مقال شهر جمادى الأولى 1435هـ
الرجل الجوكر
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وخاتم النبيين ، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فقد يتعجَّب بعضهم ، أو ربما يستنكر تخصيص مقال عن الجوكر ؛ لكونه لا ينتمي إلى تراثنا الحضاري ، باعتباره كلمة أجنبيَّة دخيلة على ثقافتنا ، فهي متداولة عند لاعبي الورق ( الكوتشينة ) ، يعرفونها تماماً ، ويفضِّلون الحصول على ورقتها في بعض أنواع ألعاب الورق التنافسيَّة ؛ وذلك لأن ورقة الجوكر تقوم مقام أية ورقة أخرى وتعوِّض فقدها ، لذا يستحسنها اللاعبون المتنافسون .
وعلى الرغم من تصوير بعض الأفلام الخياليَّة الحديثة لشخصيَّة الجوكر على أنها شخصيَّة قوية ومقاتلة ومنافسة ؛ فإن الصورة التقليديَّة له في أوراق اللعب ، هي الصورة الغالبة والشائعة للجوكر ، فهو شخصيَّة مرنة ، تصلح لكلِّ شيء ، فتكمل كلَّ نقص ، وتعوِّض عن كلِّ خلل .
وإذا ما نزِّلت فكرة الجوكر على واقع الحياة الإنسانيَّة ، وجدنا شخصيَّة الجوكر التقليديَّة حاضرة بقوَّة ؛ فالشخصيَّة التي تُستخدم في كلِّ شيء موجودة ، حتى إن الناظر في بعض الشخصيَّات العربيَّة المعاصرة يدخله العجب ، من حجم قدرتها الفائقة على التأقلم والتشكُّل والتوافق ، وسعة تشعُّبها في مفاصل الحياة : السياسيَّة ، والاقتصاديَّة ، والإداريَّة ، وربما بلغت مرونة الشخصيَّة ببعضهم إلى أن يلج الشؤون الطبيَّة والهندسيَّة والزراعيَّة ، فضلاً عن الشؤون التعليميَّة والتربويَّة والاجتماعيَّة ، بل إن بعض الشخصيَّات الجوكريَّة لتستعدُّ جاهزة متدرِّبة لما لم تنلْه – ولن تنالَه - من شؤون الحياة ، تحسُّباً لما قد يُسند إليها ، مما لا يصلح – حسب ظنِّها - إلا لها !!
إن هذه الصورة القاتمة للوضع العربي - في غالب أحواله – تدلُّ بشدَّة على نضوب الشخصيَّات القياديَّة الصالحة لإدارة شؤون الحياة ، وضعف آليَّات البحث الدقيق عن الشخصيَّات الواعدة ، وخور العزائم عن اتخاذ القرارات الجريئة ، مع إيثار السلامة في الإبقاء على الجواكر الآمنة في إدارة الحياة ومرافقها العامة ، مهما بدر منها من القصور الإداري ، وظهر عليها من الرعونة الأخلاقيَّة .
لقد بلغ العرب الرقم القياسي في أعداد الشخصيَّات المتحفيَّة ، التي انتهت صلاحيَّتها منذ عقود ، ومع ذلك تقاوم الفناء ، وتصارع الموت ، وتأبى الظل ، فهي حاضرة في كلِّ محفل ، شاهدة في كلِّ مناسبة ، قائمة في كلِّ نادٍ ، فقد أعدَّت سلاحها ، وشدَّت عتادها ، وجهَّزت أدواتها ، ثم أرعت سمعها ، وفتحت عينها : تنتظر التكليف ، وتروم الإدارة ، وتأمل السلطة ، فهي من كرسي الإمارة إلى نعش الجنازة بلا إجازة .
ومن عجيب القدر - في شأن شخصيَّة الجوكر - أنها شخصيَّة معمِّرة ، تطول بها الحياة ، فتصل الأجيال بعضها ببعض ، وتدوم لها الصحَّة العامة بإذن الله تعالى ، حتى تبقى كما عُرفت ، فلا تتغيَّر إلا قليلاً ، ولا تنحني إلا مرة واحدة لا ثانية لها ، كحال شجرة الأرز ، حين يأذن الله تعالى بأفولها .
ومع كلِّ هذا التعمير ، وطول البقاء ، ودوام الحركة ، فهي قليلة البركة ، فلا يلمس الناس عطاءها ، ولا يعرفون بلاءها ، ولا يفهمون معنىً لطول لبقائها ، فلا يدرك ذلك على الحقيقة ، ولا يفهمه على الصحيح إلا صاحب القرار ، فيبقى ذلك سرَّا من الأسرار !
