الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي جعلَ الأُنسَ في ذكْره, والخيرَ في أمره, والفلاحَ في نهجه, أحمده على نعمه الكثيرة, وآلائه الجسيمة, وكرَمِهِ العظيم, ما سَأَلَهُ مُستغيثٌ إلا أغاثه, ولا استجارَ به خائفٌ إلا أجاره, الخيرُ في يديه, والشرُ ليس إليه. أشكُرُهُ على كلِّ نعمةٍ أنعمَ بها علينا في قديمٍ أو حديث, أو سرٍ أو علانية, أو خاصةٍ أو عامة. فهو أحقُ من شُكر, وأحقُ من عُبد, وأحقُ من ذُكر, فهو صاحبُ الفضلِ الأولِ والآخِرِ, وصاحبُ النعمةِ ظاهِرِها وباطِنِها, فالخيرُ من فيض إحسانه, والجودُ من كريم إنعامه. أتمَّ بفضله على المؤمنينَ النعمة, وحفظ برحمته الصالحينَ من النقمة, فألهَمَهُم حِفظَ الزمانِ من الإهدار, ووفَّقَهُم إلى اغتنام تعاقبِ الليلِ والنهار, حتى استقرَ في نفوسِهِم أنَّ الوقتَ هو الحياة, وأن الزمانَ رأسُ المال, فكان الوقتُ عندهم أثمنَ من الدراهم, والساعاتُ في حسِّهم أجلَّ من الكرائم, فكانوا على أوقاتِهِم أحرصَ منهم على أموالهم, يخافونَ من لصوصِ الأوقاتِ أشدَّ من خوفهم من لصوصِ الأموالِ, أوقاتهم محسوبة, وأزمانُهم مضبوطة, لكلِّ وقت فريضة, ولكلِّ زمانٍ وظيفة. حتى إذا ملَّ أحدُهُم من طولِ زمانِ الجدِّ, ودخلت عليه السَّآمةُ من شدَّةِ الضبط: تلهَّى في بعض أوقاته بشيء من المباح, يُجدِّدُ به روحَهُ, ويُنشِّطُ به ذهنَهُ, فأكلَ من لذيذ الطعام, وشربَ من باردِ الشراب, ونظرَ في الخُضْرةِ, وتفكَّهَ بشيءٍ من النكتة, وتندَّر بشيء من الطرفة. حتى إذا استجمعَ قواهُ في بدنه, وانشرح قلبُهُ في صدره, وتيقَّظتْ ملكاتُهُ في عقلِهِ: عاد من جديد إلى حياة الجدِّ والضبط. وهكذا المؤمنُ في حياته دائمُ الجد, حتى إذا احتاجَ إلى شيء من الترويح أخذ منه بقدر ما يجدِّدُ به نشاطه, ويدفعُ عنه السَّآمةَ والرتابة. وفي هذا القدر ضِمْنَ حدِّ المباح لا حرج في ذلك على المؤمن, فقد كان السلفُ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومَنْ بعدهم يتعاطون شيئاً من ذلك دون نكير, وقد أقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك, كما جاء في حديث حنظلة بن الربيع الأسدي رضي الله عنه حيث يقول: » كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوَعَظَنَا فذكر النار, ثم جئتُ إلى البيت فضاحكتُ الصبيانَ, ولاعبتُ المرأةَ, فخرجتُ فلقيــتُ أبا بكرٍ, فذكرتُ ذلك له, فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر, فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله نافقَ حنظلة, فقال: مه؟ فحدَّثتهُ بالحديث، وقال أبو بكـر: وأنا فعلتُ مثــل ما فعــل, فقـــال: يا حنظلةُ: ساعةً وساعةً, لو كانت تكونُ قلوبُكم كما تكونُ عند الذكر لصافحتكُمُ الملائكةُ حتى تُسَلِّمَ عليكم في الطريق «. إنها صورةٌ من صور الواقعيةِ في التعامل مع النفسِ البشرية حينَ تُقبلُ وحين تُدْبرُ, فلا تُتركُ لتتعمَّقَ في الجديةِ المفرطةِ حتى تخرجَ عن طبيعتها الإنسانية, ولا تُهملُ حتى تتفلَّتَ من واجباتِها المُلزمةِ حتى ترتكسَ في حمأةِ طبيعتها الحيوانية. إنها منهجُ الوسط الذي جاء به الإسلام, بين الإفراط والتفريط.
