الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الحليم العليمِ, البرِّ الرحيم, رَفَعَ بالعلمِ منازلَ العلماءِ, وحَطَّ بالجهلِ مراتِبَ السفهاءِ, فأعزَّ بالعلمِ أحبابه, وأذلَّ بالجهل أعداءَهُ. فتحَ بنورِ العلمِ القلوبَ, ونجَّى بالمعرفَةِ من الخطوبِ. فانشغلتِ العقولُ بالعلومِ النافعةِ, واستنارت بالمعارفِ الجامعةِ, حتى ما عاد لأهل الهمَمِ العاليةِ شغلٌ إلا العلـمَ, ولا همٌ إلا الكتابَ, ولا رغبةٌ إلا الاستزادَةَ. فانهمَكَ العلماءُ في التحصيلِ, وعكفوا على التنزيل, ينهلون من موارد العلوم, ما يبعثُ الحياةَ في القلوبِ, ويُنيرُ الفكرَ في العقولِ, لا يعرفونَ للعلمِ نهايةً, ولا للراحةِ بدايةً, إنما يُسابقونَ الزمانَ, ويدافعونَ الليلَ والنهارَ, يتمنى أحدُهم لو أوقفَ الشمسَ حتى يستدركَ ما فاته, أو يُطيلَ الليلَ حتى يستوفي ما نابَهُ. حُزنُهُم شديدٌ على الزمانِ أن يمرَّ بلا علمٍ, وجَزَعُهم كبيرٌ على الوقتِ أن يمرَّ بلا عمل. وكأنَّ مرورَ الأيامِ سياطٌ تُلهِبُ جلودَهُم, وكأنَّ مرورَ الساعات همومٌ تُسْهِرُ عُيونَهُم. فَرْحةُ أحدِهم بمسألةٍ من العلمِ يقفُ عليها: أحبُّ إليه من البشرى بمولودٍ يُولَدُ له. حتى شَغَلَهُم العلمُ عن راحةِ أبدانِهِم, وقضاءِ حاجاتِهِم, وحظوظِ أنفُسِهم. فكانَ طيِّبُ الطعامِ آخرَ ملذَّاتِهِم, وبرْدُ الشرابِ آخرَ رغباتهم, وطراوةُ الفراش آخر حاجاتِهِم, وقُرْبُ الزوجات آخر شهواتِهِم. قد قامَ العلمُ مقامَ هذه الملذَّاتِ والشهوات, فكان أحدُهم لا يأكلُ إلا بقدر ما يُقيمُ صلْبَهُ, ولا يشـربُ إلا بقـدرِ ما يروي ظمَأَهُ, ولا ينامُ إلا بقدر ما يُجَدِّدُ به نشاطَهُ, ولا يتزوَّجُ إلا بقدرِ ما يُحيي به السنة. قد ملأَ العلمُ حياتَهُم, فالنهارُ بينَ التدريس والتحصيل, والليلُ بين المراجعةِ والتأليف, قد تفرَّغوا للعلمِ, حتى إنَّ أحَدَهُم لا يكادُ يجدُ من الطعــامِ ما يملأُ بطنَهُ. فهذا أبو هريرةَ رضي الله تعالى عنه أسلمَ قبلَ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنواتٍ, فكان لا يُفارِقُهُ أبداً إلا حينَ يدخلُ بيته, ولقد أضرَّ ذلك به حتى ما كان يجدُ شيئاً من الطعام يملأُ بطنهُ, حتى إنَّهُ كان يسقطُ من شدَّةِ الجوعِ. وهذا التابعيُّ الجليل عطاءُ بن رباح رحمه الله: كان المسجدُ فِراشَهُ عشرينَ سنةً يقول: »لا ينالُ هذا العلمَ إلا من عطَّلَ دُكَّانَهُ, وخرَّبَ بُستَانهُ, وهجر إخوانه, وماتَ أقربُ أهْلهِ ِإليه فلم يشهدْ جَنَازتَهُ «. وفي هذا يقول أبو يُوسُف رَحِمَهُ اللهُ: »مات ابنٌ لي فلم أحضرْ جَهَازَهُ, ولا دفنَهُ, وتركتُهُ على جـيراني وأقربــائي مخافــةَ أن يفوتني من أبي حنيفةَ شيءٌ لا تذهبُ حسْرتُهُ عني«. وقال أبو بكر بن أبي داود رحمه الله: »دخلتُ الكوفةَ ومعيَ درهَمٌ واحدٌ, فأخذتُ به ثلاثينَ مُدَّاً باقِلَّا يعني فولاً, فكنت آكلُ منه وأكتبُ عن أبي ســعيدٍ الأشج, فما فرغَ الباقلَّا حتى كتبتُ عنه ثلاثينَ ألفَ حديثٍ «. وقال ابنُ القاسمِ المصري رحمه الله: »أَنَخْتُ ببابِ مالك ابن أنسٍ سبعَ عشرةَ سنةً ما بعتُ فيها ولا اشتريت «. وفي هذا يحكي أبو الفرجِ عبدِ الرحمن ابن الجوزي رحمه الله عن تفرُّغِهِ للعلمِ، وكيفَ أضرَّ ذلك به, فيقول: » لقد كنتُ في حلاوةِ طلبي للعلم ألقى من الشدائدِ ما هو عندي أحلى من العسلِ؛ لأجل ما كنتُ أطلبُ وأرجو, كنتُ في زمنِ الصِّبا آخذُ معيَ أرْغِفَةً يابسةً, فأخرجُ في طلبِ الحديث, وأقعُدُ على نهرِ عيسى في بغداد, فلا أقدِرُ على أكْلِهَا إلا عند ماء, فكلَّما أكلتُ لقمةً شربتُ عليها, وعينُ هِمَّتي لا ترى إلا لذَّةَ تحصيلِ العلمِ, ولقد كنتُ أدورُ على المشايخِ لسماعِ الحديثِ فينقطعُ نفسي من العدْوِ لِئَلا أُسْبَقَ, وكنتُ أُصْبِحُ وليسَ لي مَأْكَلٌ, وأُمسي وليسَ لي مأْكَلٌ, ما أذلَّنيَ اللهُ لمخلوقٍ قط«.
أيها الإخوة: إنَّ العلمَ لا يُنَالُ إلا بهجرِ اللذاتِ, وتطليق الراحاتِ, وتفرُّغٍ لا شاغِلَ معه. وقد كان كثيرٌ من السلفِ رغمَ حاجتِهِم للكسبِ فقد كانوا يُفرِّغونَ أجزاءً كبيرةً من أعْمَارِهِم لطلب العلم, فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتغلُ بالكسب في يومٍ, ويتفرَّغُ في آخرَ للعلم, وملازَمَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا المعنى يقول عِكْرِمَةُ مولى ابن عباس رضي الله عنهما: »طلبتُ العلمَ أربعينَ سنَةً, وكنتُ أُفتي بالبابِ وابنُ عباسٍ بالدار«, وكان إبراهيمُ الحربي رحمه الله لا يكادُ يُفْقدُ في مجلس علم خمسينَ سنَةً, وكان بعضُهُم يجلسُ للمذاكرةِ من بعد العشاءِ مع أصحابِهِ فلا يفرِّقُهُم إلا أذانُ الفجر, حتى إنَّ بعضَهُم كانَ يُلازمُ شيخَهُ حتى يظنَّ الظَّانُّ أنَّهُ مملوكٌ له. وما كانَ أحَدُهُم يتحسَّرُ على شيءٍ فاتَهُ من أمرِ الدنيا, إلا على العلمِ, فهذا معاذُ بنُ جبلٍ سيِّدُ العلماء, وأعلَمُ الناس بالحلال والحرام, يقولُ عند وفاته: »اللهم إنَّكَ تعلمُ أنِّي لم أكن أُحِبُّ البقاءَ في الدنيا لِكرْي الأنهارِ, ولا لغرسِ الأشجارِ, ولكن كنتُ أُحِبُّ البقاء لمكابدة الليل الطويل, ولظمأِ الهواجِر في الحرِّ الشَّديدِ, ولمزاحَمَةِ العلماءِ بالركبِ في حِلقِ الذكرِ «.
