مقال شهر ربيع الأول 1434هـ
تحييد الغريزة الجنسية
في خبر الفتاة الهندية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. ، فإن الحكمة الربانية اقتضت تركيب جمع من الغرائز والدوافع الطبيعية في البنية الإنسانية ، تدفع الإنسان دفعاً - بما تحمله من قوة ذاتية - نحو مصالحه المحدودة من جهة ، وتدفعه أيضاً باتجاه المصالح البشرية العامة من جهة أخرى .
وقد اصطلح المختصون على تقسيم الدوافع الإنسانية إلى قسمين : دوافع أساسية أولية فطرية غير مكتسبة ، وتشمل النوع البشري بأسره في كل الأزمان والبقاع ، وتحمل في ذاتها قوة وانفعالاً ، وشعوراً ملحًّا ، وديناميكية محرِّضة ، تدفع الإنسان دفعاً لإشباعها ، وتحقيق مقاصدها ، وبلوغ أهدافها ؛ لما لها من ضرورة لحفظ النفس ، أو بقاء النوع ، إضافة إلى ما يعبر عنها حسِّياً من الإفرازات الطبيعية ؛ كإفرازات المعدة عند الجوع للتعبير عن غريزة الطعام ، وإفراز اللبن عند المرضع للتعبير عن غريزة الأمومة ، وإفراز المني عند الرجل للتعبير عن غريزة الجنس .
وأما القسم الثاني من الدوافع الإنسانية فهي الدوافع الثانوية التي تأتي في المرتبة الثانية ؛ كسلوك التقليد والمحاكاة ، والميل نحو الاجتماع ، وحب الاستطلاع ، ونحوها من الدوافع التي – غالباً - ما تمثل حاجة تحسينية عند الإنسان ، يتضايق بفقدها ، ويأنس لوجودها ، إلا أنها لا ترقى إلى حدِّ الضرورة الإنسانية الملحة ، ولا تمثل خطراً يهدد البشرية ؛ كما هو الحال مع الدوافع الأساسية .
وعلى الرغم من وضوح جملة هذه المفاهيم لدى عموم المثقفين والباحثين والمفكرين ، واعترافهم الواضح بأهمية الدوافع الإنسانية الأساسية ، وضرورة احترامها ، وخطورة التلاعب بها أو إهمالها ، إلا أن بعضهم لا يولون الغريزة الجنسية - بصفة خاصة- حقها من الاعتراف والاحترام ، ولا يقدِّرون خطورتها الاجتماعية ، كحال باقي الغرائز الأساسية ، فترى كثيراً منهم ينزل بها إلى درجة الدوافع الثانوية ، وربما تجاوز بعضهم ليعدها – على الطريقة الكنسية - رجساً إنسانياً مقيتاً ، لا ترقى الإنسانية – في نظرهم – إلا بالترفع عنها ، فتراه يصفُّها ضمن آخر حاجات الإنسان .
ويأتي هذا الطرح الساذج في الوقت الذي يعجُّ فيه العالم المتحضر في دركات سحيقة من الهوس الجنسي ، ومظاهره السلوكية الصارخة ، وشذوذاته الفكرية المتطرفة ، التي تنمُّ عن عمق الجوعة الجنسية ، وجذورها العميقة الضاربة في عمق النفس الإنسانية ، والتي تعبر عن نفسها بعنف منطلقها الفطري المتأصِّل ، وتحتل مكانها بقوة دافعها الغريزي الملح ، رغم المحاولات اليائسة لتهميشها وإقصائها ، وحصرها في جانب الظل من حياة الإنسان ، وحشرها ضمن قائمة الثانويات من اهتماماته .
