الخطبة الأولى:
الحمدُ لله عظيمِ الشَّأن, كثير العطايا والمنن, يجمعُ ويؤلِّف, ويُفرِّق ويُبغِّضُ, بيده قلوب العباد, وإليـــــه المنتهى والمعاد, ولا حول ولا قوة إلا به.
نحمدُهُ ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل, فلا هاديَ له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله, وارجو الله واليوم الآخر ولا تعثوْا في الأرض مفسدين.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (.
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِـــدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَــاء بَيْنَهُمْ (.
) إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (.
أيها الإخوة الكرام: إن من أشدِّ الحاجات ضرورةً للحياة الإنسانية, ومن أكثرِهَا تحقيقاً للسعادة, بحيث لا يقومُ مقامَها شيءٌ آخر, لا من المالِ, ولا من الجاهِ, ولا من السلطان: الأخوَّةَ في الله تعالى, التي تقوم على مبدأ الحبِ في الله, ولا تقوم على مبدأ الطَّمع في شيء من أمورِ الدنيا. والإنسان فقير إلى هذا النوع من الأخوة, مُحتاجٌ إليها حاجةً ملحَّة, فإن الغريب على الحقيـقة في هذه الدنيا هو الَذي لا حبيبَ له, فتراه دائمَ الحزنِ, طويــــلَ السَّأم, يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « الإخوانُ جلاءُ الأحزان »، ويقـول عليٌّ رضي الله عنه: « الغـريبُ من ليسَ له حبيب ».
إنَّ العلاقةَ التي تربطُ المتحابِّين في الله تعالى علاقةٌ واسعةٌ شاملة, تتخطى حدودَ الزمان والمكان, بل تتخطى حدود الأرض كلِّها, والوجودَ بأسره, لترفع الإخوانَ في الله تعالى إلى أعلى مراتب الجنان, يغبطُهُمُ النبيُّونَ والصديقون لمكانهم من الله تعالى. كما أنَّ هذه العلاقة تربط بين المتحابين في الله تعالى, ولو تباعدت بِهِمُ البلاد, وقامت بينهما الحواجزُ والأسبابُ، فإنَّ عالمَ الوجودِ بأسره لا يعدو أن يكون مجْلساً لأخوينِ حقيقيين في الله تعالى.
أيها الأخوة: إن الحبَّ في الله تعالى والبغض فيه: هما أوثقُ عُرى الإيمان, وأعظمُها وأقواها, ولا يذوق المؤمنُ حلاوة الإيمان, وطعمَهُ حتى يُحقِّقَ هذين المبدأين ؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان : أن يكون اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما, وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكْرَهُ أن يُقذفَ في النار ».
إنَّ أعْجَزَ الناس من قصَّر في تكوين الأصدقاءِ الصالحين, وأعْجَزَ منه من ظفرَ بهم ثم ضَيَّعهم ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « المؤمنُ مُؤلفٌ, ولا خيرَ فيمنْ لا يألفُ ولا يُؤلف» . وإن من أعظم أسباب الجفْوة بين الإخوان, ووجود الوحْشةِ بينهم: ارتكابَ المعاصي, فإنَّ العبدَ إذا قصَّرَ في جنبِ الله تعالى, وفرَّط في حقوقهِ جلَّ وعلا: سَلَبه اللهُ تعالى من يُؤنِسُهُ, وأدخل عليه الوحشة والوحدة, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسُ محمدٍ بيده ما توادَّ اثنان ففُرِّقَ بينهما إلا بذنب يُحدثُهُ أحدُهُما ».
أيها المسلمون: إنَّ اختيارَ الإخوة في الله تعالى, وإقامةَ أواصر المحبة معهم: ليس متروكاً للهوى والشهوات, بحيث يختارُ الإنسانُ من يهوى, وينبذُ من لا يهوى, فإنَّ الحبَّ في الله تعالى محصورٌ في أهل الطاعةِ والاستقامةِ, العاملين بأمر الله تعالى, المتعاونين على الخير والفضيلة، الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: »ألا أُخبرُكُم بخياركم وشرارِكُم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله, قال: خيارُكُمُ الذين إذا رُؤوا ذُكر اللهُ عز وجل, وشرارُكُم المشاؤونَ بالنميمة, المفرِّقُون بين الأحبة, الباغونَ للبرآء العنت«. ولما سُئل عليه الســلام: أيُّ الناس أفضل؟ قال: » كلُّ محْمُوم القلب، صدُوقِ اللسان, قالوا: صدُوق اللسان نعرفـــه, فما محمومُ القلب ؟ قال: هو التَّقـــي النَّقــي, لا إثم فـــيه, ولا بغيَ, ولا غِلَّ، ولا حسد «.
فهذا الصنف الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم للصداقة والمؤاخاة، الذي تتحدَّثُ جوارحُهُ بالاستقامة قبل أن يتحدث لسانه, والذي يعظُكَ لحظُهُ قبلَ أن يعظَكَ لفظُهُ, الذي إن رأيته: انتفعتَ برؤيته, وأثرَّ فيكَ سمْتُهُ وعملُهُ. فهو حاملُ المسكِ, الذي لا ينالُك منه إلا الخير.
فإذا ظفرت به فليكُن حُبُّكَ له أعظمَ من حبِّهِ لك, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما تحابَّ رجلان في الله, إلا كان أفضَلُهما: أشدَّهُمَا حبَّاً لصاحبه » . وعليك بإحسان الظن, فإن الظنَّ أكذبُ الحديث, فإذا تيقَّنت بصلاحه فلا يضرُّكَ الوسواسُ والظنُّ, وإن صَدَرَ منه الخطأ, فإن من حقوقِ الأُخُوةِ: العفوَ عن الزلاتِ, والإغضاءَ عن التقصير إن كان. فإن العفو عن الخطأ: من كمالِ الفتوةِ والمروءة . والمؤمنُ بطبعه يطلبُ المعاذيرَ, والمنافقُ بطبعهِ يطلبُ العثراتِ والتقصير.
وإذا أردتَ أن تعرفَ مكانتكَ عند أخٍ لك في الله, فلا تسألهُ عما في قلبه, ولكن انُظر أنت ما في قلبك له, فإن لكَ في قلبه مثلَ ذلك، قال مرةً ابن عباس رضي الله عنهما: « فلانٌ يُحبنى, فقالوا: وكيف عرفت ذاك؟ قال: إني أُحبُّهُ »، وقال رجلٌ لصاحبه: « إني أُحبُّكَ, قال: قد علمتُ ذاكَ من نفسي ».
إن من مستلزمات الأخوة في الله تعالى: ذكْرَهُ بالخير, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خيرُ الأصحاب عند الله: خيرُهم لصاحبه, وخيرُ الجيران عند الله خيرُهُم لجاره » . وقد كان السلف رضوان الله عليهم يراعونَ ذلك, فهذا أبو الدرداء رضــي الله عنه يقول: « إني لأدعو لثلاثينَ من إخواني وأنا ساجدٌ, أُسمِّيهم بأسمائهم وأسماءِ آبائهم«. وقال أبو زُرعة رحمه الله: »كنت عند أحمد بن حنبل, فذكر إبراهيمَ بنَ طهمان, وكان مُتكئاً من علةٍ يعني من مرض, فجلس, وقال: لا ينبغي أن يُذكَرَ الصالحونَ فيُتَّكأ ».
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, سيِّد الأولين والآخِرين, وإمامِ المتقين, محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فاتقوا الله عبادَ الله واعلموا أنَّ منزلةَ الأُخوة في الله تعالى عظيمة, ومكانَتَها عند الله كبيرة, حين يناديهم سبحانه وتعالى يوم القيامة: « أينَ المتحابون بجلالي، اليومَ أُظلهم في ظلي » . فإذا بهم في كنف الله تعالى ورحمته, في يومٍ تشخصُ فيه الأبصار, وتطيرُ فيه الأفئدة, وتتقطَّعُ فيه الأكباد, فإذا بهؤلاء المتحابين في أمن وأمان, وسلامةِ من الخوفِ والفزعِ, لا يخافون حين يخاف الناس, ولا يحزنونَ حين يحزنُ الناسُ.
أيها المسلمون : ما كان لهؤلاء لينالوا هذه المنزلةَ العظيمةَ بهوى أنفسِهِم, وراحةِ أبدانِهم, وسلامة جيوبِهم؛ بل كانوا في جهادِ أهوائهم, وكدِّ أبدانهم, وإنفاق أموالهم. فقد كان بعضُهم يصبر على جفوةِ إخوانه, ويُداريهم, ولا يُعامِلُهُم بما يكرهون. وكان بعضُهم يقومُ بخدمتهم ليلاً طويلاً دون ملل؛ بل إنَّ بعضَهم يقوم بالإشراف والإنفاق والرعاية لأبناء أخيه في الله بعد موته أربعينَ سنةً لا يكَلُّ ولا يَملُّ, يُعطيهم من ماله, ويتفقَّدُهُم في كلِّ يومٍ حتى لكأنه أبوهم فلا يفقدون من أبيهم إلا عيْنَهُ.