أيها المسلمون: لقد أدَّب المولى عزَّ وجلَّ رسولَهُ صلى الله عليه وسلم بأن يطلب المزيد من العلم, فقال جلَّ شأنهُ: ) وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( , وَوَجَّهَ سبحانَهُ وتعالى المؤمنينَ بأن تكونَ فرحَتُهُم الكبرى بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ, فقال عزَّ من قائل: ) قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: »الدنيا ملعونةٌ, ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه, وعالمٌ ومُتعلمٌ«. فلما أدركَ السلفُ هذه المعانيَ العظيمةَ, وعلموا أنَّ العلمَ النافعَ أغلى مافي الدنيا: انْكبُّوا عليه دون انقطاع أو ملل, حتى قالَ بعضُهم لابن المبارك : » إلى متى تسمعُ الحديث؟ قال إلى الممات«. وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: » كنت أصوغُ مع أبي ببغداد, فمرَّ بنا أحمدُ بن حنبل وهو يعدو ونعلاهُ في يديه, فأخذ أبي بمجامعِِ ثوبِهِ فقال: يا أبا عبدِ الله ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاءِ؟ قال: إلى الموت «. وقال عبد الله بن بشْرٍ الطَّالقاني: » أرجو أن يأتيني أمري والمِحْبَرةُ بين يديَّ, ولم يفارقني العلمُ ولا المِحْبَرَةُ «.
ولم يكُنِ السَّلَفُ رحمَهُم اللهُ يكتفونَ من العلم بأطرافِهِ, وإنَّما كانوا يستوعِبُونَهُ حتى لا يفوتَهُم شيءٌ, فهذا ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما يسألُ في المسألة الواحدة ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى إنَّه رُبما توَسَّدَ رداءَهُ عند باب أحَدِهِم حتى يخرجَ إليه، ولما تأَهَّلَ رضي الله عنه للتعليم أخذَ عنهُ سعيدُ بنُ جبيرٍ فكان يكتبُ عنه حتى يملأَ صحائِفَهُ, حتى إنَّهُ ليكتُبُ في كفِّهِ, وعلى رحْلهِ, وحتى في نعلِهِ. وكان ابنُ شهابٍ الزهري رحمه الله لا يتركُ شيئاً من العلمِ سَمِعَهُ إلا كتَـبَهُ وحَفِظَه. وكانَ ابن ا لمباركِ قد حَمَلَ العلمَ عن أربعةِ آلافِ شيخٍ, فعُوتِبَ في كثرة ما يَكْتُبُ, فقال: » لعلَّ الكلمةَ التي انتفعُ بها لم أكْتبها بعد«, ولما عكف على الكتب ينظرُ فيها في بيتِهِ, قيل له ألا تستوحِشُ, فقال: »كيف أستوحِشُ وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ«.
ولقد كانَ للكتابِ عند السَّلفِ شأنٌ عظيـمٌ, فقــد كانَ أغلى ما عندَهُم, لا يقدِّمونَ على الكتبِ شيئاً من ملذاتِ الدنيا وأموالها, حتى إنَّ بعضَهُم ليبيعُ ثيابَهُ عند الحاجَةِ ولا يبيعُ كُتُـبـَـهُ.
وربما اشترى بعضُهُم الكُتُبَ بكلِّ ما يملِكُ, ولقد كانَ هَمُّهُم في حفظِ الكتب أعظمَ بكثيرٍ من همِّهم في حفظ أمتعتهم, حتى إنَّ بعضَ بيوت أهل العلمِ إذا داهَمَهُمُ العدوُّ في المدنِ, أو اضْطُروا للرحيلِ: كانوا يحملون الكتبَ دونَ المتاع, حتى إنَّ بعضهم كان يحملها عبر الأنهار على رأسِهِ لِئَلَّا يتحلَّلَ مِدادُهــا بالماء. وكان أبو عبد الرحمنِ عبد الله بن عبد العزيز العُمَري يلازم المقبرة, ومع كتابِهِ ينظرُ فيه وكان يقول: »لا أوعظَ من قبرٍ, ولا آنـَسَ من كتابٍ, ولا أسلَمَ من وحدَةٍ «.
