الخطبة الأولى :
الحمدُ لله القائـل في كتابـه العزيـز: ) قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ(, وأشـهد أن لا إله إلا الله, جعل الدنيا فانية, لا تزنُ عنده جَنَاح بعوضة, وأشهد أن محمداً رسول الله, أحرصُ الناس على الآخرة, وأزهدُ الناس في الدنيا. ما من طريق خيرٍ إلا دلَّنا عليه, وما من طريق شرٍ إلا حذَّرنا منه, فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلمـوا أن الدنيـا دارُ من لا دار لـه, ويجمعُ لها من لا عقلَ لــه, فكـم من صريعٍ لها, وكـم من قتـيلٍ لها, فهي تتقلَّبُ في كلِّ حـين, لا صاحبَ لها ولا حبيب.
وقد وصفها الله عز وجل في كتابه بأوصافٍ واضحةٍ جليةٍ, بيَّن فيها هوانَها, وحقارتَها, وأنها دارُ اختبار, لا دارُ قرار, وأنها وضيعةٌ وليست بعظيمة, فقال سبحانه وتعالى: ) وَاضْرِبْ لَـهُم مَّثَلَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْـمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً (.
وقال أيضاً: ) وَمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَـهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْـحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (. وقال تعالى: ) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ(.
هذا وصف الله عز وجل للدنيا, فإنما هي لهوٌ ولعب, رغم ما فيها من الأموال, والدول, والعمارة, ونحوها إنما هي لهوٌ ولعب, لأنَّ الحياةَ الحقيقيةَ هي الحياةُ التي لا تفنى ولا تبيد, أما هذه الحياةُ الدنيا فإنها إلى زوال, فمهما عاش فيها المتنعِّمون, وقاسى فيها الكادِحُون, فإنما هم إلى دارٍ أخرى كاملة, فمنْ كانَ من أهل الخير – ولو كانَ من أشقى الناس في الدنيا – لم يذكرْ عند معاينة النَّعيم شيئاً من مأساة حياته, ومن كان من أهل الشر – ولو كان من أعظم الناس في الدنيا – لم يذكرْ عند معاينة العذاب شيئاً من نعيم الدنيا: ) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا من أهلِِ النار يومَ القيامة, فيُصْبغُ في النار صبغَة, ثم يُقَال له, يا بنَ آدم هل رأيت خيراً قط, هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويُؤتى بأشدِّ الناسِ في الدنيا من أهل الجنة, فيُصْبغُ في الجنةِ صبغة, فيقال له: يا بنَ آدم: هل رأيت بؤساً قط, هل مرَّ بكَ شدةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مرَّ بي بؤسٌ قط, ولا رأيتُ شدةً قط » . فهذه أيها الأخوة حقيقةُ الشقاءِ في الدنيا لأهل الخير, وهذه حقيقةُ النعيم في الدنيا لأهل الشر والكفر, فإنما هي أيامٌ, ثم ينقلبُ كلُ إنسانٍ إلى جزائِهِ ومصيرِه.
أيها الإخوة : هل يظنُ الذي يكدحُ لجمع المال من حلالٍ وحرام, أنَّه سوف يصلُ إلى الحد الذي يستغني فيه عن جمع المال, فيرتاحُ من عناء الكدح والتعب, إن الحقيقةَ تقولُ غيرَ هذا, فإن طالبَ الدنيا لا يشبعُ منها, ولو جُمعتْ له الدنيا من أقطارها, إلا أن يقذفَ اللهُ غناهُ في قلبه, فيُرَضِّيَه بما قسم, ويُزهِّدَهُ في الحطام . يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم موضحاً هذه الحقيقةَ النفسية, التي فُطرَ عليها بنو آدم: « لو كان لابنِ آدمَ واديان من مالٍ, لابتغى ثالثاً, ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب ». أيها الأخوة هذه هي الحقيقةُ التي قد يتغافل عنها البعضُ, إن طلب الدنيا لا ينتهي إلى حد, وحبَّ الخير لا مُنتهى له, فلا يزالُ الشَّرِهُ يطلبُ ويطلبُ, حتى يأتيَه أجلُهُ وهو على حالهِ من الطلبِ والشَّرَهِ, فلا يكُفُّهُ عن ذلك إلا ترابُ قبره, حين يكونُ المالُ وبالاً عليه, لا خادماً له عند ربه عز وجل.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من كانت الدنيا همَّهُ، فرَّق اللهُ عليه أمره, وجعل فقرَه بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتبَ له, ومن كانت الآخرةُ نيَّتهُ، جمعَ اللهُ له أمره, وجعل غناه في قلبه, وأتتْهُ الدنيا وهي راغمة »، ويقول أيضاً: « من جعل الهمَّ هماً واحداً, كفاهُ اللهُ همَّ دنياه, ومن تشعَّبتهُ الهمومُ, لم يبالِ اللهُ, في أيِّ أوديةِ الدنيا هلك ».
