الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي لا يُحمَدُ على مكـــروهٍ سواهُ, ولا يَرفَعُ البلوى إلا هو, نحمَدُهُ على ما قدَّر في الغيبِ من الأقدارِ, ونستغفرهُ لما سَتَرَ من العيوبِ والأسْرار. قضاؤُهُ نافذٌ في العالمين, وأمرُهُ ماضٍ في الخَلقِ أجمعينَ. لا مُعقِّبَ لحكمهِ, ولا رادَّ لأمرِهِ. اصطفى من خَلْقِهِ الرسل والأنبياء, وأورثَ عِلْمَهُم العلماءَ الأتقياءَ, والفضلاءَ الأوفياءَ, ممن جمعَ بينَ العلمِ والعملِ, واتَّقَىَ المداهنَةَ والزلَلَ. حَمَلُوا راياتِ الهدى, وواجهوا بها جموعَ العِدا. فأظهرَ اللهُ على أيديِهمُ الحقَ والنورَ, وقمعَ بهمُ الباطلَ والشرور, فكَمْ من هالكٍ أنقذوهُ, وكم من شقيٍّ أسعدوهُ، فرُبَّ هِمَّةٍ أحيت أمَّةً. حَمَلُوا الهمَّ لهذا الدين, وسَلَكُوا طريقَ خيرِ المرسلينَ. لم يخْلُ كتابُ حقٍ من ذكْرِهِم, ولم يخلُ مجلسُ خيرٍ من عطرِهِم. بأخبارِهِم سارتِ الركبانُ, وبآثارِهِم اهتدى الثقلانِ, فهم ضوءُ الشمسِ للأبصارِ, ونجومُ السائرين في الأسفارِ, مشاعلُ الهدى, وأعلامُ التقى. بِهِمُ الدُّنيا قد زانت, وبفَقْدِهِم قد شانت, عُرفُوا بالحقِ في أقوالِهم, وبالخيرِ في أعمالِهم. كم من الحقوقِ أظْهَروها, وكم من العلومِ نشروها, لم يخلُ منهم عبرَ التاريخِ زمانٌ, ولم يُنسَ لهم عبرَ الأيامِ مكانٌ, فعُلُومُهُم محفوظةٌ, وأقوالُهُم معلومةٌ, قد جرت بمعارِفِهِمُ الأقلامُ, وانتفعَ بها كثيرٌ من الأنامِ, حتى مُلئت الصحائِفُ بمدادِهِم, وعُمِرت ا لمكتباتُ بأوراقِهِم. قَضوْا أعمارَهُم في الطلبِ, وأمْضَوْا أيامَهُم في عجب. وكأنَّما أخبارُهُم أساطيرُ الأولينَ, ونوادرُ الماضِينَ. لم تَشْغلْهُمُ الدُّنيا عن طلبِ العلمِ, ولم يمنَعْهُم سفَهُ الجهَّالِ عن مسلكِ الحِلْمِ. سَهِرُوا اللياليَ في مسائلِ العلمِ يبحثُونها, وعَمَروا الأيامَ بالعلومِ ينشرُونها, فهذا القرآنُ قد فسَّروهُ, وهذا الحديثُ قد شَرَحُوهُ, الفِقْهُ من علومِهِم, والأُصُولُ من فُنُونِهم. تدبَّروا النصوصَ واستنبطُوا, ونَظَروا في العلومِ واستخرَجُوا, فقعَّدوا القواعدَ والأصولَ, وجَمَعُوا المذاهبَ والنُّقولَ, حتى ملأوا الدنيا علماً, وأشبَعُوا الطلابَ فهْمَاً. بلغوا بالعلمِ أعلى المراتبِ, ونالوا بالعَمَلِ أجَلَّ المناقِبِ. وكأنَّهم خُلِقُوا كما يُريدونَ, وحازوا ما يشتهون. حتى عَجَزَ المتأخرون عن بلوغ جُهْدِهِم, ويَئِسَ المعاصرونُ من التفكير في سبْقهم, تَـجَاوزوا المفَاوِزَ والقناطِرَ, وفاتوا الأذكياءَ والعباقِرَ, حتى هَرَعَ إليهِمُ النُّجباءُ, ورجعَ إليهِمُ العقلاءُ, فَصَدَرُوا عن اجتهاداتِهم