فهذه المجاهدات والصعوبات السلوكية: هي التي رفعتْ هؤلاء المتحابين إلى هذه المنزلة العظيمةِ, والمكانةِ الجليلةِ, وليست مجرَّدَ الميول القلبية, والرغباتِ النفسية, التي لا واقع لها, ولا تطبيق.
أيها الأخوة الكرام: إنَّ إهمالَ هذا المبدأ الإسلامي, والتقصيرَ في الأخذ به, والتعاملِ مع الناس بمقتضياته: لا ينتهي عند كونِ الإنسان: تَرَكَ الفضيلة, بحيث لا يأثم ولا يُؤاخذُ بتركها: إنما المشكلة تكمنُ في التجانس والتشاكُلِ بين المختلطين. فإن الناس يأْتَلفُون بالتشابه, ويتنافرون بالاختلاف ، »فالأرواح جنودٌ مجندةٌ: ما تعارف منها ائْتلف, وما تناكر منها اختلف«. فلابد من التشاكل بين الأصدقاء, ولابد من وجودِ قواسمَ مشتركةٍ بينهم يجتمعون, ويتَّحِدونَ عليها. وهنا تكمنُ المعْضلةُ, ويظهرُ الداء: فإن المرءَ على دين خليله, وإن ادَّعى غير ذلك, فإنَّ الطبع يسرقُ من الطبع الخير والشر. وما كان اللهُ عز وجل ليحشرَ رجلاً يوم القيامة في غير من أحبَّ. فإن الرجلَ مع من أحبَّ يومَ القيامة؛ يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: » لو أن رجلاً قامَ بين الركن والمقام, يعبدُ الله سبعين سنةً: لبعثهُ الله يوم القيامة مع من يُحب«. فلابدَّ لمن اجتمعوا في هذه الدنيا, أن يجتمعوا في الآخرة: إما في رضوان الله تعالى, وإما في سخطهِ والعياذُ بالله.
أيها الإخوة: قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: ) الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْـمُتَّقِينَ(, قال:
« خليلان مُؤمنان, وخليلانِ كافران, فمات أحدُ المؤْمنيْن, فبُشِّرَ بالجنةِ, فذكرَ خليلَهُ فقال: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمُرُني بطاعتك, وطاعةِ رسولِكَ, ويأمُرُني بالخير, وينهاني عن الشر, ويُنبئني أني مُلاقيكَ, اللهم فلا تُضلَّهُ بعدي حتى تُرِيَهُ كما أريتني, وترضى عنه كما رضيتَ عني, ثم يموتُ الآخرُ, فيُجْمَعُ بينَ أرواحهما, فيُقَال: ليُثنِ كلُّ واحدٍ منكما على صاحبه, فيقولُ كلُّ واحد منهما لصاحبه: نِعمَ الأخُ, ونعمَ الصاحبُ, ونعمَ الخليل. وإذا مات أحدُ الكافريْن: بُشِّرَ بالنار, فذكرَ خليلَهُ, فيقولُ: اللهم إن خليلي كان يأمُرُني بمعصيتك, ومعصيةِ رسولِكَ, ويأمُرني بالشر, وينهاني عن الخير, ويُنبئني أني غيرُ ملاقيك, اللهم فلا تهدِهِ بعدي حتى تُريَهُ كما أريتني, وتَسخَطَ عليه كما سَخِطتَّ عليَّ. ثم يموت الآخرُ: فيُجمعُ بين أرواحهما فيقال: ليُثنِ كلُّ واحدٍ منكما على صاحبه, فيقول كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه: بئس الأخُ, وبئسَ الصاحب » ، ثم قرأ عليٌّ رضي الله عنه: ) الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْـمُتَّقِينَ (.
اللهم أصلح قلوبَنَا, واغفر ذنوبَنَا, واجمع على الحق أرواحَنَا, واهدنا سبل السلام, وأخرجنا من الظلمات إلى النور برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, ودمِّر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمين, بفضلك يا أكرم الأكرمين, اللهم آمنا في أوطاننا, وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا ربَّ العالمين.
اللهم وَلِّ على المسلمين خيارهم, واكفهم شرَّ أشرارِهِم, واصرف عنهم كيدَ أعدائهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله إن الله يأمرُ بالعدلِ والإحسان, وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله يذكركـم, واشـــــكروه على نعمه يزدكـــم, ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.