الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(.
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(.
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (.
تتعاقبُ السنواتُ والشهورُ, وتنطوي الأيامُ والدهور, لتكشفَ زيفَ الحياة الدنيا, وتفضحَ بهرَجَها, لقد ابتسمت الدنيا لأصْحابها, وغرَّتهم بجمالها, فما لبثت طويلاً حتى كشَّرت عن أنيابها, وخانت أصْحابها, فإذا بالشيب يخطُ الوجوه, وإذا بالمرضِ يُرهقُ البدن, وإذا بالهُـزال ينْخِرُ العظام, فلم تعد اليدُ تقدرُ على البطش, ولم تعد الأرجلُ تقوى على الحمل, لقد ذهبَ الشباب, وخارت القوى, وضعفت الذاكرة, وكثرَ النسيان. فها هو الإنسانُ, قد ضعفَ بعد القوة, وهزُلَ بعد النشاط, ورقَّ بعد الشدة, لقد حواه سريرُ الموتِ بعد أن كانت القصورُ والدورُ لا تستوعبُهُ, لم يعدْ يستهلكُ من الدنيا إلا خروقاً تسترُ عورتَهُ, وطعاماً قليلاً يسدُ جوْعتَهُ, وقليل الماء يروي ظمأَه. لقد عجزَ الطبيبُ أن يؤخِّر ساعتَهُ, ويئسَ الحبيبُ أن يطيلَ مدته, حتى إذا دنت ساعةُ الفراق, وتصلَّبت الأطراف, وجفَّ اللسان, وحضرَ الرسلُ الكرام: تذكر سالفَ الأيام, كم من صلاةٍ ضيَّعها, وكم من مظْلمةٍ اقترفها, وكم من حُرْمة انتهكَها, أغراه الشبابُ بنشاطه, وألهاه الشيطانُ بملذاته, فلم يُعدَّ للسفر عُدَّته, فرَّط في الطاعات, وعكف على الملهيات, حتى إذا حضرَهُ الموتُ كان دعاؤه: ) رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ(, ) رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ(, إنها دعواتٌ وكلمات جوفاء, لا قيمةَ لها في مثلِ هذا الموقفِ بعد التفريط والتسويف. ويأتي القولُ الحق, والتقريع للمفرطين: ) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (.
أيها المسلمون: اثنانِ منْ لم يتعظْ بهما فلن يتعظَ بشيءٍ بعدهما: القرآن بما فيه من المواعظِ والعبر, وخبرِ الآخرة وأهوالها, والشيبُ الذي يُنذرُ بأفولِ عهدِ الشباب, والدنوِ من الآخرة, فمن لم يتعظ بالقرآنِ والشيبِ فلن يتعظ بشيءٍ بعدهما.
يا خسارةَ من ضيع أوقاته النفيسة في الأغراض الخسيسة, ويلٌ لمن ذهبَ عمره باطــلاً, في قيــلَ وقــــال, ) أَفَحَسِــبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَــاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (.
أيها المسلم : اغتنم مهلةَ الحياةِ قبلَ أن تأتيك ساعةُ الفراق, واغتنم صحةَ بدنِكَ قبلَ أن يُداهِمكَ المرض, واغتنم وفرةَ وقتكَ قبلَ أن تُحيطَ بكَ المشاغلُ, واغتنم زمن الشبابِ والقوةِ قبل أن يلْحَقَكَ الهرمُ والضعف, واستعن بمالكَ على طاعةِ الله, قبل أن يُحيطَ بك الفقر, فتنشغلَ بلقمة العيش.
أيها المسلمون: إن طولَ العمر مع حسنِ العمل ليسَ بقبيح، وإنما القبيح هو طولُ العمرِ مع سوءِ العمل، فإن عمرَ المؤمنِ لا يزيدُهُ إلا خيراً، وقد جاء في الخبر إن أكثرَ الناسِ ثواباً يوم القيامة المؤمنُ المعمِّر، وفي الحديث: « إنَّ من السعادةِ أن يطولَ عمر العبدِ ويرزُقَهُ اللهُ عزَّ وجل الإنابة ».
رأى أحدُ السَّلفِ الشيبَ في رأسه قدْ بدأَ فقال: « مرحباً بالحلمِ والعلم، الحمدُ لله الذي أخْرجني من الشباب سالماً » ، وجلس مرَّة أحدُهم إلى عالمٍ فقال : طابَ الموت، يعني أنه يتمنَّي الموت، فقال له العالم: « لا تفعل، لساعةٌ تعيشُ فيها تستغفرُ اللهَ خيرٌ لكَ من موتِ الدَّهر » .
دخلَ الخليفةُ سليمانُ بن عبد الملك المسجدَ فرأى شيخاً كبيراً هَرِماً فدعا به، ثم قال له: « يا شيخ أتُحِبُ الموتَ ؟ ، قال: لا، قال: لمَ ؟ قال: ذهب الشبابُ وشرُّه، وجاءَ الكبَرُ وخيرُهُ, فإذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدتُ قلتُ: الحمـــــد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا » ، وهكذا العقلاءُ الفطناءُ لا يحبـــونَ من الدنــــيا إلا ما كانَ قربـــــةً لله تعالى، لا يزيدُهُم طولُ العمُرُ إلا خيراً، قد ملؤوا الأوقاتَ بالطاعات، وعمَروا الآيامَ بالعبادات، فهنيئاً لهؤلاءِ بطولِ العمر.
اللهم بلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالــنا، وأحْينا ما دامتِ الحياةُ خيراً لنا، وأمتنا مادامَ الموتُ خيراً لنا.
اللهم تولَّ أمرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، واجعلنا من عبادك المتقين، واختم آجالنا بعملٍ صالح مُتقبَّل عندك، يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: ماذا يريدُ اللهُ تعالى بعذابِ عباده إن هم آمنوا واتقوا ، وأنابوا واخبتــــوا، ) مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( .
إنَّ اللهَ تعالى رحيمٌ بعباده، يستحيي من عبده المعمِّر، يشيبُ في الإسلام ثم يعذِّبه، بل إن المؤمن إذا ردَّه الله تعالى إلى أرذلِ العمرِ حتى يعجَزَ عن العمل : كتبَ اللهُ له أحسَنَ ما كانَ يعملُ في صحَّتِهِ وشبابِهِ، فكلُ ذلكَ خيرٌ للمؤمن، شبابُهُ خيرٌ له يعملُ ويجتهد فيه، وهرمُهُ خيرٌ له،لا يفوتُهُ الأجرُ، وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « الشيبُ نورُ المؤمن، لا يشيبُ رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكلِّ شيبةٍ حسنة، ورُفعَ بها درجة » .
أخي المسلم: لقد انقضى هذا العام، وذهبَ بما فيه، وسوفَ ينقضي العامُ الجديد، وسوفَ تنقضي أعوامٌ أخرى، ولكن في أحد هذه الأعوام القادمة سوف تكون أنتَ خبراً يُرْوى، وقصةً يذكرها الناس، ويتناقلونها في مجالسهم، فأيُّ عامٍ هو عامُكَ الذي لا تتجاوزه، فاستعد لعام تكونُ فيه خبراً ماضياً، قد دُوِّن اسمكَ في ســجلِ الأمــوات، اللهــم اختم لنا بخير, واجعل عاقبةَ أمرنا إلى خير.