راضينَ, وأخذوا بأقوالِهِم مقْتَنعينَ, فانْتَشَرَتْ مذاهِبُهُم, وعَمَّتْ بالخير فضائِلُهُم, حتى إذا كَمُلَ البناءُ, واستنارتِ البيداءُ, وظهرتِ السُّنَّةُ بينَ الأنامِ, وقُمِعَتْ بِدَعُ اللئَامِ: جاءتِ المنايا تتخطَّفُ الأخيارَ, وَجَاءَ الموتُ يُفني الأبرارَ. وكأنَّهُم روحُ الأمَّةِ تُنزعُ من أصولها, ومُهجتها تُخلعُ من جذورها. السماء عليهم باكية, والأرضُ لفقْدِهِم شاكيةٌ, قُبِضُوا من بينِ الأحبابِ, واختُلسوا من بينِ الأصحاب, تَركُوا الدنيا وراءَهُم, وأقبلوا على الآخرةِ أمَامَهم. فأينَ مقامُ العلمِ والتعليم, وأينَ زمانُ الدرسِ والتفهيم, قد غدا كلُّ ذلكَ ذكرى بين الطلابِ, ونجوى بين الأحبابِ. قد احتوتهُمُ القبورُ, في ساحةِ العزيزِ الغفورِ . الذي وَعَدَ بالمغفرةِ للعلماءِ, وبالرحمةِ للفضلاءِ, فأخطاؤُهُم مغفــورةٌ, وعُيُوبُهم مستـــورةٌ, لا ينبُشُــها إلا الأرذالُ, ولا يتناقَلُــها إلا الأنذالُ. ممن عَمِيَت أبصارُهُم عن المحاسِنِ, وضاقت صدُورُهُم بالمحامِدِ, من الذينَ يفرحونَ بموتِ العلماءِ, وينشرحُونَ بفناءِ الفقهاءِ. ينبُشُونَ الكتبَ بحثاً عن المثالب, ويتتبعُونَ الأخطاءَ والمعايبَ. قُلوبُهُم مظلمةٌ, وأنفاسُهُم مُنتنةٌ, لا يتبعُهُم إلا العاطلونَ, ولا يُحبُّهم إلا المبطِلُونَ, فهم عبرَ التاريخ منبوذونَ, ومنذُ القديم مُبْعَدونَ. أوراقُهُم محروقةٌ, وأفعالُـهُم مقبوحةٌ. يبحثونَ عن الهفوةِ من العلماءِ, ويتندَّرون بالسقطةِ من الفضلاءِ. يظنون أنهم أوصياءُ الله على وحْيِهِ, المكلفونَ بحفظِهِ وشرحهِ. فأيُّ علمٍ هذا الذي أهَّلَهُم للوصايةِ, وأيُّ عملٍ هذا الذي أهَّلَهُم للولايةِ. لا علمَ عندهم ولا عمل, ولكن ادِّعاءٌ ودَجَلٌ. أغبى الأغبياءِ, وأجهلُ الجُهلاءِ. يشترطونَ العِصْمَةَ في العلماءِ, ويطلبونَ الكمالَ في الفقهاء. فهذا تاريخُ علماءِ الإسلامِ: ما صفيَ أحدٌ من كبوةٍ, ولا سَلِمَ أحدٌ من هفوةٍ. فليسَ أحدٌ من العلماءِ في قديمِ أو حديثِ, إلا وقد أخطأ في مسألةٍ, وليسَ أحدٌ منهم إلا وقد شذَّ في فتوى. وإنَّما العصمةُ للأنبياءِ, والسلامَةُ الكامِلَةُ للرسلِ الأصْفَياء. ومع ذلك فما حطَّـــت هذه الأخطاءُ من مَقَاماتِهـم, ولا نقصتْ هذه الهفواتُ من كمالاتهم, فمقاماتُهم معلومة, وكمالاتُهم معروفةٌ, فقد وَعَدَ اللهُ تعالى المخطِئَ منهم بالغفرانِ, كَمَا وَعَدَ المصيبَ منهم بالثوابِ والرضوان. فكيفَ يعدُهُمُ اللهُ تعالى بالرحمة, ويحكُمُ عليهمُ الظالمونَ بالعذابِ, وكيفَ يرضى اللهُ عنهم, ويقعُ الجاهلونَ فيهم بالسباب. وإنَّا لنجدُ في واقع الحياةِ أنَّ الرجُلَ المفرِّطَ المسْرِفَ على نفسِهِ ليُحبُّ من الناس من أجلِ حسنةٍ أو حَسَنَتَيْنِ, ويُشادُ به من أجلِ فضيلةٍ أو فضيلَـتَيْنِ, في الوقت الذي يُظلمُ فيه العالمُ بفتوى يُخطئُ فيها, ويُنتقصُ من مقامِهِ من أجل هفوةٍ يقعُ فيها. ومن المعلوم عند المنصفينَ, من أصحابِ العدلِ المُحقِّقينَ: أنَّ من كَثُرَ صوابُهُ وجَبت موالاتُهُ, وأنَّ من كَثُرت أخطاؤُهُ وَجَبَتْ معاداتُهُ. فكيفَ بمن يكونُ خطؤُهُ مغفوراً, وصوابُهُ مشكوراً. فأيـنَ أهلُ العدلِ والإنصافِ من أهل الباطل والإرجافِ. وأينَ أصحابُ العقولِ من أصحابِ الفضولِ. اللهمَّ إنا نعوذ بكَ من الخُذلانِ, ونعوذُ بكَ من الظلمِ والعصيانِ, اللهمَّ نبرأُ إليكَ من ظلمِ الظالميَن, وتسلُّطِ الباغينَ.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ حياةَ العالمِ في الأمَّةِ نعمةٌ عظيمةٌ, ومَكْرُمةٌ من الله جَليلَةٌ, وإنَّ موتَ العلماءِ, وقبضَ الفقهاءِ مصيبةٌ كبيرة, وكارثَةٌ عظيمةٌ. فإنَّه بذهابهم يذهبُ العلم, الذي تحيا به القلوبُ, وتصلُحُ به الحياةُ. ومن ظنَّ أنَّ موتَ العالمِ كموتِ غيرِهِ من الناسِ فقدَ جَهِلَ الحقيقةَ, وتنكَّبَ الصوابَ, فإنَّ موتَ القبيلةِ أهونُ من موت العالمِ الواحدِ، وفي الحديثِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إنَّ اللَه لا يقبِضُ العلمَ انتزاعاً ينتزِعُهُ من العبادِ, ولكن يقبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ, حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتَّخذَ النَاسُ رُؤوسَاً جُهَّالاً فسُئلوا فأفتوْا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا«، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: »ألا وإنَّ ذَهَابَ العلمِ ذَهَابُ حَمَلتِهِ«، قالها ثلاثاً، وقال أيضاً: »إنَّ مَثَلَ العلماءِ في الأرضِ كمثلِ النجومِ في السماءِ, يُهتدى بها في ظلماتِ البرِ والبحرِ, فإذا انطَمَسَتِ النُّجُومُ أوشَكَ أن يضلَّ الهُداةُ«. وعن ابنِ مسعودٍ رضي اللُه عنه قال: »تدرونَ كيفَ ينقُصُ الإسلامُ ؟ قالوا : كما ينتقُصُ صِبْغُ الثوبِ, وكما ينقُصُ سِمَنُ الدابةِ … إلى أن قال: إن ذلك لمنْهُ, وأكبرُ من ذلك موتُ أو ذهابُ العلماءِ«. وعن سعيد بن المسيِّب رحمه الله قال: »شهدت جنازة زيد ابن ثابت رضـي الله عنه فلما دُفن في قبره قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا هؤلاء من سرَّهُ أن يعلم كيف ذَهَابُ العلم فهكذا ذَهَابُ العلم, وأيم الله لقد ذهبَ اليوم علمٌ كثير «. فاتقوا الله أيها الناس, واعرفوا حق العلماء, ومكانة الفقهاء, فإنهم أمان الدين والدنيا.
