مقال شهر محرم 1434هـ
غموض الشخصية التربوية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فليس بغريب في عالم السياسة أن تحمل شخصية السياسي ، أو المفاوض الدولي شيئاً من الغموض الذي يحتاجه للتفاوض والمناورة السياسية ؛ فيسعى بحكمة عقلية ، ورزانة فكرية ، ليجنِّب بلاده السوء ، ويحقق بالروية مصالحها ، ويسهِّل عليها مقاصدها ، وكذلك حال كلِّ من يعمل مع الخصوم ؛ إذ لابد له من سلامة النظر ، وسعة الأفق ، وحنكة التحاور ، ليحقق المصالح ، ويتجنَّب المفاسد ؛ فإن المتنازعيْن في الشأن السياسي لا يهمهما الوقوف على حقيقة الطرف الآخر ، والتأكد من تطابق ظاهره مع باطنه ، وسلامة مقاصده ، وحسن نواياه ، بقدر ما يهمهما الخلوص إلى مصالحهما ومغانمهما السياسية .
ولئن كان هذا التعامل سائغاً في الميدان السياسي على وجه من الوجوه ، مسموحاً به ضمن نطاق ما ؛ فإنه مستهجن وقبيح في عالم التربية الإنسانية ، التي يقصد فيها الطرفان - المربي والناشئ - هدفاً واحداً ، ويسعيان نحو مصلحة متطابقة مشتركة ؛ فلا يسوغ حينئذٍ أن تغيب حقيقة شخصية المربي خلف بهرج التعامل الزائف ، لتظهر بغير ثوبها ، وتبدو في غير صورتها ؛ إذ لا مسوِّغ لذلك إلا التخوُّن واختلاف المصالح.
إن الإنسان النامي - وهو يخطو خطواته نحو النضج الشامل – في حاجة ملحة إلى المربي الصدوق ، الذي يعيش معه التجربة التربوية بأمانة ، فلا يرى فرقاً بين جوهر الباطن والسلوك الظاهر ؛ بحيث يحيا المربي متوافقاً مع حقيقة ذاته ، منسجماً مع كيانه الداخلي ، فلا يحتاج الناشئ إلى جهود فكِّ ألغاز التعارض بين الصورتين الظاهرة والباطنة ، ولا يحتاج إلى جهد الجمع بين متناقضات المربي .
إن توافق المربي مع ذاته ، وانسجامه الصادق مع الوجهة التربوية الإسلامية : ضرورة تربوية لا غنى عنها ، فلا يُتصور بحال إمكانية بناء الإنسان الصالح- في المفهوم الإسلامي- دون أن يسبق ذلك بناء المربي الصالح ، الذي يعبِّر عن الوجهة الإسلامية بصدق العبارة وسلامة السلوك ، إذ يستحيل على المربي – مهما كان بارعاً – أن يحيي طاقة السلوك الانفعالية في نفس الناشئ ، التي تدفعه من داخله نحو السلوك القويم ، ما لم تكن هذه الطاقة حـيَّـة متوقِّدة في نفس المربي ، تصدر عنه بيسر وسهولة دون تكلُّف ، وهذا لا يتأتى له إلا حين يعيش التجربة الإسلامية بكل أبعادها التربوية : الإيمانية ، والتعبدية ، والأخلاقية ... ؛ بحيث ينال حظه الوافر من جوانب التربية الإسلامية ، حتى تفيض على محياه سماتُ التزكية والإشراق ، وتسبغ سلوكه معالـمُ التقوى والانضباط .
إن المحاولات اليائسة التي يتعاطاها المربي القاصر ، والتجارب البائسة التي يخوضها في سبيل النجاح التربوي للبناء الشامل للإنسان ، لا تعدو أن تكون جهوداً مبعثرة لا رصيد لها في الواقع التربوي ، إلا أن يكون ضمن نجاحات قاصرة ، وإنجازات محدودة ، لا ترقى إلى تطلعات الأمة الإسلامية وآمالها .
إن النجاحات التي قد تحرزها الشخصية القاصرة في الميدان التربوي ، فتُسجَّل ضمن درجات الإبداع ، هي الأخرى لا تعدو أن تكون بروزاً إيجابياً في جانب ، وضموراً سلبياً في جانب آخر ، مما يشوِّه الشخصية الإنسانية ويعكِّر صفاءها ؛ إذ لابد للنجاح التربوي الحقيقي من الشمول في بناء الشخصية من جميع جوانبها ، ليشمل ذلك العقيدة والسلوك ، العلم والعمل ؛ إذ إن الشمول من أهم خصائص الإسلام التي يتميز بها .
ولقد ظهر في المجتمع الإسلامي المعاصر أعداد من الشخصيات المبدعة في جانب ، والمخفقة في آخر ، ممن اضطرب نهج تربيتهم ، فلا يرى أحدهم غضاضة في الفصل بين الفكر والسلوك ، وبين العلم والعمل ، باعتبار أن السلوك من المسائل الخاصة ، التي لا تدخل ضمن معايير تقويم الشخصية ، بحيث يبقى السلوك الشخصي – مهما كان قبيحاً – في منطقة الظِّل من الذات الإنسانية ، فلا يتعرض لها المجتمع بالنقد أو التقويم ، وإنما بالصفح والإعراض .
إن غموض الشخصية التربوية إلى هذا الحد ، الذي يفرض على المجتمع قبول التناقض السلوكي ، والتسامح مع التعارض الخلقي ؛ بحيث يكفُّ الناس نقدهم عن بعضهم تجاه بعض ، فيتعارفوا على ترك ساحات للسقوط الخلقي ، ومساحات للقصور السلوكي ، لا ينالها النقد ، ولا يطالها التقويم : هو في الحقيقة إعلان الاعتراف بالفواحش التربوية ، ودعوة للتكيُّف المقيت مع الرذائل البشرية ، فبدلاً من أن ترقى مؤسسات التربية للاضطلاع بالمسئولية التربوية وفق معايير التقويم الإسلامي ، فإذا بها تنحط في دركات الخنوع للقصور الإنساني ، وتسقط في مهاوي الخضوع للقبائح البشرية .
إن أسوأ ما يمكن أن يصيب العمل التربوي ويناله في الصميم هو تشريع حق السقوط ؛ بحيث يصحُّ للمربي أن يحتفظ بسلوك شخصي خارج نطاق التقويم ، فيحق له – بناء على ذلك- التلوُّث بالقبائح السلوكية ضمن زاوية من زوايا شخصيته ، في الوقت الذي يُمكَّن فيه من تعاطي العمل التربوي - بأبعاده المختلفة - ضمن زاوية أخرى من زوايا شخصيته ، وعلى الناشئة الغضَّـة – على ضعف خبراتها وقصور إدراكها – أن تتكيَّـف مع شخصية المربي الغامضة ، فتتقبل منه الفكر دون السلوك ، والعلم دون التطبيق ، وعليها أن تحلَّ بنفسها هذه المعادلة التربوية الصعبة !!