بل يتعدى هؤلاء (الزهاد) – بحجة الارتقاء بالسلوك الإنساني بعيداً عن الشهوات – فيصفون كلَّ من يلفت الاهتمام إلى الغريزة الجنسية ، ويحذر من مثيراتها الشهوانية ، وتبعاتها الخطيرة ، وينبِّـه لاحترامها بأنه شهواني ، لا يعرف من العلاقة بين الجنسين إلا داعي الشهوة ، فيدَّعون – بثقة مفرطة - إمكانية قيام علاقة نزيهة خالصة بين الجنسين ، مبرأة تماماً من المضامين الجنسية ، والخواطر الشهوانية ؛ بحيث تخلص العلاقة الاجتماعية بين شاب صحيح وفتاة مستحسنة من الدافع الغريزي الفطري ، ودواعي الشهوة الطبيعية المركَّبة بين الجنسين ، بعبارة أخرى إمكانية تحييد الغريزة الجنسية ! وشلِّ نشاطها الشهوي ، وتخليص السلوك الإنساني وتنقيته من داعي الشهوة ، الذي يشوب العلاقة بين الجنسين ، ويعكِّر صفاءها وبراءتها !
وللأمانة العلمية : فإنه لا يبعد أن يكون لمثل هذا الطرح الفكري المتطرف حقيقة واقعية محدودة ، قد عاينها هؤلاء (الرهبان) ، وعاشوا آثارها الواقعية في أنفسهم ، فعبَّروا عنها بصدق حالهم ، وأفصحوا عنها بواقع مآلهم ، حينما لم يعد لهم إرب في النساء ، ولا طاقة لهم بهنَّ ، بعد أن خارت قواهم الجسدية ، واضمحلت طاقاتهم الشهوية ، وفقدوا الذاكرة الجنسية ، فعادوا صبياناً لا يميزون بين أجسادهم وأجساد الصبايا ، يتمنى أحدهم أن يصادف من امرأة موقفاً يبعث في جسده المترهل الحياة ، أو منظراً يبثُّ في بدنه المتراخي النشاط ، فهو جائع نفسياً ، عاجز بدنياً .
وهو في هذه الحالة المراخية يعبِّر بحق عن واقعه الشخصي المهزوم أمام الجنس الآخر ، ولهذا يتعجَّب من حال المغتصبين ، مستغرباً وجود مثل هذه الطاقة الجنسية عندهم ، فيتساءل في نفسه : من أين أتى هؤلاء بكل هذه الطاقة الشهوانية ؟ وفي الوقت نفسه يستغرب من الغيورين أمرهم بحفظ عورات النساء ، ونهيهم عن الاختلاط المشين بين الجنسين ، فلا يفهم – من واقع حاله الشخصي- المسوِّغ لذلك ، ولا يدرك الداعي له ، فالمرأة لا تعني له شيئاً .
والعجيب في شأن هؤلاء المتفلسفة أنهم – في طرحهم هذا - يرتقون ببعض الحاجات الإنسانية الثانوية إلى درجة الضرورة التي تهدد البشرية في أصل وجودها ؛ كالحاجة إلى التعبير بحرية ، أو الحاجة إلى الاجتماع دون قيود ، أو الحاجة إلى المشاركة السياسية ، فيجعلون من مثل هذه القضايا والحاجات التحسينية مفاصل ضرورية ، الموت – في نظرهم- أهون من فقدها ! رغم أن غالب المجتمعات البشرية عاشت قروناً متطاولة من الزمان – ولا تزال - دون أن تتمتع بهذه الحاجات ، فلم يعقها هذا الضيق السياسي من التقدم في غالب المجالات الفكرية والعمرانية ؛ بل ربما كانت الحياة البشرية في غمَّة الاستبداد أطول منها في ظل الحريات .
ولا يفهم قاصرٌ أن المقال يسوِّغ للاستبداد السياسي ، فهذا شأن القاصرين اجتماعياً ، وإنما هي محاولة لوضع الأمور في نصابها ، وتقديم الأهم على المهم ، والضرورة على الحاجة ، وإنما العيب كل العيب فيمن يجعل الضرورة الخطيرة حاجة تحسينية ، والحاجة التحسينية ضرورة لا غنى عنها .
