الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المتفرِّدِ بالملكِ والملكُوت, القاهرِ بالسطوةِ والجبروت. أحمدُهُ وأشكره, وأستغفره وأتوب إليه, لا إله إلا هو, يُحيي ويُميت, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. الأرض في قبضتِهِ, والسماواتُ تحتَ سلطانِ سطوتِهِ, والإنسانُ مقهورٌ بقدرِهِ ومشيئتِهِ. فالخلقُ في عجزهم مُسَرْبلون, وضمن سلطانِ قهرِهِ يعملون, وتحتَ مشيئتِهِ يتقلَّبون . لا أحدَ يصلُ إلى خيرٍ إلا بفضلِهِ, ولا أحدَ يتضرر بشرٍ إلا بعْدلِهِ. الخلقُ فقراءُ إليه, وأمرهم في يديه, لا منجا منه إلا إليه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده
لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسولُهُ, صاحبُ الحوضِ المورود, والمقام المحمود, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وارجو الله تعالى واليومَ الآخرَ ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
عَظِيمًا (.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.
أيها الإخوة الكرام: إنَّ من أشدِّ أنواعِ البلايا والرزايا التي ابتُلِيَتْ بها هذه الأمَّةُ في عصرها الحديث: معالجتَها لقضاياها خارجَ نطاقِ دينها, وبعيداً عن روحِ شريعتها. بحيث يكونُ الدين مجرَّد علاقةٍ باردةٍ بين العبد وربِّهِ, محصوراً في زوايا المساجد, وترانيمِ المتنسِّكينَ, مغلقاً عليه في ثنايا الكتب والمكتبات, لا واقعَ له في حياةِ الناس, وصراعِ الحياة. بحيث ينبري لصناعة الحياة, وإعمار الدنيا من يظُنُّ أن الشريعةَ غيرُ ملزمةٍ له, وإنما جاءت الشريعة لعصورٍ قد مضت, وإلى أممٍ قد خلت. فعصرُ السياراتِ والطائراتِ ليس كعصـر الخـيول و البغال والنوق . وكأنَّ مُنزلَ الشريعة – سبحانه وتعالى– لا يعلمُ بواقع البشرية وتطـــوُّرِها, وتعقُّد الحياةِ المستقبلية وتشعُّبـــــها, ) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ (.
أيها الإخوة: إنَّ هذهِ الصيحاتِ التي يُطلقها بعض الناس تصريحاً أو تلميحاً, بحيث يعلنونَ قصورَ الشريعةِ عن مواكبة تطور الحياة المعاصرة, ويرفضون معالجة قضايا الأمَّةِ من الزاوية الدينية، إنَّ هؤلاءِ وأشباهَهَم إنما ينخُرونَ ما بقيَ من جسد الأمة الإسلامية المنهلكة, ويضربـون بمعاولِ الهدم آخرَ حصونِهَا المشـيَّدة, حتى لا يبقى للأمة بعد ذلكَ دينٌ صحيحٌ تلوذُ به, أو عقيدةٌ واضحةٌ تجتمع عليها. إنَّ هذه الفئةَ من الناس, ممن ملأ الحقدُ قلوبَهُم, حتى فاضَ على ألسنتِهِـم وأقلامِهِـم, لا يستحيونَ من وقتٍ إلى آخر, وبمناسبة وبغير مناسبة: أن يلمِزُوا الدينَ من قريب أو بعيد بالنواقِصِ والرزايا, ووصفِ الشريعةِ بالقصور والضمور. فتراهم يتندَّرون بأقوال الفقهاء, ويستهزئون بفتاوى العلماء, ويرفضون أن يكون للدين دخْــلٌ في السياســة أوالاقتصـادِ أو التربيةِ والتعليم أو العاداتِ والتقاليد أو العقود والمعاملات. إنما الدينُ في تصورهم محصورٌ في زاوية الشعائر التعبدية لمن أحبَّ أن يتعبَّد أو يتنسَّك, بشرط أن لا يتعدى هذا المتعبِّدُ بدينِهِ مقامَ العبادةِ في محرابه إلى غيرها من شؤون الحياة. فهو في صلاته يسجُدُ ويركعُ لله تعالى, وينضبطُ بأحكامِ الصلاةِ وآدابها كما جاء في الدين، أما حين يخرجُ من صلاتِهِ إلى واقع الحياة العامة, فإنه لا يجدُ غضاضةً في أن يركَعَ ويسجُدَ لغير الله تعالى, من خلال انصياعه وطاعته لما يخالفُ دينَهُ, وأصول عقيدته. فتراه لا يبالي في شؤونِ حياتِهِ العامةِ أن يتبع النظريات الباطلة, والنحَلَ الفاسدة في ميدان التربية والاقتصاد, والسياسة والقانون, والعقودِ والمعاملات, معتقداً أنه لا دخل للدين فيها.
أيها الإخوة المسلمون : إنَّ الدينَ هو إرادةُ الله الشرعيةُ, المتضمنةُ لأمره ونهيِهِ, وحلالِهِ وحرامِهِ, وما أحبَّهُ لعباده, وما كَرِهَهُ لهم. فهو سبحانه وتعالى إنما يتصرف في ملكِهِ وسلطانه, فهو مالكُ الملك, وخالقُ الخلق. فالذي يرى أن الدين لا علاقة له ببعض جوانبِ الحياة؛ إنما ينتزعُ هذه الجوانب من سلطانِ الله تعالى, ويغتصبُها من إرادةِ الله الشرعية, ليضَعَهَا في سلطان آلهةٍ أخرى, من أهواءِ الناسِ وشهواتِهِم, وسدنةِ الفكر والفلسفة, ممن نَصَبُوا أنفُسَهُم أنداداً لله تعالى, وآلهةً تُطاعُ فيما يخالفُ أمرَ الله تعالى ونهيَهُ.