أيها الإخوة: إن هذا النهج الاعتدالي, والمســـلكَ الوسطَ الرباني لم يَرُقْ – للأسف- لغالب الناس, فبعضهم وهُمُ القِلَّةُ اختارت طرفَ التزمُّت والتشدد, فلم يعد للترفيه البريء إليها سبيلٌ, ولم يعد للترويحِ المباحِ إليها طريقٌ, حتى استوحشت أرواحُهُم, وقست أخلاقُهُم, وتحجَّرت طباعُهُم. فأتْعبوا أنفسَهُم بنهجِ الشدةِ, وآذوا من تحتهم بمسلكِ القسوة. فنفَّروا ولم يُبشِّروا, وعسَّروا ولم يُيَسِّروا.
وأما الصنفُ الآخرُ من الناس, وهم الكثرةُ الغالبةُ. لم يعرف الجدُّ إلى حياتِهِم سبيلاً, ولم يعرف الحزمُ إلى سلوكِهم طريقاً, فالتفلُّتُ نهجُهُم, والتفريطُ أسلوبُهُم. لا ينضـــبطُ أحدُهم إلا تحتَ سيف الســـلطان, ولا يجتهدُ إلا فيما يَدُرُّ عليه المال. إذا سألتهُ عن الحياةِ اختصرَهَا في نكتةٍ, وإذا سألتَهُ عن الزمانِ فسَّره في شهوة, فالدنيا في نظره لَعِبٌ ولهو. إذا كَثُرَ مالُهُ سارعَ في الشهوات, وإذا قلَّ مالُهُ تحسَّر على فوات الملذات. أحبُّ أوقاتِهِ إليه حينَ يحيــــا بلا تكاليـف, وأسعدُ أزمانِهِ إليه حينَ يتصرَّفُ بلا رقيب. فالعبثُ نهجُهُ, واللهوُ أُنسُهُ.
أيها الإخوة: إنَّ بعض الناس لا يُميِّز بين مجالات الترفيه: ما يُباح منها, وما لا يُباح, ولا يفرِّق بين أنواعِها: ما يضرُّ منها, وما لا يضر. فتراه ينطلق يتخيَّرُ منها ما يشاء, دون أن يراجعَ دينه, فيسألَ أهلَ العلم, أو حتى يستفتي قلبَهُ, أو يراجع ضميره.
ولقد دأَبَ كثيرٌ من الناس في فترات الإجازات الصيفية على الوقوع في كثير من المحاذير الشرعية, والمخالفات السلوكية, ظناً منهم أنَّ زمنَ الإجازةِ الصيفية يجوزُ فيه ما لا يجوزُ في غيره, فالنساء والأولاد يحتاجونَ إلى شيء من الترفيه يُخفِّفُ عنهم عناءَ طولِ السنة الدراسية, وجهد المدرسة, وربُّ الأسرةِ يحتاجُ إلى شيءٍ من الاستجمامِ بعد جهد أشْهُرٍ متواصلةٍ من العمل. فتحت وطأةِ هذه الحاجاتِ النفسيةِ والاجتماعيةِ: يندفعُ الآباء نحو وسائل الترفيه, ومواقِعِ الاستجمام دون رويَّةٍ, فتراهُ يجلبُ لهم من وسائل الترفيه واللهو ما لا يُستحسَنُ, ويتركُ لهم حريةَ تعاطي بعض السلوكياتِ الأخلاقيةِ التي لا تليق, ويسمحُ لهم بالتخفُّف من بعض الفرائضِ الشرعيةِ والواجباتِ الدينية. وكأنَّ الإجازةَ الصيفيةَ إعلانٌ عن رفع الأقلام عن المكلَّفِين, وإخبارٌ عن التجاوز عن المخالفين, وحجةٌ تَكُفُّ الناصحينَ والمصلحينَ.
