مقال شهر صفر 1434هـ
الحديث عن الجودة في العالم الثالث
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فإنه لا يختلف اثنان على أهمية مراعاة الجودة في أداء الأعمال ، وإنجاز المشروعات ، وإنتاج المصنوعات ، وتقديم الخدمات ؛ إذ الجودة مطلب ملح للمواطنين ، والجهات الرسمية والخاصة ، لا يستغني عنها أحد ، وهو ما عبَّر عنه الشرع الإسلامي بالإتقان ، وفي الحديث : (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) .
وتأتي الجودة أداء إضافياً على العمل الأساس ، يسبغ عليه درجة مضافة من المتانة ، والحسن ، والكمال ، بحيث تنطبق مضامين الدعاية ، وشروط الأداء ، ومواصفات المنتج على السلعة المعروضة ، وعلى العمل المنجز ، وعلى الخدمة المقدمة ، فلا يجد العميل فروقاً من الغرر والخداع- أياً كان حجمها – بين ما بذله من المال ، وبين ما ناله من : الخدمة ، أو الأداء ، أو السلعة .
إن من الضروري التفريق بين : إنجاز العمل ، وتصنيع المنتج ، وتقديم الخدمة ، وبين إخراج هذه الجهود متقنة في ضوء معايير الجودة المحكمة ؛ إذ إن السوق المعاصرة تعجُّ بالأعمال ، والمنتجات ، والخدمات ، إلا أن الخاضع منها لمعايير الجودة قليل ، بل إن الواقع التجاري قد فرض على العملاء القبول بالتنازل عن أدنى درجات الجودة ، وضيَّق عليهم مجالات الاختيار الحر ، حتى استمرأ الناس الوضيع من كلِّ شيء ، مقابل القليل من المال ، فقد بلغ ببعض المجتمعات المعاصرة القبول جهاراً بتداول السلع الفاسدة والمقلَّدة من جميع المنتجات بلا استثناء ، بما في ذلك الدواء ، حتى بلغ الحال بالأسواق التجارية أن تقبل بمزاحمة محلات بيع الخردوات ، التي تعرض بضائعها بأبخس الأثمان ، وتورِّدها للسوق التجارية بسعر الطَّن ! ولا تضمن لمنتجاتها أي درجة من الجودة .
وهذا الواقع المتردي يجري أيضاً على كثير من أنظمة المناقصات الرسمية ، التي تشترط - غالباً وبصورة مطلقة – أقل الأسعار ، بغض النظر عن توقع جودة الأداء ، وإتقان المنتج ، وكمال الخدمة ، فتجد المؤسسات والشركات الانتهازية والوهمية مكاناً لها بين الأخرى التي تحترم سمعتها ، وتأبى أن تنزل بأسعارها إلى حد الكذب الفاضح ، فتجد مؤسسات وشركات الخداع ثغرات في الأنظمة الرسمية ، تنفذ من خلالها إلى مقاصدها الحقيرة ؛ إذ إن غالب العقود الرسمية – مهما كانت متقنة ومحكمة بالمواصفات – فإن الأنظمة الرسمية لا تسمح بالخصم من قيمة حقوق المقاول – مهما كان أداؤه رديئاً – بأكثر من 10% من قيمة العقد ، مع جمع من الجزاءات والضوابط التي لا ترقى إلى مقصد الجودة المنشود ، بمعنى أن المؤسسة الوهمية ، أو الشركة سيئة الأداء – مهما أخفقت – فإن إحداها تخرج من عقدها بما يوازي 90% من قيمته على أقل تقدير ، مع ما قد ينالها من الجزاءات الأخرى ، دون أن تقدم أدنى درجات الأداء المقبول ، فضلاً عن الحديث عن جودة الأداء .
وعلى الرغم من هذا الوضع الإداري والأدائي المتردي في العالم الثالث : تتصايح بعض الجهات الرسمية والخاصة ، وترفع أصواتها متشدِّقة بالحديث عن الجودة النوعية والشاملة ، وتخصص مناصب وإدارات كاملة لضبط الجودة ، وتزعم أنها تسعى لفرض معايير الجودة العالمية على إداراتها ، ومنتجاتها ، وخدماتها ، وأعجب من ذلك أن بعضها يسعى بجد للحصول على شهادات رسمية باعتماد الجودة ، وبالفعل قد تصدر لبعضها شهادات اعتماد ، إلا أن كلَّ هذا التهريج لا يغير من الحقيقة ولا الواقع شيئاً .
