مقال شهر ربيع الأول 1435هـ
الأزمة العاطفيَّة في تأخير سن الزواج
إن من بين قائمة الدوافع التي تسوق بعض الفتيات للعمل هو تأخير سن الزواج ، حين يطول عليهن انتظار الشباب ، الذين حبستهم أنظمة التعليم ، وأساليب التدريب ، وحاجات سوق العمل : عن أن يتأهَّلوا للحياة الاجتماعية ، والشروع في بناء الأسرة المستقلَّة , فيمكث أحدهم سنوات متعاقبة ، يكافح ويصارع للحصول على المهارات والمسوِّغات اللازمة ؛ للتأهُّل لشغل الوظائف والأعمال المتاحة ، في القطاعين الحكومي والأهلي ، ومن ثمَّ يمكنه أن يحصل على شريكة حياته ، التي طال بها الانتظار والأرق ، حتى كاد يدخلها اليأس والملل ، فأخذت - هي الأخرى - تعمل على الحصول على الشهادات والمهارات ، تتسلَّى بها زمن انتظارها ، وتتحصَّن بها في حال عنوستها وقنوطها ، وربما اشتغلت بالوظائف المتاحة لها ، ريثما يحضر الكفء المنتظر ، المخلِّص المحترم .
ورغم الحاجة الملحَّة إلى التسريع من وسائل وأساليب تأهيل الشباب لأسواق العمل ، إلا أن شروط العمل القاسية في تزايد مستمر ، والأنظمة التعليمية في تعقيد متصاعد ، مما يعطِّل فرص الزواج الطبيعي المبكِّر ، عند بوادر دوافعه الملحَّة ، فيمكث الفريقان - من الشباب والشابات – سنوات من الحرمان العاطفي عن اللقاء الفطري المشروع ، وأعواماً من العطالة الفطريَّة الطبيعية ، عمَّا أذنت فيه الشرائع السماويَّة عامة ، وحثت عليه الرسالة المحمديَّة خاصَّة .
وإن الناظر في يسر الشريعة الإسلامية في شأن الزواج ، واعتمادها أسهل الشروط وأرفقها بالأزواج : ليهوله حجم الأغلال والآصار الاجتماعية والاقتصادية ، التي تكتنف مشاريع الزواج بصورة عامة ، ومشاريع الزواج المبكِّر بصورة خاصَّة ، وكأن الفطرة الربانية ، التي قدَّرت زمن انبعاث الشهوة بالبلوغ الجنسي كانت خطأ فطرياً !
إن من طبيعة النشاط الجنسي أنه لا يقبل التأجيل أو التأخير ، إلا ضمن ظرفي : العجز أو المجاهدة ؛ فالعجز قصور القدرة الجنسية ، وأما المجاهدة فعلو العزيمة الإراديَّة ، وكلاهما يعين على تأجيل الزواج ، فالأول لضعف الدافع الشهواني ، والثاني لقوة الكابح الخلقي .
ولئن كانت هاتان الفئتان – المجاهدة والعاجزة - قد كفتا المجتمع قبيح نزواتهما الصبيانيَّة ، وسوء سقطاتهما الطفوليَّة ؛ فإنهما لا يستوعبان من الفتيان والفتيات إلا العدد القليل ، فالسواد الأعظم فائر منفلت ، فليس هو بعاجز ولا مجاهد ، ومع هؤلاء المتشوِّقين والمتشوِّفين ، من الثائرين والثائرات : تكمن أزمة المجتمع العاطفيَّة ، فتلاقي المجتمعات من فوراتهم ، وتكابد من نزواتهم ، ما يؤرِّق مضاجع المصلحين ، ويقلق أذهان المسئولين .
إن الغرائز الفطريَّة لا تسمح بالمزاحمة ، ولا ترضى بالمنافسة ، فهي غلابة لمن نافسها ، قويَّة على من زاحمها ، فلابد من احترامها ، ورعاية مكانها ، وتأطير مسارها ، ضمن ما يخدم الحياة ، ويبني الحضارة ، ولهذا أحاطت الشريعة الإسلامية هذه الغرائز بالأحكام ، وضبطتها بالشرائع ، وأحكمتها بالقيود ؛ لتبقى ضمن حدودها المشروعة ، وأطرها المباحة ، تعطي عطاءها الفطري ، في بناء الإنسان ، وعمارة الحياة ، ومن ثمَّ قيام الحضارة .
