الجمع بين المتناقضات في السلوك الإنساني

مقال شهر رمضان 1434هـ

الجمع بين المتناقضات في السلوك الإنساني

               الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين ، وأصحابه الغر الميامين ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان وإخلاص إلى يوم الدين ، وبعد .. فإن النفس الإنسانية – بما حباها الله تعالى من القدرات الفائقة ، والطاقات المتنوعة ، والمجالات الواسعة – لا تزال تطالعنا – وبصورة مستمرة – بعجائبها السلوكية ، ونوادرها الشخصية ، سواء على مستوى الإنسان كفرد ، عبر مراحله العمرية المختلفة ، أو على مستوى الأجيال المتعاقبة ، عبر سنوات أحقابها المترادفة .

               وعلى الرغم من الثبات الفطري في الطبيعة الإنسانية ، في أصولها الطبيعية التي خلقها الله تعالى عليها دون تبديل ولا تغيير ؛ إلا أن نوع الأداء السلوكي للإنسان ، ونمط تفاعله الشخصي في المواقف الحياتية المختلفة ، وأطوار نموه المتعاقبة التي تطرأ عليه عبر مراحله العمرية المختلفة ، كلُّ ذلك يجعل الإنسان ضمن حالات من التجدد المستمر ، والتنوُّع المتسع ، الذي يعطي عالم الإنسان أبعاداً أرحب وأوسع وأشمل من ألوان السلوك ، وأشكال الشخصية ، حتى إن مجالات التطابق المطلق بين اثنين من البشر تكاد تنعدم في واقع الحياة الإنسانية ، بحيث تتنوَّع الشخصية الإنسانية بتنوع أعداد البشر ، كحال التباين الواقع بين بصمات الناس ، رغم تشابهها وضيق مساحتها ، مما يشير بوضوح إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى ،  وإلى عظيم إبداعه في خلْق الإنسان .

              ولا يعني هذا الاختلاف في السلوك الشخصي للإنسان ، والتباين الواسع في سلوكه العام ، ألا تجمع فئات من الناس حلقات من الاشتراك السلوكي ، وقواسم من التشابه الشخصي ، الذي يُلمح إلى درجة ما من التقارب السلوكي ، والتوافق الشخصي ، والتشابه الانفعالي ؛ وإنما المقصود استحالة التطابق المطلق في نوع السلوك الشخصي بين اثنين ، فضلاً أن يجتمع الفئام من الناس على سلوك واحد متطابق كحال الحيوان ، الذي يتطابق سلوكه مع نوع فصيله تطابقاً شبه تام ، فلا يتمايز عن غيره تمايزاً يوحي بالاستقلال السلوكي ، أو الانفراد الشخصي ؛ فالعينة من نوع الفصيل الحيواني تعبِّر – بصورة دائمة ومتكررة - عمَّا وراءها من النوع ، وتطابقه في سلوكه ونمط حياته وردود أفعاله ، فلا تمايز ولا اختلاف ، ومثل هذا الطابع السلوكي يستحيل في عالم الإنسان ؛ إذ إن كل إنسان – من هذه الناحية – هو عالم قائم بذاته .

           بيد أن أعجب وأغرب ما يتميَّز به سلوك الإنسان ، وطبيعته الشخصية ، ونمط أدائه الانفعالي عن عالم الحيوان ومسالكه الساذجة : هو التناقض السلوكي ، الذي يتمكَّن فيه الإنسان   - في وقت واحد - من الجمع بكفاءة بين سلوكين متناقضين ، يصعب التوفيق بينهما ، فقد برأ الحيوان براءة كاملة من هذا النوع من السلوك المتناقض الذي تورَّط فيه الإنسان ، وربما تلبَّس به حتى يغدو التناقض السلوكي جزءاً طبيعياً من كيانه الشخصي ، وطبعاً أصيلاً في خُلقه ، حتى يصدر عنه بيسر وسهولة دون تكلُّف .