أيها الإخوة: إنَّ أعْجَبَ أحوال السَّلَفِ رحْلَتُهُم في طلبِ العلمِ, التي سنَّها كليمُ الله موسى عليه الصلاة والسلام حين ارتحل إلى الخَضِرِ يتعلَّمُ منـه. فهذا عبد الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه من أعلمِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »والذي لا إله غيرُهُ ما أُنزلت سورةٌ من كتاب الله, إلا وأنا أعلَمُ أينَ نزلتْ, ولا أُنزِلَتْ آيةٌ من كتاب الله, إلا وأنا أعلم فيمنْ أُنزلتْ. ولو أعلمُ أحداً أعلمَ منِّي بكتاب الله، تبلُغُهُ الإبِلُ لركبتُ إليه«. ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه وقد جَمَعَ القرآنَ في زمنِ النبي صلى الله عليه وسلم: »لو أُنسيتُ آيةً فلم أجدْ أحداً يُذكِّرنيها إلا رجلاً بِبَرَكِ الغماد – يعني باليمن – لرحلتُ إليه«. ولم يكن هذا كلامٌ يُقالُ، ومُبالغاتٌ يتندَّرون بها, وإنَّما حقيقةٌ واقِعَةٌ, فهذا جابرُ بنُ عبدِ الله الأنصاري رضي الله عنهما يقول: »بلغني عن رجلٍ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وســلم حديـثٌ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاشتريتُ بعيراً, ثم شددتُ رحْلي, فسرتُ إليه شهراً, حتى قدمتُ الشَّامَ, فإذا هو عبدُ الله بنُ أنيس, فقلتُ للبوابِ : قل له جابرٌ على الباب, فقال : ابنُ عبد الله؟ قلت: نعم, فخرجَ عبدُ الله بنُ أنيسٍ فاعتنقني, فقلت : حديثٌ بلغني عنكَ أنَّكَ سمعتَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيتُ أن أموتَ, أو تموتَ قبل أن أسمَعَهُ «, ثم سأله عن الحديث، وعاد أدْراجَهُ إلى المدينة. ويقول التابعيُّ مكْحُولٌ رحمه الله: »كنتُ عبداً بمصر لامرأةٍ من بني هُذيل فأعتقتني، فما خرجتُ من مصرَ وبها علمٌ إلا حويتُهُ, ثم أتيتُ الحجازَ فما خرجتُ منا وبها علمٌ إلا حويتُهُ, ثم أتيت العراق فما خرجتُ منها وبها علمٌ إلا حويتُهُ, ثم أتيتُ الشَّامَ فغرْبلتُهَا «. فكانَ أَحَدُهُم يطوفُ الدنيا يجمعُ العلمَ من أفواهِ العلماء، ثم يُدوِّنُهُ للناس, فهذا أبو سليمانَ الطبراني صاحبُ المعاجِمِ الثلاثِةِ, رَحَلَ ثلاثينَ سنةً بعد العاشرةِ من عُمُرِهِ في طلب العلم, ثم مكثَ ستينَ سنةً يُعلِّمُ الناسَ ويكتُبُ, حتى مات وهو ابن مائة عام. إنها الهمة العاليةُ التي جمعتْ هؤلاء على طلب العلم, حين أيقنوا أنَّ حقيقةَ العلمِ لا تُدْرَكُ إلا بجهْدِ الأنفسِ, وتعـبِ الأبـدانِ, وخسارةِ الأموالِ, فجـدُّوا في ذلك حتى بلغوا ما بلغوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْـمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ, والصلاة والسلام على معلِّم المعلِّمِينَ, ومؤدِّب المؤدِّبينَ, سيِّدِ الأولينَ والآخِرينَ, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: هذه أحوالُ طُلَّاب العلم من السَّلفِ, وهذه همَّتُهُم, فما هو خَبَرُ طلَّابِ العلمِ من الخَلَف, وما هي هِمَّتُهُم, وما حَجْمُ رغبَتِهِم في طلبِ العلم, وما مدى علاقَتِهِم بالكتب, وما هو مصيرُ الكتب المدرسيَّةِ في نهاية العام الدراسي, وما هو حجــم المعلومات التي خَرَجُــوا بها من مؤسساتِ التعليمِ, وما هو حجم طُمُوحِهِم نحو التفوق العلمي ؟