أيها المسلمون : إن همَّ الآخرة, إذا شغلَ المؤمنَ: أنساه همَّ الدنيا, وعناءها وكدرَهَا, وإذا انشغلَ بالدنيا, وحُطامِها, شغلته عن الآخرة, وكدَّرت عليه صفوة حياته, فمن حُرِمَها انشغل بجلبها, والسَّعيِ وراءَها, ومن جاءته الدنيا: شغلته بإصلاحِها وإدارتها.
أيها الإخوة: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى سعياً حثيثاً لتزهيد أصحابه في الدنيا, والتَّهوين من شأنها, فعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: « كنت مع الرَّكْب الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على السَّخلةِ الميتةِ, وهي الشاةُ الميتة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حينَ ألقوْها ؟ قالوا: من هوانِها ألقوْها يا رسول الله, قال: فالدنيا أهونُ على الله من هذهِ على أهلــها »، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: « لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جَنَاح بعوضة, ما سقى كافراً منها شربةَ ماء ».
فما بالُ كثيرٍ من الناس يتنافسونَ في هذا الحطام, يجمعونه من حلال وحرام, لا يبالي أحدُهُم من أين حصلَ على المال, فالغشُ والخداع, والاحتكارُ والربا, وأكلُ أموالِ الناسِ بالباطل, ينامُ أحدُهُم قريرَ العين, وفي جوفه الحرام, وفي ثروته مظالمُ للناس, في حين أنَّ الصالحينَ كان أحدُهم يتجنَّبُ الحلالَ مخافةَ أن يقعَ في الحرام, يقول الحسنُ البصري رحمه الله: « أدركتُ أقواماً كانت الدنيا تُعرضُ لأحدِهِم حلالاً فيدَعُها, فيقول : والله ما أدري على ما أنا من هذه إذا صارت في يدي » ؛ أي يخشى على نفسه التغيُّرَ والتبدل إذا صارت الدنيا في يده, وهي من الحلال, فكيفَ بمن يجمعها من الحرام, أما يخشى على نفسه, وعلى قلبه من الطبع والطمس, خاصةً في مثل هذه الأزمان, التي اختلط فيها الحلالُ بالحرام, وأصبح الدرهمُ الحلالُ عزيزاً, حتى أنك لا تكادُ تجدُ بين الناس من يتعاملُ بغير شبْهة, وقد رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: « سَيأتي عليكم زمانٌ, لا يكونُ فيه أعزُّ من ثلاثة: أخٌ يُستأنسُ به, أو سنةٌ يُعملُ بها, أو درهمٌ حلال » . فإذا بالدنيا تضيقُ على المؤمن التقي, حتى لا يجدُ ملاذاً يلوذُ به من الحرام, وتكالُبِ الناسِ على الحطام, وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: « الدنيا سجنُ المؤمن, وجنَّةُ الكافر » ، سجنُ ا لمؤمن لأنه يمنعُ نفسهُ من الشهواتِ المحرمة, وجنَّةُ الكافر, لما ينتظرهُ في الآخرة من عظيمِ العذابِ, وسخطِ الله تعالى.
فاتقوا الله عباد الله, وأعدُّوا ليومٍ تُسألون فيه عن القليل والكثير, والجليل والحقير, حين لا ينفع ندمٌ ولا حسرةٌ, إنما هي الجنةُ أو النار . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على خاتم النبيين, وسيِّدِ المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فاتقوا الله يا أيها الناس, واحرصوا على ما ينفَعُكم, وازهدوا فيما يضرُّكم. واعلموا أن العاقل الفطِنَ: من استغل دنياهُ واستخدَمَها في طاعةِ ربه, والشَّقيَّ من استغلَّته الدنيا واستخدمتهُ في طاعةِ الشيطان, وحزبِ أعداءِ الرحمن.
