الطفل والتناقض الاجتماعي

يتفق المربون على أهمية القدوة في التربية، المتمثلة في سلوك المربي وفق النهج الذي يدعو إليه، فإن من الصعوبة بمكان إقناع المتربي بسلوك نهج ما دون أن يكون الداعية إلى هذا النهج متمثلاً ما يدعو إليه.

وفكرة القدوة مبنية في الطبيعة الإنسانية على مبدأ المحاكاة والتقليد المتأصلة في الطبيعة الإنسانية، فالكل يقلد ويحاكي، كباراً كانوا أو صغاراً، فأما الكبار فإنهم يقلدوا في ملابسهم، وأثاثهم، ومراكبهم، وأنواع طعامهم، ومناهج تفكيرهم، ومذاهبهم، وتصوراتهم ونحوها. وأما الصغار فإنهم يقلدون في حركاتهم، , وألعابهم، وكلماتهم ونحوها. وكل ذلك لا يخرج عن التقليد والمحاكاة، سواء كان من الكبار أو الصغار، إلا أننا –لاعتيادنا- نتعجب من تقليد الصغار ومحاكاتهم التي تخلو عادة من المنطق، ولا نتعجب من أنفسنا حين يحاكي بعضنا بعضاً في أنواع اختياراتنا المختلفة في سلوكنا وفكرنا وتوجهاتنا، والتي تخلو أحياناً – بل ربما في كثير من الأحيان من المنطق العقلي، والنظر الشرعي الصحيح- وإلا فأي نظر شرعي، أو منطق عقلي يبرر تقليد المسلمين للكفار في مذهب فكري ضال، أو سلوك خلقي شائن؟.

ولما كان تأثير القدوة مؤكداً في ميدان التربية جاء التحذير الشديد من الله تعالى للمؤمنين بأن يحذروا الازدواجية السلوكية في مخالفة الأعمال للأقوال؛ حيث يقول تعالى:  } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ { ، نعم كبر مقتاً أن يقول المربي ويدعي مالا يفعل؛ لأن هذا القول وهذا الإدعاء الذي يكذبه الواقع العملي له تأثير سلبي على النشء من المتربين، فهم لا يستطيعون أن يوفقوا بين أقوال المربين الحسنة، وبين أعمالهم القبيحة، وقدراتهم العقلية – لصغر أسنانهم وقلَّة خبراتهم- لا تسمح لهم بقبول القول والتغاضي عن العمل، فهذا صعب في عالم الطفولة، في حين
كم هو سهل في عالم الكبار، فكلُّنا أو جلُّنا لا يتعجب من مسلك النفاق الذي استشرى في الحياة الإنسانية، فقد أصبح مقبولاً في حياة الكبار أن يجمع الشخص في وقت واحد بين المتناقضات، فلا مانع من المناداة بالحق مع العمل بالباطل، ولا مانع من الأمر بالتقوى والمناداة بها مع التفريط في الواجبات، لقد أصبح مستساغاً مقبولاً عند جمهرة الناس أن أقوال الناس لا تطابق أعمالهم، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، فلا إنكار فيما بينهم، الكل قد تلبَّس بهذا المسلك المشين، وكما قال الحكيم : " افتضحوا فاتفقوا "!!

إن سلوك المربي لمنهج النفاق يعرضه للعقوبة الشديدة يوم القيامة مع الفضيحة أمام الخلائق؛ ففي الحديث المتفق عليه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه – يعني تخرج أمعاء بطنه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون : يا فلان ما لك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ".

إنها لمصيبة كبيرة أن يفقد النشء الجديد حقه من القدوة الصالحة في الآباء والمعلمين، فيحتاج إلى أن يتدرب على منهج الفصل بين كلام المربي وسلوكه، فيتعود على ألا يتأثر بالفعل إذا جاء مخالفاً للقول عند المربي، ويتدرب على طريقة الفصل بين النظرية والتطبيق، بحيث يقبل النظرية ويؤمن بها ويعمل بها، دون أن يجد أثرها في المربين، وهـذا في الحقيقة تكليف بما لا يطـاق؛ فإنى للصغار أن يتمكنوا من هذه القدرة الفائقة في حسن الانتقاء عن المربين، فيأخذون – بدقة- ما حسُن من أقوالهم وأفعالهم، ويتركون – بتفوق – الشائن من أخلاقهم وسلوكياتهم.

إن الله تعالى – وهو الحكيم الخبير – لم يكلف الكبار البالغين أن يؤمنوا بالكتب المنزلة إلا حين تأتي بها القدوات الصالحات من الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فيعيش الناس النص من الوحي مع تطبيقه العملي في سلوك الرسول أو النبي، بل إن البشر في كثير من الأحيان – كما حكى لنا القرآن – يكفرون بنصوص الوحي مع وجود القدوة الصالحة في سلوك نبيهم، فكيف لو جاءت النصوص مجردة عن القدوة الصالحة، ماذا ترى الناس يصنعون بالنصوص النظرية مجردة عن التطبيقات ؟

إن مما يجب أن يستقر في نفـوس المربين : أن النص من القرآن أو السـنة لا يؤثر وحده في النشء حتى تحمله إليهم – بالأسلوب الصحيح – القدوة الصادقة الصالحة في سلوك عملي واقعي، وما لم يتحقق ذلك من المربين فلن نتوقع أن ينصاع النشء للنصوص وحدها، منسلخة عن القدوة الصالحة.