ولعلَّ من أعظمِ المظاهر التي ارتبطتْ بالإجازاتِ الصيفيةِ: السَّفرَ إلى المناطقِ السياحية, حيث الخضرةُ, وبرودةُ الجوِ, والخدماتِ الترفيهية, والأسواقُ التجاريةُ, ونحوها من أسباب جذب السُّياح والمصطافين. ولئن كان مبدأُ السَّفر في أصله مباحاً شرعاً إلا أنه يصبح مكروهاً أو ربما محرَّماً بحسب ما يُخالطُهُ من المنكرات, وبقدر ما يرتبط به من المحرمات, بحيث يصبح السَّفر إثماً على صاحبه، ووبالاً على أسرته، كأن يسافر إلى بلاد الكفار، التي ليس للإسلام فيها سلطانٌ, أو يسافرَ إلى بلادِ تُعلَنُ فيها المنكرات, وتُشاعُ فيها الموبقات, أو يحضُرَ مواقعَ الصخب واللهو, والتبرجِ والسفور, حيث يُشاهِدُ تعاطيَ الكبائرِ, وإباحةَ الصغائرِ. فيُعرِّضُ نفسَهُ وأهلَهُ للفتنة والشهوة, ويجعلُ من دينه موضعاً للسخرية والاستهزاء, والله تعالى يقول: ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ(, ويقول أيضاً: ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: » أنا بريءٌ من كلِّ مسلم يُقيمُ بينَ أظهُرِ المشركينَ «, ويقول أيضاً: » لا تُساكنوا المشركين ولا تُجامعوهم, فمن ساكَنَهُم أو جامَعَهُم فهو مثلُهم«, ويقول أيضاً: »من أقامَ مع المشركينَ فقد برئت منه الذِّمَّة«, ويقول أيضاً: »برئت الذمةُ ممن أقامَ مع المشركينَ في ديارهم«, ويقول أيضاً: »من جامعَ المشركَ وسَكَنَ معه فإنه مِثْلُهُ«. وقد سُئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن قومٍ من المسلمينَ يسكنونَ مع قومٍ كافرين إلا أنهم ظاهرينَ عليهم بدينهم؟ فقال رحمه الله: » إن كانت أحكامُ أهلِ الإسلامِ ظاهرةً عليهم, وكانوا هم أقوى, فأرجو أن لا يكونَ بذلك بأسٌ, وإذا لم يكونوا, فلا يسكنْ بين ظهراني قومٍ يحكمونَ بغيرِ حكمِ الإسلام«. وقد سُئل شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في زمنه في القرن الثامن الهجري عن سفرِ الرجلِ بأهلهِ للنزهةِ والفرجةِ في مكانٍ يُشاهدُ فيه المنكر ولا يستطيعُ إزالته؟ فقال: «ليس للإنسان أن يحضرَ الأماكن التي يَشهدُ فيها المنكرات ولا يمكنُهُ الإنكار, إلا لموجبٍ شرعيٍّ مثلَ أن يكون هناكَ أمرٌ يحتاجُ إليه لمصلحة دينه أو دنياه, لابدَّ فيه من حضوره, أو يكونَ مُكْرَهاً, فأما حُضورُهُ لمجرد الفرجةِ, وإحضارِ امرأته تُشاهِدُ ذلكَ فهذا مما يقدحُ في عدالته ومروءَتِهِ إذا أصرَّ عليه». فاتقوا الله عباد الله, واحرِصوا على ما ينفعُكم, وتجنَّبوا ما يضرُّكم. أعوذ بالله من الشــيطــــان الرجيـم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّـهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(. أقول ما سمعتم وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وليِّ المؤمنين, وخالق الخلق أجمعين, ورازق الأولينَ والآخِرِينَ, وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, بلَّغَ الرسالةَ, وأدَّى الأمانةَ, ونصحَ الأمة, فجزاه الله عن أمته خير ما جازى نبياً عن أمته, وصلى الله عليه وعلى آله صلاةً دائمةً إلى يوم الدين, أما بعد:
فإنَّ السَّفرَ إلى مواقعِ الفسادِ لا تقتصرُ أضرارُهُ على الناحية الأخلاقية أو الدينية فحسب, بل تتعدى ذلك إلى النواحي الاقتصاديةِ والسياسيةِ, لما في ذلك من تقوية أهلِ الباطلِ بالمالِ الذي يُجلَبُ إليهم, وتكثيرِ سوادِهم, وإعانتِهم على منكراتهم.
