مقال شهر ربيع الآخر 1434هـ
الفطرة الإدارية
الحمد لله القوي القادر ، والصلاة والسلام على النبي الكريم الشاكر ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ... فإن كثيراً من المهتمين بالشأن الإداري ، وتراتيبه الفنية ، وضوابطه العملية : يظنون أن النجاح الإداري ينحصر في أحد أمرين ، الأول في المعرفة الإدارية ، من خلال إحكام العلوم الإدارية ، والتعرف على نظرياتها وأنواعها وأساليبها ووسائلها ، ومن ثم التقيُّد بها ، وإعمالها في الواقع الميداني التطبيقي ، وهذا لا شك حق ؛ ففاقد الشيء لا يعطيه ، ومع ذلك فإن هذا الاتجاه لا يحمل الحقيقة كلها بجميع أبعادها .
والأمر الثاني للنجاح الإداري – في نظر آخرين- يكمن في الخبرة الإدارية المتراكمة ، بمعنى أن التفوق الإداري عبارة عن خبرات إدارية طويلة ، وممارسات ميدانية واسعة ، فإذا ما حازها الشخص كان ناجحاً إدارياً ، ولا شك أن الخبرة الإدارية عنصر مهم للنجاح الإداري ، إلا أنها ليست هي العنصر الوحيد ، الذي يقف وراء النجاح الإداري .
إن حصر النجاح الإداري في هذين الأمرين - المعرفة والخبرة - هو في الحقيقة قصور عن النظرة الشمولية للعمل الإداري ، وتخلُّف عن فهم متطلباته العملية والتطبيقية ، وحصره في نطاق الكسب الإنساني المحدود ، الذي يخضع عادة للجهد البشري المتاح ، بمعنى أن الجهد البشري – في نظر هؤلاء - يساوي النجاح الإداري ، وهذا الفهم - مع حمله لكثير من الحق – لا يستوعب حقيقة النجاح الإداري بكل أبعادها ، ولا يشملها بجميع جوانبها وتفصيلاتها ، فإن جوانب أخرى في الشخصية الإدارية تظل موضع ضرورة للنجاح ، لا يستغنى عنها للحكم على الشخصية الإدارية .
إن روح النجاح الإداري تكمن أولاً - وقبل كلِّ شيء – في الشخصية الإنسانية ذاتها ، وما نالها من حظوظ الفطرة الإدارية التي جُبلت عليها ؛ بمعنى أن القدرة الإدارية قبل أن تكون معرفة علمية ، أو خبرة طويلة : فإنها استعداد فطري مركوز داخل الشخصية الناجحة ، قد تهيأت بطبيعتها الربانية للأداء الإداري المتفوق ، فلا تحتاج الشخصية الإدارية - حتى تتفوق - إلى كثير من المعارف العلمية ، ولا إلى عقود من الخبرات الميدانية ، فقليل من هذين الرافدين - المعرفة والخبرة - تكفي المجبول على العمل الإداري للتفوق والنجاح .
إن الفطرة الإدارية مكوِّن ضروري للشخصية الإدارية الناجحة ، حين تهيئها للعمل الإداري ، وتعدها للتفوق التطبيقي ، من خلال امتلاكها معالم النجاح الإداري في : سرعة الاستيعاب ، وذكاء الاختصار ، ونضج الأداء ، وسلامة الضبط ، فلابد لهذه المعالم الأربعة من شخصية مجبولة على الفكرة الإدارية ، تملك قدراً فطرياً من الطبيعة القيادية ، والعقلية العملية ، والروح الأخلاقية ، والشخصية الضابطة .
ولعل مما يؤكد هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر - رضي الله عنه - حين رغب في الإمارة : ( يا أبا ذرٍّ ! إنك ضعيفٌ...) ، فكأنها إشارة إلى الجانب الفطري في شخصية أبي ذر – رضي الله عنه – رغم قوته وإقدامه في الحق ، في حين اختار – صلى الله عليه وسلم – عمرو بن العاص وخالد بن الوليد – رضي الله عنهما – بعد إسلامهما مباشرة لإدارة بعض سرايا الجهاد ، وفي المسلمين آنذاك من هو أفضل منهما أيماناً ، وأقدم منهما إسلاماً ، ومع ذلك قدِّما عليهم لهذا المعنى الفطري في القدرة الإدارية .
غير أن هذا الصنف الإداري المتفوق فطرياً هو في الناس قليل بحكم الطبيعة البشرية ، وهم اليوم أقل من القليل في ظرف التخلف العربي ، والأرذل من ذلك أن واقع المجتمع العربي المعاصر لا يولِّد المتفوقين إدارياً ، بقدر ما يولِّد العاجزين والمعاقين في كل المجالات ، ممن يضيفون إلى أحمال الأمة مزيداً من الأوزار والأثقال .
