معاناة التربية

 

مقال شهر جمادى الآخرة 1434هـ

معاناة التربية


              الحمد لله على نعمه ، والشكر له على فضله ، والثناء عليه على جوده ، والصلاة والسلام على خير خلقه ، وأشرف رسله ، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فعلى الرغم من افتقار الإنسان إلى الذرية ، وحاجته المفرطة إلى النسل ، ورغبته الجامحة إلى الامتداد الأسري ، والتوسع الاجتماعي ؛ فإنه مع ذلك لا يفتأ من التذمُّر من معاناة جهود التربية ، ومكابدة مسئوليات الرعاية ، فرغم الجهود والمعاناة ، التي يتكبَّدها الإنسان في العملية التربوية ، ورفع صوته بالشكوى من تبعاتها المضنية ؛ فإنه مازال حريصاً على نيل الذرية ، متطلعاً للنسل ، وكأن جهود التربية – مهما كانت كبيرة ومرهقة – فإنها في حسِّه لا تقابل غنيمة امتلاك النسل ، والتمتُّع بالذرية ، وأمل بقاء الذكْر ، فمازال الناس منذ أول الدهر يتناسلون ويتكاثرون ، غير مكترثين بمعاناة جهود التربية ، وما قد يلحقهم من ضيق النفقة ، وقلة ذات اليد ، فقد ترجَّح عندهم بإجماع فضيلة النسل ، وقبيحة العقم ، ورذيلة انقطاع الذكْر ، وما يشذ عن ذلك إلا قلائل من معاندي الفطرة الإنسانية ، ومخالفي الطبيعة البشرية ، ممن يظنون أنهم بفعلهم هذا يتخفَّفون من المسئوليات التربوية ، ويترفَّعون عن المعاناة الزوجية ، والمكابدة الأسرية ، غير أنهم في الحقيقة يبذلون من جهود مخالفة الفطرة ، ومعاندة الطبيعة ، أضعاف ما يبذله مكابدو معاناة التربية .


             إن الاستقرار الطبيعي بضرورة معاناة التربية في خلد المربين ، وقبولهم بتكاليفها ومسئولياتها ، وخوضهم تجربتها الأسرية والمدرسية : لا يسوِّغ رفع أصواتهم بالشكوى المستمرة من مهمة المسئولية التربوية ، التي قد تبلغ أحياناً حدَّ الصياح ، الذي ينمُّ عن شدَّة السخط والاستنكار ، ولا يبرر لهم التنصُّل – إن أمكنهم ذلك – من إكمال المهمة التربوية إلى نهايتها ، ولا يُقبل منهم التقصير في إنجاز العملية التربوية ، وفق المعايير العلمية الصحيحة ، والضوابط الشرعية المرعية ، بحيث تُترك المسئولية التربوية لتصل منتهاها كيفما اتفق ، في ظل التسويغ بصعوبة التربية في هذا الزمان ، وكثرة المتغيرات التربوية المعاصرة ، التي تشترك بقوة في عملية التنشئة الإنسانية .


              إن مما لا شك فيه أن النسل البشري لن ينقطع إلى آخر الدهر ، وافتقار الطفل إلى التربية لن ينتهي مهما تغيَّر الزمان أو تعقَّدت سبله ، بمعنى أن النسل والتربية صنوان متلازمان لا يفترقان ، فلن يأتي يوم ينقرض فيه البشر قبل يوم القيامة ، ولن يأتي يوم يستغني فيه الناشئ عن التربية .