أيها الإخوة: كيف يسوغُ لرجلٍ يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ, يعتقدُ بحرمةِ الخمرِ أن يحضرَ المواقعَ التي يُباع فيها الخمرُ ويُشرب, وكيف يسوغ له, وهو يعتقدُ حرمة التبرج والسفور, أن يحضرَ الأماكن التي يُشاهد فيها النساءَ المتبرجات المتهتكات, وكيف يسوغ له وهو يعتقدُ حرمةَ الملاهي والمعازف, أن يحضرَ التجمعاتِ التي يسمعُ فيها اللهوَ والطربَ وفاحشَ القـول , وكيف يســوغُ له وهو يعتقــدُ وجـوب إنكــار المنكــر بيـده أو بلسانه أو بقلبه, أن يحضرَ مواقعَ المنكراتِ بأهلِهِ وأولادِهِ وهو مُنشرحُ الصدرِ, مُبتهجُ النفسِ. إنها أسئلةٌ كثيرةٌ, لابدَّ للمسافرِ أن يسأَلَها نفسَهُ قبل أن يرحل, وأن يراجع فيها ضميرَهُ قبل أن يُغادر, ولْيعلم أن الواجبات الشرعية, والالتزاماتِ الأخلاقيةَ: لا تُنسخُ بالسفر.
أيها الإخوة : استمعوا إلى ما يقُولُهُ أحدُ المفكرين الغربيين, وهو يحذِّر بني قومِهِ البريطانيين من السفر إلى إيطاليا, وذلك في القرن السادس عشر الميلادي عندما كانت بريطانيا فيها بقيةٌ باقيةٌ من الأخلاق العرفية يقول: »إني لأعتقد أن الذَّهاب إلى إيطاليا خطرٌ, وأيُّ خطر, إني أعرفُ رجالاً غادروا إنجلترا ممن عُرفوا فيها بالحياةِ البريئةِ, عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسُهُم عن الاستقامةِ, ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبلَ سفرِهِم إلى الخارج. وكنت أنا نفسي ذاتَ مرةٍ في إيطاليا, وأحمَدُ اللهَ أني لم أمكث فيها إلا تسعةَ أيامٍ فقط, ومع ذلك رأيتُ في هذا الوقتِ القصيرِ في مدينةٍ واحدةٍ من الإباحيةِ والمجونِ والإثمِ ما لم أُشاهِدْهُ في تسعِ سنواتٍ في بريطانيا«.
فإذا كان هذا كلامَ رجل لا يؤمنُ بالله ولا باليومِ الآخِرِ عن بلادٍ لا تختلفُ كثيراً عن بلاده في دينها وعقيدتها فماذا تُراه يقولُ المسلمُ عن تلك البلادِ في هذا الزمان, فاتقوا الله عباد الله, ولا تستعينوا بنعمةِ الله على معصيتِهِ, فإنَّ قوماً عصوا الله تعالى فأذلَّهم بالفقر, وأضرَّهم بالزلازل, وأشعل بينهم الفتن.