ولعل مما يوضح الوجهة التي يسعى المقال إلى إبرازها : قضية الفتاة الهندية ، التي وقعت أحداثها مؤخراً في ديسمبر 2012م بمدينة دلهي ، وكانت لها أصداء اجتماعية وسياسية واسعة : محلية وعالمية ، حين تعدى جمع من الشبان الهنود بالاغتصاب الجماعي على فتاة داخل حافلة ركاب كانوا يستقلونها ، مما أدى إلى موتها ، فعلى الرغم من شناعة الجريمة وبشاعتها ؛ فإنها دلالات الغريزة تعرِّف بنفسها ، ومعالم الفطرة تذكِّر بمكانها ، فتُشعر الساذجين بوجودها ، وتنبـِّه الغافلين لسلطانها ، فهي هنا يقظة حاضرة ، بكل عنفها وعنفوانها ، فهي ليست مجرد حاجة تعبيرية ، أو رغبة سياسية ، يمكن أن تؤجل أو تؤخر ، وإنما هي قوة ذاتية محرِّضة ، وديناميكية طبيعية محرِّكة ، تدفع نحو بقاء النوع ، واستمرار النسل ، ولو كان ذلك بأبشع الطرق ، وأقبح الوسائل ، فمياه الرجال – بالضرورة - سائرة إلى أرحام النساء ، سواء كان ذلك بالشرع أو بغيره ، بإقرار المجتمع أو برفضه ، فالفطرة غلابة .
ولقد باءت جهود العالم أجمع بالإخفاق في كفِّ الجائعين جنسياً عن انتهاك أعراض النساء ، ومازالت الإحصاءات العالمية تسجل ارتفاعاً مستمراً لجرائم الاغتصاب ، رغم شدة العقوبات القانونية ، وانتشار الوعي الاجتماعي والأخلاقي .
والعجيب أن حادثة الفتاة الهندية وهي تتفاعل محلياً في الهند ، وتداعياتها الاجتماعية والسياسية تأخذ محلها في توجيه القضاء ؛ لإنزال أشد العقوبات على الجناة المعتدين ، ومع هذا كله تطالعنا وسائل الإعلام باستمرار عن مزيد من حوادث الاغتصاب وعنفها في مدن الهند وأقاليمها ، وكأن شأن هذه الفتاة وتداعيات قضيتها لا تعني المغتصبين في شيء .
وهذا دليل آخر ينضم إلى باقي الأدلة الواقعية على أن الغريزة لا تضبطها القرارات الإدارية ، ولا تؤدِّبها العقوبات القانونية ، ولا توقفها المظاهرات الشعبية ، وإنما يهذبها الدين الحنيف ، بالأحكام الشرعية ، والآداب المرعية ، التي تعطي هذه الغريزة – كغيرها من الغرائز – حظَّها من الاهتمام والرعاية والاحترام ، لتقوم بمهمتها الحيوية في اقتناص الولد لبقاء النوع ، واستمرار النسل لدوام الحياة ، فلا تَكبت الطاقة الشهوية ، ولا تَقطع أسبابها ؛ وإنما تضبطها وتوجهها ، فلا تسمح بممارستها خارج نطاق الزوجية مهما كان الدافع ، ولا تجيز إثارتها في المواقف الاجتماعية مهما كانت الغاية .
فكم هو رديء تعامل المجتمع المتحضر مع الغريزة الجنسية ؟ فتراه يسمح بالإثارة الشهوانية في أقبح صورها ، وأحطِّ مواقفها ، ويتيح الأنثى في كل مكان ، ويضعها في أحقر مقام ، سواء في الحياة العامة ، أو على وسائل الإعلام والدعاية ، ثم هو بعد ذلك يأمر الشاب الأعزب ، المتوقد نشاطاً ، والممتلئ حيوية بتحييد غريزته ، فيأمره بأن يضبط نفسه ، وأن يحكم سلوكه ، أمام كل هذه الإثارة والإغراء ، فيطلبون بذلك المستحيل ، وكأنهم- بطلبهم هذا - يرومون تحويل الرجال إلى تيوس وكباش مخصية ، مسلوبة الدافع الغريزي ، ترعى بسلام كامل بين العنزات والنعاج .
ولئن كان مثل هذا الطلب الساذج ممكناً فهو إيذان بانقراض البشرية ، وزوال الإنسانية ، وأفول عصر الإنسان على الأرض : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ) .