             ولعل في مسالك بعض المنتمين إلى الفرق الإسلامية ما يجلِّي الموضوع ويبرز الفكرة بوضوح ؛ فإن سمة الجمع بين المتناقضات السلوكية كثيراً ما تتلبَّس بها مسالك بعض المنتمين إلى الفرق الضالة ، وإن كان غيرهم غير مبرأٍ منها بصورة مطلقة ، إلا أن التناقض السلوكي في كثير من المنتسبين إلى الإسلام أكبر وأوضح ؛ فالخوارج في نهجهم التعبُّدي العميق ، وزهدهم الشديد ، وورعهم الغريب ، مما يمثِّل - في جملته - المثالية السلوكية الصعبة ، التي يندر وجودها – على هذا النحو القاسي الدقيق - في كبار الأولياء ، بل يندر ذلك حتى في الأنبياء الأصفياء ، الذين أتوا بنهج الاعتدال والتوسط ، وذمُّوا التشدُّد والتفلُّت ، مما قد يكون سبباً في فتنة بعض الناس عن النهج الحق ، لاسيما الشباب الناشئ منهم ، في استلاب عقولهم ، وسبي أفهامهم ، وتخريب أفكارهم ، وفي الحديث قال رسول الله r : ( إن فيكم فرقة يتعبدون ويدينون حتى يعجبوا الناس ، وتُعجبهم أنفسُهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) . (رواه أحمد) .

           ففي الوقت الذي تبدو فيه الشخصية الخارجية– فيما يظهر للناس –  متَّسقة ومنسجمة مع نهج التقوى في أعلى وأجلِّ وأشدِّ مسالكها ، التي تثير إعجاب الناس ، وتبعث فيهم عواطف المحبة والولاء : تنتكس هذه الشخصية من قمَّتها العالية فتهوي إلى دركة سحيقة من السلوك المقيت ، والفعل الشنيع ، الذي ينحطُّ بها إلى قاع لا قاع دونه من النزول والسفول ، حين تنطلق بمعتقد التكفير بلا تمييز ، وتسعى للتدمير والتقتيل بلا تفريق ، فتقتل الأولياء وتترك الأشقياء ، وفي الحديث قال رسول الله    : r(... يقتلون أهل الإسلام ، ويدَعون أهل الأوثان... ). (رواه البخاري) .

           والسؤال الذي يثار هنا : كيف استساغت هذه الشخصية الإنسانية العجيبة أن تجمع بين هذين السلوكين المتناقضين بكل هذه الكفاءة ، فتستمر في ممارستهما معاً في وقت واحد دون ما تردد بينهما ، أو تنبُّه لتعارضهما ؟ حتى إن أحدهم ليتورع عن استباحة التمرة المهملة يلتقطها من قارعة الطريق ، ثم يقدم - بكل ثبات وجراءة - على أكبر وأشنع جرائم التاريخ البشري – قتل علي بن أبي طالب – مؤيَّداً بإجماع وتأييد كلِّ المنتمين لأعضاء الفرقة ، حتى عاد سلوكاً جماعياً شاملاً ، الكل يجلُّه ويؤيِّده ، حتى قال شاعرهم ، وهو يتغنَّى بابن ملجم ، صاحب هذه الجريمة النكراء :

     يا ضربة من منيب ما أراد بها                 إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً

      إني لأذكره يوماً فأحسبه                        أوفى البرية عند الله ميزانـاً

            وليس بعيداً كثيراً عن طريقة الخوارج في تناقضهم السلوكي ، وعجائب نهجهم من المنتمين إلى جماعات الرافضة من المتشيِّعة ، الذين يقفون في اتجاهاتهم على النقيض من الخوارج ، ومع ذلك يتَّحدون معهم ويوافقونهم في النقمة على الداخل الإسلامي ، وربما يزيدون عليهم في حجم التناقض السلوكي المشين ، فيما يعبِّرون عنه من مشاعر الحزن الشديدة ، وحوادث المظالم الأليمة ، من خلال تكرار قائمة المآسي والأحزان التاريخية الغابرة ، وما يرافقها – بصورة دائمة ومستمرة – من مظاهر الأسى ، ونوبات البكاء ، وشهقات النحيب ، التي تنمُّ – فيما يظهر – عن شخصية حزينة منكسرة ، مكلومة مضطهدة ، رقيقة جزعة ، قد تراكمت عليها الوقائع المؤلمة ، والمفاجع المرهقة ، مع ما قد يصاحب ذلك من لطم الوجوه ، وخمش الصدور ، حتى إن الغريب عن ديارهم ، الجاهل بقضاياهم وبواعثهم ، العاجز عن فهم لغتهم ، حين يشاركهم هذه المناحة الجماعية ، فيقع تحت تأثيراتها العاطفية ؛ فيُرعي سمعه إلى القصائد الملحَّنة المحزنة ، والعبارات المنغَّمة المثيرة : لا يملك معها إلا أن يبكي وينوح معهم ؛ لشدَّة وقع ذلك على نفسه ، حتى وإن لم يفهم المدلول اللغوي ؛ فقد أفصح أحد الباحثين الأمريكيين - من المهتمين بالشأن الشيعي - عن تجربته الشخصية حين حضر بعض الحسينيات الشيعية في إيران ، معبِّراً عن تأثره بالجو العاطفي العام ، حتى إنه كان يشاركهم الحزن والبكاء ، وهو لا يدرك المعاني بوضوح ، كما أنه غير معني بالمسألة الشيعية وقضاياها المثيرة .