            إذا تقرر هذا : فإن مجرَّد التفكير في التخلي عن المسئولية التربوية في تنشئة الصغار هو خيانة تربوية ، بل هو ضرب من الانتحار التربوي ، يشبه – إلى حدٍّ كبير - التفكير في قطع النسل البشري ؛ لأن الإنسان إنسان بالتربية وليس إنساناً بالنسل ؛ فالصفات الخلقية ، والمفاهيم الفكرية ، والسلوك الاجتماعي ، واللغة اللسانية ، كلُّها نتاج التربية وليست نتاج الوراثة ؛ فلو قدِّر لطفل أن يُعزل تماماً – بكيفية ما - عن الوسط الأسري والاجتماعي ، ليحيا وحيداً دون اتصال بشري ، مع تأمين كفايته من الطعام والشراب والأمان ، فإنه ينشأ فاقداً إنسانيته كعضو اجتماعي ، قد عجز تماماً عن كل ما هو إنساني ، اللهم إلا الهيئة التي تبدو شاحبة مخيفة ، كحال هيئة إنسان الأدغال الموحش ، كما تصورته الروايات والأفلام ، فمهمة الجينات الوراثية تقف عند حدِّ نقل الصفات الجسمية بدقَّة وأمانة ، مع الإسهام المحدود في نقل حزمة عامة من الاستعدادات الفطرية المتنوعة المهيأة لنمو الشخصية ؛ فالفطرة الإيمانية التي يولد عليها المولود هي استعداد طبيعي وأساس رباني لتلقي الطفل تفصيلات العقيدة وأصولها عن طريق التربية ، فمن المستحيل أن يعرف الإيمان الذي جاءت به الرسل إلا بالتلقي التربوي .


              وكذلك حال الأخلاق ؛ فإنه لن يعرفها بأبعادها الاجتماعية – فضلاً عن أن يطبِّقها – إلا من خلال الجهود التربوية من جيل الكبار إلى جيل الصغار ، بحيث تقف الاستعدادات الفطرية الخلقية الأولية عند حدِّ التهيئة للتلقي القيمي للمبادئ الخلقية ، وضوابطها السلوكية ، فلا تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد في الطبيعة الإنسانية ، كالوعي بالمعرفة الخلقية أو الانضباط بها .


              والأوضح في ذلك أن القدرات العقلية الفطرية عند المحروم تربوياً من الوسط الاجتماعي الطبيعي ، فضلاً عن المحروم من الوسط الاجتماعي المتفوق ؛ فإن قدراته العقلية الموروثة – مهما كانت متفوقة - فإنها تبقى في صورتها الأولية ؛ محدودة الأداء ، قاصرة العطاء ، لا تتجاوز ذلك إلى الوعي الثقافي ، ولا إلى الفهم العلمي ، ولا إلى الإبداع الفكري .


             وأقرب من هذا للفهم واقع حال البدوي المحروم من التعليم ، المحصور في بيئته الصحراوية المحدودة ، القاصر في نشاطه على وسطه القبلي الضيِّق ، فإن قدراته العقلية الموروثة – مهما كانت عالية ومتفوقة – فإنها تبقى محدودة الأداء ، قليلة العطاء ، لا تتعدى عناصر الوسط الصحراوي ومتغيراته المحدودة ، في حين لو تعرض هذا المحروم إلى وسط اجتماعي وتعليمي فاعل ، فإن موروثاته العقلية المتفوقة سوف تبلغ مداها ، وتعطي عطاءها ، فإذا كان مثل هذا موجوداً من الوجهة الواقعية ، مشاهداً وقائماً في الحياة الاجتماعية ، قد عجزت الموروثات العقلية المتفوقة أن تبلغ مداها بغير وسط تعليمي : فإنها حينئذٍ بغير الوسط الاجتماعي مطلقاً أعجز وأشدُّ قصوراً .


               لذا فإن المخزون الفطري – مهما كان متفوقاً – فإنه لا يعمل من ذات نفسه ، حتى يُحرَّك بالتربية ؛ ولهذا احتاج آدم - عليه السلام - إلى تلقي المعرفة من ربه عز وجل ، حين ابتدأه المولى - سبحانه وتعالى - بتعليم الأسماء ؛ لأن قدراته الإنسانية لا تمكِّنه من صناعة ذلك لنفسه .

 
            ومن هنا فإن خيار المسئولية التربوية في صناعة الإنسان ، وما يترتب عليها من المعاناة والمجاهدات والتكاليف التي لابد منها : هو خيار حتمي لا مناص منه ، ولا محيد عنه ؛ لأنه الخيار الوحيد الذي تتحقق به الإنسانية ، ولا خيار آخر معه ، فإما الإنسانية بالمعاناة التربوية ، وإما اللإنسانية بالتخلي عن الشروط التربوية .