أيها الإخوة المسلمون: لقد كان الرَّجلُ يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, وهو راغبٌ في الدنيا, مُقبلٌ عليها, فيعملُ رسول الله صلى الله عليه وســلم على انتزاع حبِّ الدنيا من قلبـِهِ, فهذا حكيــــمُ بنُ خزام رضي الله عنه, يقول: « سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني, ثم سألتُهُ فأعطاني، ثم سألتُهُ فأعطاني ثلاثاً, ثم قال: يا حكيم, إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوة, فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ, بُوركَ له فيه, ومن أخذهُ بإشراف نفسٍ, لم يُبارك له فيه, وكان كالذي يأكلُ ولا يشبع, واليدُ العليا خيرٌ من اليدِ الســفلى . قال حكـيمٌ : فقلت: يا رسول الله والذي بعثكَ بالحق, لا أرزأُ أحـداً بعدكَ شــيئاً, حتى أفارقَ الدنيا – أي لا آخذُ من أحدٍ شيئاً – وكان أبو بكرٍ يدعو حكيماً إلى العطاء, فيأبى أن يقبلَ منه, ثم إنَّ عمرَ دعاهُ للعطية, فأبى أن يقبلَ منه شيئاً, … فلم يرزأ حكيمٌ أحداً من الناس شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوفي ». وهكذا ينتزعُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم حبَّ الدنيا من قلوب أصحابه, حتى يصلَ بهمُ الحدُ إلى الزهد في الحلال فضلاً عن الحرام, ولا شكَّ أن المالَ الصالحَ خيرٌ للرجل الصالح كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه « أن أبابكر رضي الله عنه: استسقى فأُتيَ بإناءٍ فيه ماءٌ وعسل, فلما أدناهُ من فيه بَكَىَ وأبكى من حولَهُ, فسكت وما سكتوا, ثم عاد فبكى حتى ظَنُّوا أن لا يقدروا على مسألته, ثم مسحَ وجهَهُ وأفاق, فقالوا: ما هاجكَ على هذا البكاء ؟ قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم, وجعلَ يدفعُ عنه شــيئاً, ويقول: إليــكِ عـني إليكِ عني, ولم أرَ معهُ أحــــداً, فقلت : يا رسول الله, أراكَ تدفـــعُ عنكَ شـــيئاً, ولا أرى معكَ أحداً, قال: هذه الدنيا تمثَّلت لي بما فيها, فقلت لها إليكِ عني، فتنحَّت وقالت: أما والله لئن أفلتَّ مني, لا ينفَلِتُ مني مَنْ بعدك, فخشيتُ أن تكون قد لحِقَتْني, فذاكَ الذي أبكاني ».
أيها الإخوة: لو كانَ في الدنيا وزينتِها خيرٌ لما رَغِبَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد عَرَضَ الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم, أن يُسَيِّرَ له جبالَ تُهامةَ ذهبـــاً, وبطحــاءَ مكة ذهـباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يا رب, ولكن أشبعُ يوماً وأجوعُ يوماً » . ولما نام عليه الصلاة والسـلام وأثرَّ الحصـــيرُ في جنبه, قال له عبدالله بن مسعود: يا رسول الله لو اتخذتَ لكَ – أي فرشاً ليناً– فقال: مالي وما للدنيا, ما أنا في الدنيا إلا كَراكِبٍ استظلَ تحتَ شجرةٍ, ثم راحَ وتَرَكَها ». وكان يقول عليه الصلاة والسـلام لعائشة: « يا عائشة إن أردتِ اللحوقَ بي فلْيكْفِـكِ من الدنـيا كزادِ الراكب, وإياكِ ومُجالســـَةَ الأغنـياء, ولا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه » ؛ أي لا تستغني عن ثوبٍ حتى ترقعيه. وكان عليه الصلاة والسلام يدعو يقول: « اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين ». وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله ابن عمر: «كنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ, أو عابرُ ســـبيل, وعُدَّ نفسَكَ في أهل القبور ». قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: « والله ما وضعتُ لبنةً على لبنة, ولا غرستُ نخلة, منذُ قُبضَ النبي صلى الله عليه وسلم ».
وجاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: « ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال: ألك امرأةٌ تأوي إليها ؟ قال : نعم، قال: ألك مسكنٌ تسكُنُهُ ؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء, قال: فإنَّ لي خادماً, قال: فأنت من الملوك ».
اللهم رضِّنا بما قضيت لنا وقسمت, وحبِّب إلينا الآخرة, وكرِّه إلينا الدنيا وزينتها, واجعل ما رزقتنا عوناً على طاعتك, واجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا, اللهم أصلح أحوال المسلمين, واكْفِهِم شرَّ الأشرار, وبلِّغهم فيما يُرضيك آمالَهم, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل اللهم ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع هداك طالباً رضاك يا رب العالمين, اللهم انصر المسلمين في كل مكان بفضلك يا أرحم الراحمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.