أقول ما سمعتهم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمـدُ لله الباقي على الدوامِ، المتصرِّفِ بُحُكْمِهِ في الأنـامِ، يحكُمُ ما يشاءُ، ويفعلُ ما يريدُ. نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، ومن قبيح أخلاقِنَا، ومن سيئ طِبَاعِنا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريَكَ له، المتفرِّدُ بالكمالِ، المختصُ بالعزةِ والجلالِ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسولُهُ، سيِّدُ الأولينَ والآخِرينَ، وإمامُ الأنبياءِ والمرسلينَ، فصلواتُ الله وسلامُهُ عليه ما ذَكَرَهُ الذاكرونَ الأبرارُ، واشتاقَ إليه الصالحُونَ الأخيارُ. أما بعدُ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في كتابه عن العلماء: ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( ، ويقــول أيضــا: ) قُـلْ هَلْ يَسْتَـوِي الَّذِينَ يَعْلَـمُونَ وَالَّذِيـنَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (، ويقول أيضاً: ) يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِين آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: »إنَّ العالمَ ليستغفرُ له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالمِ على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء ورثةُ الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثُوا ديناراً ولا درهماً إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر« ، وقال أيضاً: »يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُولهُ، ينفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المُبْطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ« ، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: » ليسَ من أمَّتي من لم يُجِلَّ كبيرَنَا ويرحَمْ صغيرَنَا ويعرفْ لعالمنا حقَّهُ « ، وقال أيضاً: » فقيهٌ واحدُّ أشدُ على الشيطانِ من ألفِ عابد« ، وقال عليه الصلاة والسلام: »يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للعلماءِ يومَ القيامةِ إذا قعدَ على كُرسِيِّهِ لفصلِ عباده: إني لم أجعل علمي وحلْمي فيكم إلا وأنا أريدُ أن أغفرَ لكم ما كان منكم ولا أُبالي« .
أيها الإخوة: هذا فضلُ العلماءِ العاملينَ في الدنيا والآخِرةِ، وهذه مكانَتُهم عندَ الله عزَّ وجلَّ، فكيفَ يسوغُ لبعض الناسِ إساءَةُ الظنِّ بهم، والتقليلُ من شأنهم، والاعتقادُ بعدمِ الحاجَـةِ إليهم، فإنَّ هـــذا لا يكونُ إلا من جاهلٍ أو مُعاندٍ. فليحذر هؤلاءِ من حربِ الله تعالى، فقد أعلنَ حربَهُ سبحانه وتعالى على من عادى أولياءَهُ، وخاصمَ أصفياءَهُ . والعلماءُ هم أولياءُ اللهِ وأصفياؤُهُ بعد النبيينَ والمرسلينَ، ممن سَلَكَ سبيلَ السُّنَّةِ، واتَّبعَ سلفَ الأمَّةِ، من الصحابةِ والتابعينِ، والأَئِمَّةِ المهديينَ في كلِّ عصرٍ، ممن اعتمدَ الكتابَ والسنةَ منهجاً، وسَلَفَ الأمُّةِ قدوةً.
كم عالمٍ عاملٍ تزهو البلادُ به ومُدَّعٍ خائبٍ خالٍ من القيَمِ
اللهم اغفر لعلمائنا من السابقين و المتأخرين، ومن الأحياء والميتين، واغفر لنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.