معالم الحج التعبديةمقال شهر ذي الحجة 1433هـ
معالم الحج التعبدية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .. فإن المتأمل في شعائر الإسلام يجد أن كلَّ شعيرة منها تحمل معالم تعبدية خاصة تميِّزها عن الشعائر الأخرى ، وتعطيها طابعها الخاص ، وطبيعتها الفريدة ، وتزودها – في الوقت نفسه- بدورها الروحاني المميَّز ، الذي يسبغ على الشعيرة طابع شخصيتها الفريد ، وروحانيتها الخاصة ، بحيث تعمل الشعائر كلُّها - متعاضدة- في تهذيب النفس البشرية ، وتخليصها من شوائبها ، والترقِّي بها في سلم الكمالات الإنسانية ، والارتفاع بها في مراتب المعارج الروحية ، متخلِّصة بذلك عن عوائق المادة ، وثقل التراب ، وأغلال البدن ، التي تحول دون بلوغ الإنسان كماله البشري ، الذي أحبَّه الله له ، وأهَّله إليه .
ويأتي الحج بمعالمه التعبدية العشرة ، التي تبرز واضحة في مناسكه ، فتميِّزه عن غيره من الشعائر ، وتخصُّه بطابعه التعبدي الفريد ، وروحانيته الخاصة :
- الميقات : موضع للاستعداد للتلبُّس بالنسك ، والتشرف بدخول حرم مكة الآمن ، فيُعد الحاج أو المعتمر لمقام العبودية في مناسك الحج ، ويهيؤه لإعلان السلام العام : للبشر ، والحيوان ، والشجر ، فهو مسالم لهم جميعاً ، قد أمنوا جميعاً من أذاه وبطشه .
- الإحرام : وهو إيذان بدخول الحاج والمعتمر النسك - لبيك اللهم لبيك- والتلبُّس بأحكام الحج أو العمرة ، والتقيد بشروطهما ، والترفع عن ملذات الدنيا ، والإقبال على الله ، متجرداً من كل العلائق الشهوانية ، ومتطلعاً إلى تمثل العبادة ، في كمال الذل والخضوع لرب العالمين .
- الطواف : عبادة بدنية فريدة ، لا تصح أبداً في غير ساحة الكعبة المشرفة للحجاج والمعتمرين ، حين يقدم الحاج أو المعتمر مقبلاً نحوها ، معلناً التوحيد الخالص لله تعالى ، مستجيباً لنداء أبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام - متوجهاً نحو معلم التوحيد الأعظم ، الذي جمع الموحِّدين منذ أول الدهر في وجهة واحدة .
- عرفة : ساحة الذل بين يدي الله تعالى ، والافتقار إليه سبحانه ، تلك العشيَّة المباركة التي تمضي بذنوب الحجاج ، وتكفِّر سيئاتهم ، فيعودون طيِّبين كما ولدتهم أمهاتهم ، قد هذبهم النسك ، وطهَّرهم الموقف ، فنفروا من عرفة وقد غفر الله لهم .
- مزدلفة : محطَّة الحاج بين عرفة الموقف ومنى المستقر ، يجتمع فيها الحجاج ، لا خيمة ولا دار ، إنما هو التراب ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، قد أنهكهم المسير ، وأضناهم الجهد ، يختلطون بالطين ، ويلتصقون بالحصباء ، فيتلذذون بالمعاناة في سبيل الله ، كما يتلذذ الراقد على الفراش الوثير في القصر الوفير .
- الجمار : سنة نبي الله إبراهيم – عليه السلام – في رجم الشيطان ، وإعلان العداوة له ، والبراءة منه ، يرمي بها الحاج واحدة واحدة ، فيكبِّر الله ويصيب الموضع ، يقتدي بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم- تأتي هذه الجمار لتثقِّل ميزان المؤمن يوم القيام ، فتأتي في ذلك اليوم أحوج ما يكون إليها العبد .
- الذبح : شعار الموحِّدين ، يستقبلون بذبائحهم القبلة : بسم الله ، اللهم منك وإليك ، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، فيأكلون من لحوم ذبائحهم ، ويشربون من مرقها ، فيتقوون بها على طاعة الله تعالى ، ويُهدون منها ويتصدَّقون ، حتى يشبع فقراء الحرم ، الذين خصَّ الله بلدهم الحرام بلحوم الهدي والفداء .
- الحلق : عبادة الحجاج والمعتمرين حين يفرغون من طوافهم ، فيتقدَّمون برؤوسهم ذليلة لتُحلق على أعتاب رحمة الله تعالى ، يتقرَّبون إليه سبحانه بكل معاني الذل والخضوع التي يحبُّها من عبيده ، فيكون إيذاناً لهم بالتحلل من إحرامهم ، فيعودون حلالاً كما كانوا قبل الإحرام .
- منى : مستقر الحجيج ، وقرار وفد الله تعالى ، يمكثون فيها ليلتين للمتعجِّل ، أو ثلاث ليال للمتأخر ، يفرحون فيها بالعيد السعيد ، والحج الأكبر ، فيكبرون ويهللون ، حتى تضجَّ بهم جبال منى وجنبات الحرم .
- الوداع : نهاية مطاف الحاج ، وآخر معالم نسكه ، فيلوذ بالبيت العتيق ، ويقبِّل الحجر ، ويمسح الركن ، ويلتصق بالملتزم ، فيسكب هناك العبرات ، ويلهج عندها بالدعاء : اللهم لا تجعله آخر العهد بالبيت ، حتى إذا أُوذن بالرحيل ، وعزم الركب على المضي : خرج من عند البيت مودِّعاً متلهِّفاً لم يشبع منه ، وأنى له أن يشبع من فضل الله ورحمته .
إنها معالم الحج العشرة ، التي تميِّزه عن سائر العبادات الأخرى بطابع الجهد والجهاد ، والسفر والرحلة ، والنفقة السخية ، إنها عبادة روحية وبدنية ومالية ، ترتقي بالمسلم - أياً كانت منزلته – فترتفع به إلى مراتب الأصفياء ، وتخلِّصه من أسر الذنوب ، وثقل المعاصي ، فيخرج من حجِّه نقياً مطهَّراً طيباً ، فيستأنف العمل كما لو وُلد من جديد .