             هذه الشخصية الشيعية المتطرفة التي تبدو – فيما يظهر للناس – حزينة ومنكسرة ومتألمِّة ، تستجدي في النفوس العاطفة البشرية ، وتبعث فيها الشفقة الإنسانية ، حتى إذا حانت لهذه الشخصية المكلومة ساعة انتقامها ، وبلغت زمن انبعاثها : خرج من بين جوانحها ، وانبعث من بين أضلاعها مارد الانتقام ، ووحش الفتك ، وغول الإرهاب ، فتحوَّلت الشخصية الوديعة في ظاهرها إلى شخصية سادية عنيفة مارقة ، تستحسن البطش ، وتستلطف القتل ، وتستمتع بالتعذيب ، زاعمة – بمسلكها هذا – أنها تنتقم لمظلوميتها التاريخية قبل قرون ، من كفَّار اغتصبوا حق إمامهم ، وكسروا ضلع زوجته ، وقتلوا ولده .

             ورغم اتحاد الرافضة مع الخوارج في إطلاق حكم التكفير على المخالفين لهم ، وبالتالي استباحة دمائهم ، وسلب أموالهم ؛ فإن الرافضة – غالباً – ما يزيدون عليهم في سلوك التشفِّي من المخالفين ؛ في التنكيل بهم ، وتقطيع أوصالهم ، وحرق أجسادهم ، وسحق أطفالهم ؛ باعتبار أنهم ذرية المسئولين عن المظالم التي وقعت ، إضافة إلى أسلوب الاستدعاء السمج للمظلمة التاريخية ، وإحيائها من جديد في كلِّ قضية تنشب مع مخالفيهم ، ضمن سيناريو كامل من دراما ممجوجة من نتن العقول ، وقذر الفكر ، الذي لا تقبله النفس الإنسانية إلا حين تنحطُّ بلهاء دون مستوى البهيمة ، فلا تدرك ولا تعي ولا تتأمل فيما يُلقى إليها من مصادرها المقدَّسة .

                وهذا يكشف للفطناء نهج التخريب العقلي ، الذي ينتهجه الرافضة في بناء شخصيات أتباعهم ، حين لا يجد أحدهم غضاضة في أن يكون أستاذاً جامعياً في التقنية والمعارف العلمية الحديثة ، في الوقت الذي يلطم ويخمش ، ويتنادى بثارات الحسين ، ضمن مسرحية هزلية هستيرية سخيفة !!

             إن العاقل ليتعجب : كيف استطاع منهج التربية عند الرافضة أن يقنع أتباعه بضرورة التخلص من عقولهم لدخول حظيرة الإيمان ؟ فبدلاً من أن يكون العقل هو مناط التكليف - بزواله يزول التكليف – يصبح حجب العقل عند الرافضة شرطاً لصحة الإيمان !!

              وليس بعيداً عن هؤلاء وأولئك في تناقضاتهم السلوكية : ما يقع فيه بعض أهل السنة والجماعة من الجمع الشائن بين المتناقضات السلوكية ، ولئن كانوا هم - في الجملة – أقلَّ الفرق الإسلامية تناقضاً سلوكياً ، وأكثرها خيراً ، لما اعتمدوه في نهجهم من الكتاب والسنة ، وكون الفرقة الناجية منهم ، غير أن سلوك بعضهم يثير الدهشة والاستغراب ؛ ففي الوقت الذي يتحلَّى فيه أحدهم بالتزام الشعائر الدينية في مظهره ، ربما تخلَّى عن بعضها في مخبره ، وفي الوقت الذي يتحرَّج فيه عن قليل الحرام ، ربما وقع في كثيره ، وفي الوقت الذي ينادي فيه بالورع ، ربما تخطى ذلك في سلوكه إلى المكروه ، وفي الوقت الذي يحرص فيه على الراجح من المذاهب ، والعمل بالأحوط ، وتجنُّب المختلف فيه من الأقوال ، وما قد تدخله الشبهة : يقع في بعض سلوكه فيما لا خلاف في المنع منه !