ولقد شهدت الساحة الإدارية في دول العالم الثالث - لا سيما العربية منها – أعداداً ليست قليلة من المتعثرين إدارياً ، ممن حصلوا على أعلى الدرجات العلمية في مجال الإدارة ، فما إن نزل أحدهم بالنظريات الإدارية إلى ساحة التطبيق العملي ، حتى أيقن أن العلم وحده لا يكفي للنجاح الإداري ، فلم تزده المعرفة العلمية إلا خبالاً وتشويشاً .
كما شهدت الساحة الإدارية – في الجانب الآخر- أعداداً ليست قليلة هي الأخرى من المتعثرين والمعاقين إدارياً ، ممن قضوا عقوداً من الزمان في العمل الإداري ، حتى غدوا آثاراً متحفية ، ورمماً محنَّطة ، وخشباً مسنَّدة ، فلم يزدهم طول الخبرة إلا إخفاقاً إلى إخفاقهم ، وتعثراً إلى تعثرهم .
ولا ينكر المراقب العادل جهود كثير من هذين الصنفين ، ومحاولاتهم المستميتة في التفوق الإداري ، ورغبتهم الأكيدة في النجاح الميداني ، ومع ذلك لم يحسنوا الأداء ، بغضِّ النظر عن مقاصدهم ومراميهم من وراء هذه الجهود ؛ إذ إن المقصود هو تحقيق مصالح المجتمع ، بضمان حقوقه ، وحفظ مكتسباته ، وتنمية ثرواته ، وأما مقاصد المسئولين ونياتهم ، فهذه إلى المطَّلع على الخفايا سبحانه وتعالى ، فمأجور ومأزور .
ولقد شهدت الساحات الإدارية رجالاً عِصاميين ، قد حفت أقدامهم ، وقرحت أيديهم ، وما وصلوا إلى شيء ذي بال يشفي الغليل ، ويتناسب مع حجم الجهود المضنية التي بذلوها ، فبدلاً من أن يديروا عجلة التنمية إلى الأمام ، أداروا عجلة التخلف إلى الوراء ، فما أدركوا عجزهم الفطري ، وقصورهم الذاتي إلا حين بلغوا نهاية المطاف الإداري ، وقد تعبوا في أنفسهم ، وأتعبوا من حولهم .
إن العنصر الأساس الذي نقص المخلصين الإداريين من هذين الصنفين هو الفطرة الإدارية ، التي أعدت صاحبها وهيأته – بإذن الله تعالى – إلى النجاح الإداري ، سواء في مجال القيادة الإدارية والتخطيط ورسم الاستراتيجيات ، أو في الساحة الميدانية والتطبيقية العامة .
في حين لا يجد المفطور إدارياً عنتاً كبيراً لبلوغ أهدافه الإدارية المنشودة بأقصر الطرق ، وأقل الجهود ، وأسهل السبل ، إذ إن العمل الإداري - في نظره - لا يعدو أن يكون وسيلة الشرفاء إلى بلوغ المقاصد النبيلة ، فيزداد بنجاحاته تعزيزاً لذاته ، وقوة تمده بالطاقة إلى الأمام ، وحركة عملية ناجحة في الواقع الإداري .
وبناء على هذا التأصيل لفهم النجاح الإداري ؛ فإن الإدارة العربية المعاصرة تفتقر إلى هذا الصنف من الإداريين المفطورين على الفكرة الإدارية ، فتحتاج إلى وضع آليات محكمة لاكتشافهم ، وبرامج متفوقة لتأهيلهم ، ومن ثمَّ تمكينهم ليقودوا مشاريع إدارة التنمية ، في الوقت الذي لا تحتاج فيه الإدارة إلى أولئك الإداريين العصاميين – فضلاً عن من هم دونهم - مهما بلغ حجم جهودهم ، ومراتب إخلاصهم ، إلا في مواقع التنفيذ الميداني ، والتطبيق العملي ، الذي لا يحتاج إلى الفكر الإداري ، بقدر حاجته إلى إتقان التنفيذ ، أما القيادة الإدارية المؤثرة بالفكر والتوجيه ، ورسم الاستراتيجيات ، والإشراف العام فلا حاجة لها بهم ؛ فإن الواقع العربي لم يعد يحتمل مزيداً من الاختلال الإداري ، والتعثر التطبيقي ، سواء من حمقى الإداريين ، أو من المتسلطين الفاسدين ، وقد أحسنت وزارات العمل العربية حين اتخذت شعارها : (...إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) !!