مقال شهر ربيع الآخر 1435هـ
ترجمة الشعوب
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا وسيِّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن مفهومي الثقافة والعلم يختلط بعضهما ببعض عند بعض المثقَّفين ؛ فيقوم كلُّ واحد منهما – في تصوُّرهم - مقام الآخر ، فلا تفصل بينهما حدود المصطلحات ، ولا تحول بينهما حواجز المفاهيم ؛ لذا فقد يتنازع المتحاورون فيما يصحُّ تداوله من المعلومات والمعارف بين الشعوب ، وفيما لا يصحُّ تداوله ، وذلك بناء على تعريفهم لمفهومي الثقافة والعلم .
إن مفهوم الثقافة أخصُّ من مفهوم العلم وأضيق ، فهو شعوبيُّ النزعة ، وقومي الطبيعة ، وإقليمي الحدود ، ومتعدِّد بتعدُّد الثقافات ، ومتنوِّع بتنوِّع الملل والنحل ، ينتظم في نطاقه : العقائد ، والأديان ، والتصوُّرات ، والتقاليد ، والعادات ، واللغة ، وكلَّ ما من شأنه أنه خصوصيَّة قوميَّة لأمة من الأمم ، فيميِّزها بطابع شخصيٍّ خاص ، ونمط اجتماعي فريد ، تستقلُّ به عن غيرها ، مما يستحيل معه جمع الناس في قالب ثقافي واحد .
وما تزال الثقافة الأمميَّة ملهمة الشعوب ، وملهبة العواطف ، تجد فيها الشعوب امتداد تاريخها ، ولحمة وشائجها ، ومدد روحها ، فهي الإرث الشعبي العام ، الذي يصبغ المجتمع بطابعه القومي ، ويربط أفراده بعضهم ببعض ، برباط من العقائد والعواطف والوشائج ، التي تلحُّ على الجميع بضرورة البقاء ضمن دوائرها الفكرية والروحية والعاطفيَّة ، بحيث يشعر المنفرد عن المجموع بالاغتراب الذاتي ، والشرود النفسي ، والضيق الروحي ، الذي يهدِّده بالجفاف الاجتماعي ، الذي لا يطيقه الإنسان .
وأما مفهوم العلم فطابعه إنساني وليس بقومي ، يصلح لكلِّ الناس ، ويلائم كلَّ المجتمعات ، فلا يخصُّ أحداً بشيء ، ولا يميِّز أحداً بنمط ، الكلُّ أمام العلم سواء ، فلا يتأثر بمكتشف اكتشفه ، ولا ينطبع بمصنِّف وضعه ، إلا فيما يتعلَّق بالتفسير وأساليب التعبير ، وأفضل ما يعبِّر عن حياديَّة العلم ، ووقوفه في مركز الوسط بين جميع الناس هو العلوم الكونيَّة ، أو ما يُطلق عليها العلوم الطبيعيَّة ؛ كالفيزياء ، والكيمياء ، وعلم الأرض ونحوها ، فهذه العلوم لا تحمل عقائد مكتشفيها ، ولا تنصاع لاتجاهات مصنِّفيها ، فضلاً عن أن تحمل جنسيَّاتهم القوميَّة ، أو أخلاقهم الاجتماعيَّة ، فما سُمع قطُّ بالفيزياء الألمانية ، ولا بالكيمياء اليهودية ، ولا بالرياضيات الإسلامية ، في حين – وبالتأكيد – يعيش الناس صراع الثقافة الأمريكية ، ويعتقدون بوجود التربية الإسلامية ، والتربية النصرانية ، والتربية اليابانيَّة وهكذا .
ومن هنا يظهر الفرق الشاسع بين ما هو ثقافي أممي ، وبين ما هو علمي إنساني ، فالخلط بينهما خطير لا يقرُّ به أحد ، إلا عندما يغيب عن ذاته ، فيفقد حاسَّته القوميَّة ، وهويَّته الشخصيَّة ، حين يصبح جاهزاً للذوبان في الآخر ، عندما يكون قد وصل مع ثقافته القوميَّة إلى حدِّ العداء ، وهؤلاء يعدُّون في الأعراف الاجتماعيَّة والدوليَّة خونة من الدرجة الأولى ، فيُعاقبون بالمقرَّر في جرائم الخيانة العظمى .
والعجيب في الشأن العربي أن من يعادي ثقافته الإسلاميَّة ، وينابذ تاريخه القومي ، ويحطُّ من عطاء أمته الحضاري : لا يدخل ضمن زمرة الخائنين ، فضلاً عن أن يعاقب بما تقرِّره الشريعة بحقِّ المستخفِّين بالدين ، بل ربما خُلِّد اسمه في سجلِّ الأبطال القوميين !!
إن الدين – عند سائر الأمم – هو رأس الثقافة ، واللغة وعاؤها ، والحضارة إنما تؤسس على الثقافة واللغة معاً ، فلا ثقافة بلا لغة ، ولا لغة بلا ثقافة ، فالرابطة الفكرية بينهما أوثق وأشدُّ من أية رابطة بين اثنين ، ومازالت الثقافة تمتطي صهوة اللغة لتغزو الإنسان في صلب بنيانه الشخصي ، إلى أن تذوب في ذاته ، فتداخله إلى أعمق ما فيه ، وتجري منه مجرى الدماء في عروقه ، حتى يرتوي من معانيها ، ويتشرَّب من مبانيها .
ولطبيعة هذا التداخل الوثيق بين الثقافة واللغة أصبحت فكرة الفصل بينهما ضرباً من العبث الفكري ، الذي يحاول بعضهم تمريره على الشعوب المستضعفة ، باعتباره سبيل خلاصهم من ربقة التخلُّف والتبعيَّة ؛ إذ لا سبيل لهم – حسب زعمهم - إلى النهضة والتقدُّم إلا من خلال لغة المستعمر الحضاريَّة ؛ لكونها لغة العلوم والمعارف ، فبدلاً من ترجمة العلوم إلى لغات الشعوب : تُترجم الشعوب إلى لغات العلوم ، وبدلاً من تقريب العلوم إلى الشعوب : تُقرَّب الشعوب إلى العلوم ، في صورة من صور الاحتقار القومي ، والإذلال الشعبي ، وتعميق التبعيَّة للآخر .
إن من المستقرِّ منطقيًّا أن اللغة لا تأتي مفرَّغة من محتواها الثقافي ، وإنما تأتي مشبَّعة بأحسن وأخبث ما عند أهلها ؛ لذا فقد أدركت الأمة الإسلامية في نهضتها الأولى - زمن عافيتها ورشدها - هذه المفاهيم الثقافيَّة الخطيرة ، فسلكت نهج تطويع العلوم لا تطويع الشعوب ، فترجمت من العلوم والمعارف المتاحة آنذاك ، ما غلب على ظنِّها أنه مفيد ونافع .
وبغضِّ النظر عن تقويم هذا المشروع الحضاري ، بما له وبما عليه ؛ فإنه يبقى تجربة إسلامية فريدة ، احترمت فيها الأمة شخصيَّتها القوميَّة ، وراعت هويَّتها الدينيَّة ، وأبقت على عزَّتها الإسلاميَّة ، من أن تدنس بثقافة دخيلة ، ففصلت – من خلال الترجمة - العلم عن الثقافة ، وهكذا الأمم الراشدة في كلِّ عصر تميِّز بين الأمرين ، فتبقي على ثقافتها ، وتنتقي لمعرفتها .