إن من الضروري أن يسبق الحديث عن الجودة حديث آخر أهم عن العمل ذاته ، وعن الأداء الطبيعي الذي يجب أن يتوافر أولاً بشروطه الأساسية قبل الحديث عن شروط إتقانه ، وضوابط تجويده ؛ إذ إن الإتقان أداء يصاحب العمل ، ويلازم الأداء ، ويرافق الإنجاز ، فليس الإتقان شيئاً بديلاً عن العمل نفسه ، فلا يأتي منفرداً عن أصل الأداء ، ولا منفكاً عن طبيعة المنتج ، أو الخدمة المقدمة .
إن من المغالطة القبيحة التنادي بالجودة قبل توفير العمل الأساس المراد تجويده ؛ كالحديث عن ضرورة تجويد التكييف في مبنى ليس فيه أجهزة تكييف أصلاً ، أو الحديث عن جودة المناهج مع العجز عن توفيرها ، أو الحديث عن جودة الخدمات الصحية في مستشفى يخلو من أدنى درجات النظافة .
إذ لابد أولاً من توافر الأداء الأساس ، الذي يعطي العمل صفته الطبيعية ، ويميزه عن غيره من الأعمال والأنشطة ، ومن ثمَّ تأتي معايير الجودة بالضبط والإحكام لما قد يفوت من دقائق الأداء ، وعيوب الصنعة الخفية ، وإخفاقات الغفلة ، التي قد تصدر عفواً بلا قصد ، فعلى سبيل المثال : الوجود الملفت للحشرات الزاحفة والطيارة في منشأة صحية يعد جريمة صحية ، أتت من جهة اختلال الأداء الصحي في شروطه الأساسية ، التي تعطيه صفة الأداء الصحي ، وتميزه بطبيعته عن المنشآت الأخرى ، فهذه المنشأة لا تفتقر إلى معايير الجودة فحسب ، بل تفتقر بقوة إلى أصول العمل الطبي ، وأسس الصنعة الصحية .
لذا يُعد الحديث عن معايير الجودة في مثل هذه المنشآت المتهالكة ، ومحاولة تطبيقها ، ومن ثمَّ السعي في الحصول على شهادات اعتماد جودة هو في حد ذاته تهريج دعائي ، ما لم يكن في حقيقته جريمة يحاسب عليها أصحابها .
إن الحديث المتصاعد في الدول المتقدمة عن الجودة لم يأتي مستعجلاً ولا صدفة ، وإنما جاء طبيعياً من خلال تراكم الخبرات ، وترادف الإنجازات ، عبر عقود متعاقبة من الزمن ، قد ملئت بالتجارب والمحاولات ، لذا فقد جاء الحديث عن الجودة في الدول المتقدمة متأخراً قد نضج ، ومتأنياً قد تم نمو الطبيعي ، لقد جاء طبيعياً مؤسساً على قواعد الضبط ، وأصول العمل .
والذي يتابع تاريخ الجودة في الدول المتقدة يجده قد مر بمراحل تطويرية وتقويمية متعددة ، حتى وصل مؤخراً إلى حد المناداة بدرجة الصفر في عيوب الصنعة ، والخدمة ، والأداء ، وهذا لا شك لم يأت من فراغ ، وإنما من جهود مضنية ، وليس في هذا دعاية للدولة المتقدمة ، وإنما هو إحقاق للحق ، بغض النظر عن مقاصدهم من وراء إتقانهم للأعمال .
أما حديث الجودة في العالم الثالث فهو على العكس من ذلك ، جاء مستعجلاً ناقصاً مخدجاً ، لم يتم له نموه الطبيعي ، الذي يأتي ضمن تجارب متتالية ، وأنشطة متعاقبة ، لقد جاء الحديث عن الجودة في العالم الثالث - في غالبه- دعاية خادعة للقفز على التاريخ ، ومحاولة يائسة لاختصار الزمان ، رغبة في مزاحمة العالم المتقدم في انجازاته .
إنه ليس من العيب أن يبدأ العام الثالث متأخراً بالتأسيس الصحيح لأعماله وأنشطته ، ويكوِّن خبراته ، ويراكم تجاربه ، ثم يسعى بعد ذلك نحو الجودة الشاملة ، ومحاولة بلوغ الكمال ، ولكن العيب أن يبقى قابعاً في مكانه ، لا يحدث شيئاً إيجابياً ، ثم يدعي من الإنجاز ما ليس له ، فيلبس أثواب الزور والخداع ، في عصر لم يعد فيه الاستتار بالدعاية ممكناً .
كم هو قبيح أن تضم بعض الجهات الصحية إدارات مستقلة ضمن منشآتها لمتابعة الجودة ، في الوقت الذي تنتشر في قاعاتها ومرافقها أسراب الذباب ، فإن الذباب قاسم مشترك بين أسواق السمك وليس بين المنشآت الصحية .