غير أن الواقع الاجتماعي المشهود ، لم يعد يترك مجالاً للشكِّ : أن عالم اليوم هو عالم الغرائز الطليقة ، فما من غريزة من غرائز الإنسان – مما يفتقر إلى ضبط – إلا ووجدت لها في الواقع الاجتماعي ما يدعمها ، ويثير دافعها ، ويؤجِّج أوارها ، حتى عادت المجتمعات المعاصرة – في غالب أحوالها – ساحات للتنافس الغرائزي ، وميادين للانحطاط الشهواني .
ورغم النتائج الوخيمة التي تعاني منها مجتمعات اليوم ، من جرَّاء الانفلات الغرائزي ؛ فإن المؤشرات الواقعيَّة تشير بقوَّة أن المجتمعات لا تسعى للإصلاح الجذري للأزمة ، بقدر ما تنشط لمعالجة آثارها ونتائجها ، باعتبارها مشكلات أخلاقية طبيعيَّة لابد حاصلة في جميع المجتمعات البشرية ، فلا فكاك منها ، وإنما السبيل المتاح هو في التخفيف من آثارها ، والسعي في معالجة نتائجها .
ولهذا تُمعن غالب مجتمعات اليوم في التأجيج الجنسي ، من خلال الوسائل الإعلامية ، والدعاية التجارية ، وتخفيف القيود في العلاقات بين الجنسين ، بمعنى أنها تسير نحو إشباع الغريزة المتوقِّدة ، التي لم يعد يحكمها شيء من الشرائع السماوية ، ولا الآداب الاجتماعيَّة ، ولا الأخلاق المرعيَّة ، وإنما الضابط فيها شخصيٌّ فردي ، محدود بأعيان الناس ، فلا يتجاوز الإنسان منهم إلى الجماعة ، مما يضعف اتجاه المقاومة لتيَّارات الفساد والإفساد .
إن كثيراً من المنتفعين بالتجارة الشهوانيَّة : لا يسعدهم إشاعة الآداب والأخلاق والقيم في المجتمع ؛ لكونها تضعف من موارد سحتهم المالي ؛ فإن التقيَّ لا يزني ، والأديب لا يخادن ، والخلوق لا يسافح ، فهؤلاء المستقيمين لا يدعمون خزائن أباطرة التجارة ، وأساطين الإعلام ، ودهاقنة الاقتصاد ، ولهذا ترصد الأموال الطائلة ، وتخصَّص الاستثمارات الكبيرة في الشهوات ، لا سيما شهوتي الفرج والفم ، فالناظر يجدهما أكثر الشهوات انفلاتاً من القيود الأخلاقيَّة ، والالتزامات الشرعية .
وفي هذا الخضم المتلاطم من القبائح المشاعة ، والرذائل المتاحة : يحيا الشباب ليحلُّوا وحدهم وبمفردهم أزمة التناقض الخلقي ، بين القيم والمبادئ الواجبة ، وبين الواقع المتردي ، فكم حجم أعداد الشباب الصامد أمام موجات التخريب ؟ بل كم هو حجم الكهول الصامدين ، أمام فتنة الإغراء والإغواء ، التي تجتاح مجتمعات العصر ، في ظلِّ سيطرة العولمة الثقافيَّة والاقتصاديَّة ؟
وعلى الرغم من أن مشاريع الزواج المبكِّر وحدها لا تستأصل الأزمة العاطفيَّة وتداعياتها من جذورها ، إلا أنها – بكلَّ حال – تخفِّف منها بأسلوب مشروع ، فلو تعدَّلت الأنظمة التعليمية ، ومراحلها المدرسيَّة المتدرِّجة , لتوافق سن البلوغ الجنسي من جهة ، وتوافقت مع طبيعة حاجات أسواق العمل المتاحة من جهة أخرى , ابتداء من مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي ، ليصبح هدفهما : ( الإعداد للحياة ) , وليس الهدف منهما : ( الإعداد للجامعة ) ؛ بحيث يتأهَّل الشاب مبكِّراً للحياة العمليَّة والزواج ، وتكوين الأسرة المستقلَّة ؛ فإن هذا المقترح من شأنه أيضاً تأهيل الفتيات مبكِّراً للزواج في مقتبل العمر ، قبل أن يُستهدفن بمؤسسات التوظيف ، وأسواق العمل ، فلا يطول عليهن انتظار الشباب ، فإن الشاب حين يتأهل اقتصادياً ، فإنه مباشرة يتأهل ليكفل فتاة من بنات المجتمع .