والعجيب أن الغرب – زمن انحطاطه - حين تثاقف مع الحضارة الإسلامية : أتقن مهارة الانتقاء بحنكة كاملة وخبث ، حتى حين أخذ عن التشريعات الإسلامية ، التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة والأخلاق ، ومع ذلك استطاع - بكل مكر ودهاء - أن يفصل بين الشريعة والمشرِّع ، فيستلَّ الحكم الشرعي من سياقه الروحي الإيماني ، ليزرعه مادة بلا روح ، ضمن طائفة قوانينه الوضعيَّة ، في الوقت الذي تعثر فيه المسلمون المعاصرون في نهج انتقائهم عن الغرب ، فبدلاً عن الانتقاء الراشد الحكيم : اكتفوا بالتقليد الأرعن ، الذي تأباه كلُّ الأمم التي تحترم نفسها .
إن الأمة التي تروم النهوض بلغة غيرها ؛ إنما تقيم كياناً هجيناً مخلوطاً ، لا يخلص إلى شيء سوي ، ولا ينتهي إلى تقدم ورقي ، فإن دولاً في أفريقية المعاصرة ، بكامل شعوبها ومؤسساتها ، تتحدَّث وتكتب بلغات العلوم الحضارية المعاصرة ، ومع ذلك تقبع في قاع مستنقع التخلُّف ، وتصفُّ في ذيل الركب الحضاري - إن كان له ذيل - فلم تنفعها رطانة الأعاجم في الخروج من سجن التخلُّف والتبعيَّة ، في حين أن دولاً أخرى معاصرة ، متعصِّبة لثقافاتها القومية ، ولا تتقن شعوبها لغات العلوم الحضاريَّة ، ومع ذلك استطاعت أن تنجز في الميدان الاقتصادي ما يشبه الأسطورة ، وأن تثبت وجودها بقوَّة بين الدول المتقدِّمة ، مستفيدة في ذلك من حضارة الغرب ، ولكن بالقدر الذي يؤهِّلهم للانطلاقة الذاتيَّة ، وليس هو القدر الذي يبقي عليهم قابعين في سلك التابعين .
ومما يشير إلى ذلك برامج الابتعاث الخارجيَّة ؛ ففي الوقت الذي استفادت فيه دول شرق آسيا من بعثاتها إلى الغرب الحضاري : تحوَّل الابتعاث العربي من أداة لنقل العلوم والتقنية ، بهدف تحرير إرادة الأمة الإسلامية ، وفتح الطريق أمامها للتأسيس للنهضة والتقدُّم والتنافس : إلى صورة جديدة من صورة ترجمة الشعوب ، ممثلة في طائفة من مثقَّفي الأمة وروَّادها ، فما إن يعود أحدهم إلى وطنه الأم في هيئة موظَّف لنقل المعرفة ، حتى يحنَّ من جديد إلى موطن رضاعه الثقافي ، وها هم الباحثون منهم – لا سيما في مجالات العلوم الطبيعيَّة والطبيَّة – إذا درَّس أحدهم رطن بالأعجميَّة ، وإذا عزم على البحث العلمي : هرع إلى مرضَعه العلمي من جديد ، في رَضاع طفولي طويل ، لا فطام معه ولا فصال ، فعاد المبتعثون العرب آصاراً جديدة لتكبيل الأمة ، وربط مقدَّراتها ومصالحها بالغرب وثقافته ، أما من كان منهم مخلصاً لأمته ، مبدعاً في ذاته ؛ فإنه مقموع محبط ، تحت أنظمة الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
وهذا يحصل في الوقت الذي بُحَّت فيه أصوات المجامع اللغوية العربية ، على ضرورة ترجمة علوم التدريس الأجنبيَّة إلى العربية ، فبدلاً من أن يكون المبتعثون أداة الترجمة الأولى لنقل العلوم ، إذا بهم رسل أمناء للغة المستعمر وثقافته ، مع ما ينثرونه بين طلابهم من المعرفة العلميَّة المحدودة ، التي تؤسس للتقليد مرة أخرى ، ولا تؤسس للإبداع ، ضمن حلقة مفرغة من عثرات التنمية .