الإيطالي عشرينَ سنة, قام فيها بأكثرَ من مائتينِ وخمسينَ معركةً حتى أُسِرَ في نهايةِ المطــافِ وأُعدِمَ وهو ابن ثلاثٍ وسبعينَ سنةً. وهذا عزُّ الدينِ القسام جاهدَ الفرنسيين, ثم الإنجليز, ثم اليهودَ في أرضِ فلسطين والشام حتى قُتِلَ رحمه الله. وهذا الشابُ الفلسطيني رائدُ زكارنة, لم يتجاوز التاسعةَ عشرةَ من عمره, اختفى عن الناس أربعة أشهرٍ ثم فاجأ العَالمَ بأوَّلِ عمليةٍ فدائيةٍ من نوعها في أرضِ فلسطينَ؛ حيث فجَّر سيارةً ملغومةً فقتلَ سبعةً من اليهود وجرحَ اثنينِ وخمسينَ وماتَ بينهم رحمه الله. وهذا الشابُ عمادُ عقل الذي لم تكن رصاصاتُهُ لتخطئَ صدور وظهورَ ورؤوسَ اليهود, فقد أَزعَجَهُم دهراً من الزمن، وحاصروه أكثرَ من مرةٍ بالطائرات والمصفَّحات ولكن دون جدوى, حتى حُوصر في آخرِ مرةٍ وضُربَ بالصواريخِ فلما عثروا عليه أفرغوا في رأسه سبعينَ رصاصةً انتقاماً منه.
أيها الإخوة : إنها بطولاتُ الإسلامِ وعطاءُ هذا الدين الذي أراد الله تعالى له البقاءَ والدوامَ بعز عزيز أو بذل ذليل. فليعملِ الأعداءُ
ما شاءوا , وليدبِّروا ما أرادوا , فإن الله تعالى من ورائهم محيط, وهو القائل في كتابه العزيز: ) وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (.