مقال شهر صفر 1435هـ
التكفيريُّون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة ، وعلى الآل والأزواج والصحب الكرام ، أما بعد ... فمنذ أن بعث الله تعالى رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام الخالدة : والناس منقسمون بشأنها إلى فئات ؛ فمنهم المؤمنون ظاهراً وباطناً ، يقيمون الشعائر ، ويلتزمون الأوامر ، ويعملون في طاعة ربهم عزَّ وجلَّ ، وهؤلاء بأفضل المراتب ، وأحسن المقامات .
وفي مقابل هؤلاء فئات الكافرين ؛ الأصليين منهم والمنافقين الخلَّص ، فهؤلاء بأخبث المنازل ، وأقبح المراتب ، سواء من أبطن الكفر أو جهر به ، فهما سواء في الضلال ، لا حظَّ لهم في الآخرة .
بيد أن فئة أخرى تتوسَّط الفريقين ، ليست بكافرة ولا منافقة ، كما أنها ليست مؤمنة كاملة الإيمان ، وإنما يُعرف منها الخير والشر ، والحق والباطل ، والاستقامة والغواية ، قد خلطت عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً ، فهؤلاء – في معتقد أهل السنة والجماعة – مسلمون ، ولهم من الإيمان بقدر ما وقر في قلوبهم من درجاته ، ولهم من الخير - عند ربِّهم – بقدر ما اكتسبوا من الصالحات ، وهم في الآخرة تحت مشيئة الله تعالى ، فإن شاء رحمهم بفضله ، وإن شاء عذبهم بعدله ، ثم هم - بكلِّ حال – إلى عفو الله ماضون ، وفي مستقرِّ رحمته ماكثون .
في شأن هذه الفئة الثالثة : هلك التكفيريُّون ، وسقط المارقون ؛ فعطبت عقولهم ، وصدأت فهومهم ، عن أن يستوعبوا عقيدة أهل السنة والجماعة بشأن هؤلاء ؛ فرفضوا أن يقبلوا بهم في صفِّ المسلمين ، واستنكفوا أن يشملوهم برحمة ربِّ العالمين ؛ لأن الناس – في نظرهم القاصر – إما مؤمنون مستقيمون ، وإما كافرون منحرفون ، فلا يُتصوَّر عندهم أن يجمع الشخص – في وقت واحد – بين المعصية وأصل الإيمان ، تماماً كما لا يمكنه أن يجمع بين الإيمان والكفر ، فانطبق – في معتقدهم – وصف الكفر على المعصية ، فلم يعودوا يفرِّقون بينهما ، فتكفي الكبيرة من الشخص لوسمه بالكفر الأكبر المخرج من الملَّة ، الذي تُستباح معه الحرمة الكاملة .
وعلى الرغم من كثرة المسائل العلمية التي خفيت على التكفيريين في هذه القضيَّة ، إلا أن زاوية من النظر العقلي لو فُتحت عليهم ، فدخل شيء من شعاعها إلى ظلمة عقولهم : ربما جلَّت شيئاً من مغاليق قلوبهم ، وذلك أن الأصل في مدار الإيمان والكفر على ما وقر منهما في القلب ، ولا سبيل إلى الجزم بما في القلوب ، إلا بما تعبِّر عنه الألسن والأعمال ، فالشهادتان عنوان الإيمان وعلامته ، كما أن الجحود عنوان الكفر ودلالته ، فالرجل من المشركين يُسلم بإعلان الشهادتين ، ويبقى معه ما يبقى من رواسب الجاهليَّة ، ثم يمكث زمناً ليرتقي في درجات الإيمان حتى يحسن حاله ، ومع ذلك لا يوسم بالكفر بين اعتناقه الإسلام وبين بلوغه درجات في الإيمان ، كحال بعض مسلمة الفتح ، حين اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط ، فوعظهم في ذلك ، ولم يأمرهم بتجديد إسلامهم ، رغم غلظ اقتراحهم ، وكحال بعض الأعراب أيضاً ، لما ادَّعوا لأنفسهم مرتبة الإيمان ، قبل أن يتمكَّن الإيمان من قلوبهم ، فأدِّبوا لأن يقولوا : أسلمنا ، فدلَّ على أن هؤلاء جميعاً لا يخرجون عن مسمى الإسلام ، بما لهم من الحسنات ، وبما عليهم من السيئات .
إن مما يحتاج التكفيريُّون إلى الوعي به : أن المسلم أمام كلِّ متغيِّرات الحياة ؛ بكلِّياتها وتفصيلاتها ، يفتقر في كلِّ أمر منها إلى اعتقاد وعمل ، فلا يفوت شيء من أمور الدنيا : صغر أو كبر ، من عقيدة بشأنه يؤمن بها المسلم ، وسلوك تجاهه يقوم به ويمارسه ، فأما المعتقد فيتزوَّده المكلَّف من الأحكام الخمسة : الواجب ، والمستحبُّ ، والمباح ، والمكروه ، والحرام ، فهذه الأحكام حقٌ لله تعالى وحده ، وهي مستوعبة لكلِّ شأن من شؤون الحياة ، فليس للمكلَّف سوى الاعتقاد الجازم بها ، فإذا تطرَّق الخلل إليها ، بمخالفة ما أُمر المكلَّف باعتقاده ، فإن ذلك يُؤذن بزوال أصل الإيمان ؛ كالاعتقاد بإباحة المحرمات والموبقات ، أو تحريم المباحات والطيِّبات ونحو ذلك ، مما هو موضع إجماع المسلمين .
وأما السلوك المطلوب من المكلَّف تجاه هذه الأحكام الخمسة هو العمل بمقتضاها ، والتقيُّد بآدابها ، والنهج في ضوئها ، إلا أن الشأن في السلوك أوسع بكثير من الشأن في الاعتقاد ، فالمسامحة فيه كبيرة ؛ لما قد يكتنف العمل من الظروف والأحوال ، ولما قد يغلب على الإنسان من الأهواء والشهوات ، ولهذا جاء العفو فيه بلا حدود ، في مقابل الضيق الشديد بحقِّ الاعتقاد ، فخطايا السلوك قد تُغفر ولو وسعت زبد البحر ، وبلغت عنان السماء ، أما الواحدة من خطايا الاعتقاد فلا مكفِّر لها يوم القيامة ، رغم ما رتَّبه الشارع الحكيم من العقوبات الزاجرة ، والحدود الرادعة ، على الكبائر السلوكية ، وما توعَّد به أصحابها يوم القيامة ، ومع ذلك لا تحول – مهما كثرت وتنوَّعت - دون خاتمة السعادة لصاحبها يوم القيامة ، في حين تنعدم المسامحة في شأن العقائد وأصول الإيمان ؛ لأن المعوَّل عليها ما وقر في القلب ، ولا سلطان عليه إلا بإذن صاحبه ، في حين يحتفُّ بالسلوك ما يحتفُّ به من : غلبة الشهوة ، وضعف العزيمة ، وقهر السلطة .
ومن ألطف ما يرد في هذا الشأن حديث البطاقة ، فعلى الرغم من عظم حجم الخطايا التي ارتكبها الرجل صاحب البطاقة ، مما دُوِّن عليه في تسعة وتسعين سجلاً ، كلُّ واحد منها مدَّ النظر ، مع فقره الشديد من الحسنات ، مما يصعب تخيُّل مثله ، ومع ذلك لم تحل كلُّ هذه الخطايا السلوكية بينه وبين رحمة الله تعالى بالجنة ، حين وفَّى بشرط العقيدة ، مما يدلُّ دلالة واضحة على أن المعتقد مقدَّم على السلوك في كلِّ حال ، فلا يبقى للسيئات وزن مع صحة العقيدة ، ولا يبقى للحسنات وزن مع فساد العقيدة .
