لقد فطر الله عز وجل النفس الإنسانية على غرائز ضرورية ، لابدَّ منها لعمارة الأرض وازدهار الحياة.
فقد فُطر الإنسانُ على حبِّ البقاء؛ وذلك للمحافظة على النفس والبعد عن هلاكها.
وفُطر على الشهوة الجنسية ؛ وذلك لبقاء النوع الإنساني وعدم الانقراض.
وفُطر على الأبوة والأمومة ؛ وذلك لرعاية النسل والمحافظة عليه.
وفي ذلك يقول الحق جلَّ وعلا: ) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ (.
ومن المحبوبات التي فطر الله النفس الإنسانية عليها : حبُّ المال, والشغف به, والميل إليه، والاستكثار منه.
ولا شكَّ أن حبَّ المال ضروري لعمارة الأرض, فلولا المال لما عمل العمال, ولا صنع الصُّناع, ولا تاجر التجَّار.
فلو زَهِدَ كلُّ الناس في المال لتعطَّلت الحياة ، وضاع الاقتصاد، وهلك المجتمع, فحبُّ المال ضروري لبقاء الحياة وازدهارها.
ومع أهمية حبِّ المال لبقاء الحياة وعمارتها فإن النفس الإنسانية قد يدفعها حبُّ المال إلى الخروج عن الجادة المستقيمة إلى حدِّ الظلم.
فقد يدفع حبُّ المال صاحبه إلى السرقة, أو الرشوة , أو الاحتيال, أو عدم دفع الحقوق الواجبة, ونحوها من الأعمال والوسائل المحرمة.
فإذا بحبِّ المال – على هذه الصورة - يصبح نقمة على الإنسان والمجتمع ، حين ينطلق الجميع لإشباع نفوسهم من المال نحو المسالك المحرمة والممنوعة.
ومن أعجب فئات المجتمع المُحبَّةِ لجمع المال ، والمستكثرة منه دون حدٍ : فئة تُخرج الأموال من أصحابها بيسر وسهولة ، دون ضوضاء، أو اغتصاب ، أو سرقة , إنهم المتسوِّلون.
إنَّهم فئة من الناس اتخذت التسوُّل مهنة لها, فما على أحدهم من جهد كبير سوى أن يلبس ملابس رديئة ، ويظهر عاهةً بدنية ، ثم ينكسر أمام الناس ، ويمدُّ يده إليهم.
فإذا بهذه الفئة تحضر تجمُّعات الناس في مساجدهم ، وأسواقهم ، ومنتزهاتهم, ومستشفياتهم ، ومقابرهم يستجلبون عطفهم ورحمتهم.
وقد يستخدم هؤلاء وسائل متعددة لجلب العطف: كالكسور الجسيمة , وتشوهات البدن , والأطفال المعاقين , والملابس الرديئة.
ومنهم من يستخدم أسلوب الاتصال المباشر بالناس ، فيروي له قصَّة يستجلب بها عطفه, وربما أحضر أوراقاً مزوَّة ليثبت ذلك.
ولا شك أن بعض هؤلاء قد يكون صادقاً, ولكن جمعاً كبيراً منهم: محتال كما ثبت ذلك لدى الجهات المعنية.
فكم منهم من يدعي الفقر وهو غني, وكم منهم من يدعي المرض وهو صحيح, وكم منهم من يدعي السفر وهو مقيم ، وهكذا يبتدعون الحيل والروايات.
إن مشكلة التســـول مشكلة عالميــة تعاني منها جميع المجتمعات، ولا سيما الفقيرة منها والمتخلفة.
وقد تجد التسول أيضاً في الدول المتقدمة والغنية ، ولكنه يأخذ صوراً متطورة ، فقد تجد المتسول يعزف بآلة موسيقية للناس في الطريق فيعطونه ويتصدقون عليه.
وقد تجد المتسول يقف للناس يسرد عليهم جمعاً من النكات المضحكة ، والقصص اللطيفة ، فيضحكون ويستمتعون، ثم يلقون له بعض النقود.
وربما وجدت من المتسولين الجريء ، إذا لم تدفع له أظهر لك من تحت ملابسه سلاحاً فيضطرك لأن تدفع له.
وهكذا تتعدد صور الاحتيال والمكر، وكلُّها تصب في حب المال، والرغبة في الاستكثار منه.
أيها المسلمون : لقد حرَّم الإسلام التسول لغير ضرورة ملجئة تدفع صاحبه إلى السؤال ، وذلك لأسباب منها:
أن التسول فيه إظهار الشكوى من الله تعالى الذي قدَّر ذلك، حين يشكو المتسول حاله للناس .
ومنها أن في التسول ذلاً لغير الله تعالى, والمسلم لا يَذلُّ إلا للواحد الأحد , فقد خلقه الله عزيزاً كريماً.
في التسوِّل إيذاء أصحاب الأموال بإخراج أموالهم بغير طيب نفس, وقد نهى الإسلام عن أخذ الأموال من الناس بسيف الحياء.
ثم إنَّ النفس لن تشبع من المال مهما جمعت منه, فكم من هؤلاء الشحَّاذين تراه يتسول منذ سنوات طويلة ولا يشبع من جمع المال.
فاتقوا الله أيها الناس, وليحذر هؤلاء أصحاب اليد السفلى من خدوش في وجوههم يوم القيامة فقد قال عليه الصلاة والسلام: »لا تزال المسألــة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعةُ لحم «.
^ ^ ^
أيها المسلمون : ما هو الواجب لحل هذه المشكلة الاجتماعية ؟ يمكن هنا تلخيص ما يجب لحلها في النقاط التالية:
تفعيل دور الجمعيات الخيرية للوصول إلى المحتاجين وحلِّ مشكلاتهم .
عمل لجان خيرية في الحارات والمساجد لبحث حالات المتسولين، وعدم التعامل معهم بصورة مباشرة.
السعي في كفِّ حاجات المحتاجين ، وإغنائهم عن السؤال من خلال الزكوات والصدقات.
التعاون مع الجهات المختصة في الكشف عن شبكات عصابات التسول ، وتسليمهم إلى العدالة.
عدم الاغترار بحال الشحاذ وهندامه وعذوبة كلامه.
الحذر من وضع الزكاة عند غير أهلها.
الأصل أن المسلم لا يرد السائل ولكن إذا ترجَّحت مصلحة في رده, وكان هناك وسائل أخرى للوصول للمحتاج فالأولى رده.