أيها المسلمون : إنَّ صفةَ الإسلام لا تُعطى للشخص لمجرد انتسابه لأهل الإسلام في بطاقتِهِ الشخصيَّةِ, وإنما الإسلامُ: استسلامٌ لله تعالى ظاهراً بالطاعة والانقياد, وباطناً بالإيمان وسلامة الاعتقاد, فهذا المسْلِمُ, حتى وإن جاء ببعض الأخطاءِ والذنوب, فهو يعلم أنه مخطئٌ في حقِّ ربِهِ عز وجل, مقصرٌ في جنْبِ مولاهُ تبارك وتعالى. أما من ظنَّ أنه غيرُ ملزمٍ بالشريعــة, أو أنها لا تصلــحُ للحيـاة المعاصرة, أو أنها تصلحُ لأشياءَ ولا تصلحُ لغيرها, فهذا هو المنافق, حتى وإن ادَّعى الإسلام, أو أظهرَ بعضَ العبادات, فإن الله تعالى غنيٌ عن عبادته, فما قيمةُ صلاتِهِ التي يؤدِّيها وهو يعتقدُ أنَّ دينَ الله تعالى لا علاقة له بشؤون الحياة العامة،
وما قيمةُ زكاته التي يؤدِّيها، وهو يعتقد انه لا علاقة للدين بالاقتصاد, وما قيمة صيامِهِ الذي يُؤدِّيه, وهو يعتقدُ أنَّه لا علاقة للتربية بالدين. إنَّ هذا الصنفَ من الناس لا حظَّ له في الإسلام, فكما أنَّ الدخولَ في هذا الدين سهلٌ, فإن الخروجَ منه سهلٌ أيضاً. والله سبحانه وتعالى غنيٌ عن عبادةِ أوليائِهِ المتقين فضلاً عن عبادةِ أعدائِهِ المفرِّطين ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ بِعَزِيزٍ (.
فاتقوا الله عباد الله, واعرفوا لله تعالى عظمتَهُ, واعرفوا لهذا الدين مكانتَهُ, فإنما أنزلَ اللهُ دينه رحمةً بكم, وفضلاً منه عليكم, فمن عَمِلَ وشَكَرَ, وعَدَهُ بالزيادة والفضل, ومن أعرضَ وكَفَرَ, فقد توعَّده بالانتقام والتنكيل.
اللهم إنا نعوذ بك أن نرتدَّ على أعقابنا بعد إذ هديتنا, اللهم ثبتنا على دينك, وأمتنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الواحدِ في عليائِهِ, المتفرِّدِ بكبريائه, الناصرِ لأوليائه, القاهرِ لأعدائه. أحمده على ما هدانا إليه من الصواب, ونعوذ به من مسْلكِ أهل العذاب. اللهم إنا نبرأُ إليك من كلِّ متكبِّرٍ جبار, ونعوذ بك من كلِّ طاغية غدَّار. اللهم أنت ملاذنا في كلِّ الأحوال, وأنت غايتنا من كلِّ الآمال. اللهم اهتك سترَ المنافقينَ الفاجرينَ, وثبِّت المؤمنينَ الصادقينَ. اللهم أصلح منا القلوبَ, واغفر لنا الذنوبَ, برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة المسلمون: إن أغلى ما يملِكُهُ المسلمُ هو دينُهُ وعقيدتُهُ, فإذا تطرَّقَ إليهما الفساد بالنحل الباطلةِ والمذاهبِ الساقطةِ, فماذا يبقىَ بعد ذلك للمسلم في هذه الحياة؟
إنَّ الناس كُلَّهم يموتونَ بأسباب متنوعة, وعلى أحوالٍ مختلـفةٍ, إلا أن الجميعَ يُسـأل عن دينــه وعن عقيدتــه, ولن ينفعَ أحداً جاهُـهُ ولا سلطانُهُ, حينَ يقدَمُ على ربه عز وجل فقيراً من الصالحات, مُثْقلاً بالمعاصي والموبقات . حين اتَّخَذَ دينه لعباً ولهواً, وغرَّته الحياةُ الدنيا بزينتها, وظنَّ بربه أسوأَ الظنون.
أيها الإخوة: إنَّ الناظر في أحوال هؤلاءِ, وما تبثُّهُ ألسنتُهُم,
وما تخطُهُ أقلامُهُم: ليهولُهُ حجمُ جُرْأتِهِم على الدين, وقبيحُ موقفهم من الثوابت الاعتقاديةِ, والمبادئ الشرعية. ومع هذا يتظاهرونَ بالإيمان, ويحلفون على سلامة عقيدتهم, وصفاء طويَّـتهم. والعجيبُ في أمرِ هؤلاءِ المنافقينَ أنهم يستخدمونَ أسلوبَ الحَلِفِ حتى مع ربهم عز وجل حين يلقونه وهو عليهم غضبان, حيث يقول عنهم سبحانه وتعالى: ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُـونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَـبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِم الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّـهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْـخـََاسِرُونَ(.
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنَّ المؤمنَ من صَلَحتْ طويتُهُ واستقامت سيرتُهُ, وأنَّ المنافق من فسدت طويتُهُ, واعوجَّت سيرته. وبين هذا وذاك من أخذ من هذا بطرف ومن هذا بطرفٍ, فَخَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فما غلبَ عليه منهما فهو في حكمه. اللهم ثَبِّتْ قلوبنا على دينك, ووفقنا إلى طاعتك, وأصلح بواطننا وظواهِرَنا يا أرحم الراحمين.