وليس هذا قاصراً على القيادات العليا ، بل هو واقع قائم حتى في أصغر الإدارات والمؤسسات العربية ، حين يغيب استحضار المصالح العامة ، أمام حجب المصالح الشخصيَّة الضيِّقة ، فلا يبصر صاحب القرار إلا حدَّ أنفه ، ولا يعرف من مجتمع إدارته إلا المتزلِّفين ، ممن يحسنون القول ، ويسيئون العمل ، فلا يزال أحدهم يُركَّب في مفاصل الإدارة هنا وهناك ، وينقل من موضع إلى آخر ، وما هي إلا أزمنة يسيرة تحسب بالساعات ، حتى ينطلق هذا الجوكر فيدلق خبراته الطويلة أمام الجماهير المستغفلة ، يتحدَّث حول هذا المرفق ، وما يحمله من المعلومات الجليلة حول أدائه وتطويره .
إن الأمة تخسر في كلِّ يوم يمضي طاقة واعدة من طاقاتها ، وتحرم قيادة صالحة من قياداتها ، وتتأخَّر كثيراً عن ركب الحضارة ، حين لا تحسن الاختيار للأصلح ، ولا تراعي المصالح للأنفع ، فتغيب غيبوبة عميقة عن مصالحها الحيوية ، وتغفل غفلة كاملة عن أسباب نهضتها ، في ظلِّ نفوذ الجواكر الماكرة ، وتسلُّطهم على مصالح المجتمع .
ولئن كان خطر الجوكر كبيراً على مقدَّرات المجتمع بصورة عامة ، فإن الخطر الأكبر يلحق الناحية الدينية بصورة أشدَّ ، حين تتلوَّن شخصيَّة الجوكر لتتأقلم مع الوضع الديني السائد ، فتلبس له لبوسه المناسب ، وتتعاطى أساليبه ومناهجه الشرعية ، فتتقن الدور الديني ، تماماً كما تتقن الأدوار الأخرى التي تُسند إليها ، باعتبار المسئوليَّة الدينية - في حسِّ الجوكر - مهمة للأداء الإداري ، تنتهي بانتهاء قرار التكليف ، فتتحوَّل المسئوليَّة الدينية من عبادة روحيَّة ، وتكاليف إلهيَّة : إلى وظيفة مهنيَّة لإشباع شهوات الجواكر المتسلِّطة .
إن الفطرة السويَّة التي تتمتَّع بها نفس المسلم : تدرك بسرعة شخصيَّة الجوكر ، وتتبيَّن بوضوح ألوانها المتجدِّدة ، وأشكالها المتنوِّعة ، فلا تخفى عورتها وراء ستور الزيف ، ولا تستتر ببهرج الدعاية ، فكلَّما تلبَّست شخصيَّته نمطاً جديداً : تبيَّنته الفطرة السويَّة ومجَّته ، وإنما تغيب الحقيقة عن المغفَّلين المستغفلين ، ممن يهوى الأوهام ، ويستطيب الظنون ، فلا يبصر الواضحات ، ولا يفهم المحكمات .
إن مهمَّة الجوكر الرئيسة تتمثل في أمرين اثنين ، الأول : هو محاولته إبقاء موقع نفوذه على ما هو عليه ، مع شيء من التطوير الشكلي للأداء الخدمي ، دونما مسٍّ لجوهر الفساد وقواعده ، التي تقوم عليها طبيعة الإدارة في دول العالم الثالث ، التي ينتفع من ورائها الكبراء المتنفِّذون .
وأما الأمر الثاني : فهو تسيير الأداء الخدمي لإدارته ، دون اختناقات شديدة يتذمَّر منها المواطنون ؛ بحيث يُبقي الجوكر على سمعته من جهة ، ويثبت للعامة – من جهة أخرى – صواب قرار وليِّ نعمته ، في اختياره لهذا العمل .
إن دهاقنة السياسة يتنفَّسون الفساد ، من خلال عملائهم من الجواكر الماكرة ، الذين يتيحون لهم الولوج إلى مصالحهم الباطلة في المواقع المختلفة ، دون عوائق ولا إزعاج ، في حين تأبى القيادات الشريفة القيام بهذا الدور الخائن الخسيس ، في استباحة مصالح المجتمع ومقدَّراته .
إن الشخصيَّة القيادية المشفقة تأبى أن تختصر ذاتها العزيزة في شخص صاحب القرار ، فتعيش وتقتات في ظلِّه ، وتبيت وتصبح في تمجيده ، فمصالح المجتمع أكبر بكثير من أن تختصر في شخص إنسان أياً كان ، ونفس المسلم أبيَّة ، لا ترضى بالمهانة والصغار .