              ولئن كانت هذه التناقضات السلوكية عند بعض أهل السنة دون غيرهم في شناعتها ، فإنها – مع ذلك – وسائل سيئة لصَّدِّ الناس عن سبيل الله تعالى ، وكفِّ الحائرين عن نهج الهدى : (...وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا) .

              وعند التأمل يجد الناظر أن هذه الأزمة السلوكية الشائنة تنحصر بواعثها - في الغالب - في ثلاثة أسباب رئيسة ، مما تدخلها النفس الإنسانية بأمراضها ، والشيطان بوسوسته وإغرائه :

               السبب الأول : هو الجهل والتقليد الأعمى ، الذي يصنع الشخصية الإنسانية القاصرة ، فيفقد الرجل معها الاستقلال بالنظر فيما يتعاطى ، ويمنعه القدرة على تقويم الأعمال والممارسات ، فيحول بين العقل والسلوك حاجب فاصل من الأوهام والظنون ، مبعثهما التقديس والتعظيم لمصادر المعرفة ، والاعتقاد بعصمتها من الخطأ ؛ لذا لا يتكلَّف المراجعة وراءها ، ولا الاستدراك عليها ، فيقع في الأخطاء والتناقضات ، بل ربما وقع في الموبقات الكبرى ، دون شعور أو تمييز أو نظر .

                          السبب الثاني : هو الهوى ، الذي يملك على الرجل لبَّه ، فيحوِّله إلى شخصية إنسانية منتكسة ، فيُعميه ويُصمُّه ، حتى لا يدرك ولا يستوعب إلا وفق داعية الهوى ، فينخرط ضمن سلوكيات متناقضة ، من المعروف تارة ، ومن المنكر تارة أخرى ، من الخير مرة ، ومن الشر مرة أخرى ، حاديه في كلِّ ذلك الهوى ، حتى المعروف من السلوك ، والحسن من الأعمال ، لا يأتيها إلا بقدر ما أُشرب في ذلك من هواه ، فباعثه للخير والمعروف – في كل الأحوال - هو الهوى المستحكم .

              السبب الثالث : هو الحرص على المصلحة الشخصية ، الذي يحول دون الرجل والعمل بالمبادئ والقيم الكريمة ، والقيام بالمواقف النبيلة ، حيث يتحوَّل الإنسان الحريص إلى شخصية هلوعة جزوعة ، لا تعرف من السلوك إلا ما يحقق مصالحها الضيقة ، ويضمن منافعها الخاصة ، فتقع في التوافق السلوكي مرة ، وفي التناقض مرة أخرى ، وفق ما يحقق مصلحتها ، فلا تخجل من التردد بينهما ، ما دام أن مصلحتها تحصل بالأسهل منهما .

           ولما كان طبع ابن آدم الخطأ ، فإن كلَّ هؤلاء وغيرهم مدعوون إلى التوبة ، فإن التوبة الصادقة تمحو أزمة التناقض السلوكي ، وتكفِّر كلَّ سيئات الإنسان مهما عظُمت ، وتعمل على تقارب المسافة بين طبع الخطأ عند الإنسان وبين السلوك القويم ، فكلُّ ذنب صدر عن الإنسان حال : جهله ، أو غفلته ، أو ضعفه ؛ فإن التوبة النصوح تمحوه فضلاً من الله تعالى ورحمة منه .

           وهذا باب مشْرع للجميع ، لا يغلق دون أحد إلا بحضور الأجل أو قيام الساعة ، فمن تجاوز مهلة التكليف من المذنبين دون توبة نصوح ؛ فإن المسلم منهم تحت المشيئة الإلهية ، إن شاء عذبه بعدله ، وإن شاء غفر له بفضله .