هذا المفهوم الإسلامي لو نزِّل على عصاة المسلمين ، من مختلف طبقاتهم ، لوجد التكفيريُّون أنهم لا يزالون يتعبَّدون الله تعالى بما وقر في قلوبهم ، من الاعتقاد بتحريم المحرمات ، وإباحة الطيِّبات ، رغم تورُّطهم في كبائر سلوكية تخالف معتقداتهم ، ومع ذلك يبقون – عند أهل السنة – ضمن حدِّ الإسلام من جهة المعتقد ؛ لأن العقيدة عندهم مقدَّمة على السلوك ؛ فالاعتقاد بحرمة الخمر – مثلاً - أعظم وأجلُّ وأوجب من اجتنابها ، ولهذا يرتدُّ من يستبيح الخمر من المسلمين وإن لم يشربها ، في حين لا يرتدُّ من يشربها ما دام يعتقد جازماً حرمتها ، فلا تصحُّ التسوية بين العقيدة والسلوك ، ولا يستلزم – بالضرورة – الفساد السلوكي : الفساد العقدي ، وإلا هلك الناس ؛ فمن ذا الذي ينجو من خطأ سلوكي - كبير أو صغير – يقع فيه ؛ فإن كلَّ بني آدم خطاء ؟
ولا يستثنى من ذلك إلا السلوك العقدي الغليظ ، الذي يعارض معلوماً من الدين بالضرورة ، فلا يحتمل حينئذٍ غير الكفر الصريح ، عندما يصدر عن عاقل عارف مختار ، فيعبِّر عن ردَّة باطنة أكيدة ، فهنا فقط يكون مجرَّد السلوك كفراً ؛ كسبِّ الله تعالى أو رسوله والعياذ بالله ، أو دعاء غير الله ، أو الذبح للطواغيت ، أو إهانة المصحف ، أو التصريح بتبنِّي العقائد الباطلة ، ونحوها من الأعمال والأقوال التي تُفصح بوضوح عن ضمائر ومعتقدات أصحابها ، أما مجرَّد المعاصي – كبائر كانت أو صغائر – فإن أصحابها لا يكفرون ، ما داموا يتعبَّدون الله تعالى باعتقاد حرمتها .
لقد أفحش التكفيريُّون بتسويتهم الفاسدة بين العقيدة والسلوك ، وبربطهم الظالم بين الكفر والمعصية ، فلا يُتصوَّر عندهم وجود الإيمان والمعصية في وقت واحد ، رغم أن الشفاعة يوم القيامة إنما خُصَّت لمن وجبت له النار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلو كانوا كفَّاراً بذنوبهم – كما يزعم التكفيريُّون – فما وجه الشفاعة المحمديَّة لقوم كافرين ، وقد حبسهم القرآن في نار جهنَّم خالدين فيها ؟!
وليس في هذا إقرار لمذهب المرجئة ، أو تهوين من أمر الكبائر ؛ فإن أمرها في الشرع عظيم ، وغضب الله تعالى على أهلها شديد ، وإنما المقصود إعطاء الأحكام الشرعية أوزانها ، وإلا كيف يُسوَّى بين من رضي بالله ربًّا ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ونبيًّا ، وبين يهودي أو نصراني أو مجوسي ، لكبيرة اقترفها ، أو واجب شرعي أهمله ؟! فإن النطق بالشهادتين ، مع اليقين بهما : ينقل أعتى المردة الكافرين في برهة يسيرة ، من حضيضه إلى الإسلام ، ليستأنف العمل من جديد ، فإذا هلك بين النطق بهما والعمل بمقتضاهما : كان قطعاً من أهل الجنة ، فتهاون التكفيريين بشأن الشهادتين ، والتقليل من شأن النطق بهما : هو دليل آخر ، ينضم إلى الأدلة الكثيرة ، على حجم الجهل والجهالة التي غرق فيها التكفيريُّون ، وإلا فإن السماوات السبع ، والأرضين السبع : لا تقوم لثقل الشهادتين وعظمتها ، فمن وفَّقه الله للنطق بهما مخلصاً من قلبه : فقد اختاره لرحمته ، شاء ذلك التكفيريُّون أم أبوا .