تختلط لدى كثير من الناس مفاهيم التدين والالتزام الشرعي, فلا يعرفون من هو الشخص المتدين الملتزم بدينه.
فمن الناس من يظنُّ أن المتدين هو المحافظ على صلاته فقط.
ومنهم من يظن أن المتدين هو الفقير المعرض عن الدنيا.
ومنهم من يظنُّ أنه الدرويش الغافل ، صاحب المسْبحة الطويلة.
ومنهم من يظن أنه من أطلق لحيته وقصَّر ثوبه، والتزم بعض السنن.
ومنهم من يظن أن المتدين من انطلق يكفِّر المخالفين ، وينتصر للعقيدة.
ومنهم من يظن أن المرأة المتدينة هي المحجَّبة.
وهكذا كثير من الناس يحصرون التدين في جزئيات من الدين, وكأن الدين الإسلامي جاء لمجرَّد إقامة الصلاة فحسب, أو جاء لمجرَّد حرب الفرق الضالة, أو جاء لحث الناس على الأذكار والتسبيح, أو جاء لمجرد تحجيب النساء, أو جاء لإطلاق اللحى وتقصير الثياب.
نعم قد يقول البعض : أليس الذكر من الدين, وإطلاق اللحى من الدين, والحجاب من الدين, وتصفية العقيدة من أقوال الفرق الضالة من الدين, فنقول : نعم هي من الدين, ولكنها ليست هي الدينَ كلَّه.
إن الحقيقة التي يُغفلها المجزِّئون للدين – بعلم منهم أو بجهل – أن هذا الدين كلٌ لا يقبل التجزئة.
إن هذا الدين جاء ليصوغ الإنسان صياغة كاملة من جميع جوانب شخصيته, بحيث تنمو هذه الجوانب نمواً سليماً متوازناً, فلا يتضخَّم جانب على جانب, وإنما هو التوازن والاعتدال.
أيها المسلمون : إن هذا الدين لا يقبل من أتباعه حسن الخلق حتى يأتوا بالعقيدة السليمة الصافية.
ولا يقبل منهم الصدقة – مهما كانت كبيرة – حتى يأتوا بالصلاة.
ولا يقبل منهم الحبَّ في الله حتى يأتوا بالبغض في الله, فمن أحب لله فلابد أن يبغض فيه.
فأيُّ تدين عند شخص يُصلي الجماعة في المسجد ويأكل الربا.
وأيُّ تدين عند شخص أطلق لحيته وعقَّ والديه.
وأيُّ تدين عند شخص ذرفت عيناه عند قراءة القرآن، ثم ينطلق يسمِّر عينيه في وسائل الإعلام، ولا يتحاشى المحرمات.
إن هذه المتناقضات لا تجتمع عند المسلم ولا يرضى بها إلا حين يفهم الدين مجزَّأً مقطَّعاً, فتراه ينطلق في هذه الحياة لا يبالي أن يجمع بين قيام الليل ، والكلام في أعراض الناس.
ولا يبالي في الجمع بين الخشوع عند سماع القرآن ، وبين الطرب عند سماع الغناء الفاحش.
ولا يبالي حين يجمع بين صلة أصدقائه وزملائه, وبين قطيعة أرحامه وأقاربه.
فهو شخصية مظلمة من جانب, ومشرقة من جانب آخر, سوداء من جهة ، وبيضاء من جهة أخرى.
إن هذه الشخصية المتناقضة الراضية بتناقضها: مرفوضةٌ في التصور الإسلامي .
إن الإسلام دين الفطرة ، فلا يستغرب من المسلم أن يقع في خطأ من الصغائر أو الكبائر ، وإنما يستهجن منه الإصرار والاستباحة والاستخفاف بحدود الله , فكيف يتوبُ مثلُ هذا ؟
ولهذا تجد كثيراً من الناس يُصرون على المعاصي حتى آخر لحظات حياتهم, وما دفعهم إلى هذا الإصرار: إلا سوءُ الفهم للدين والتهاون بحدود الله, وظنُّهم أنهم على خير كثير, فلا تضرُّهم بعض الذنوب.
أيها المسلمون : إن هذا الدين لا يظهر جماله وكماله, ولا يُؤتي ثماره الطيبة إلا حين يعمل بأكمله كوحدة واحدة, وأما حين يُجزَّأ, ويقطع, فيؤمن أهلُهُ ببعضه ويكفرون ببعضه, فإن الأمة تُحرم ثماره وخيره وفضله.
^ ^ ^
أيها المسلمون : إن المتدين الحق هو الشخص الصالح في عقيدته, القائم بفروض الله تعالى, الواقف عند حدوده, يحب الله ورسوله والمؤمنين, يبرُّ والديه, ويصل رحمه, ويرحم أهله وولده, يعرف حق جاره, ويفي لصديقه, صادق الوعد, سليم الصدر, ليس بالبخيل ولا المبذِّر, وليس بالفاحش ولا البذيء, خيره قريب, وشره بعيد, يعود المريض, ويشهد الجنازة, ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, مشغول بعيوبه عن عيوب الناس, يحب المسلمين, يتألم لألمهم ويفرح لفرحهم, يرحم الصغير ويحترم الكبير, ويعطف على المسكين, يحب الجهاد والمجاهدين, يدفع الحقوق لأهلها, فرجه محفوظ وبصره مغضوض, لا حسد ولا غل ولا حقد. هذا هو المتدين على الحقيقة , فمن كان كذلك فليحمد الله, ومن لم يبلغ هذا فليجتهد ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (.