مقال شهر شوال 1433هـ
التعليق على أولمبياد لندن 2012م
الحمد لله ، الذي لا يحمد على مكروه سواه ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة وخيراً للعالمين ، وبعد ... فإنه لا يختلف اثنان في أهمية الرياضة البدنية للأجساد ، والمزاج ، النفس ، والصحة العامة للإنسان ، إلا أن الرياضة في العصر الحديث نحت منحى آخر بعيداً عن هذه المقاصد الحسنة ، فقد دخلتها التجارة بجشعها ، والسياسة بمكرها ، والتنافس ببغضه ، حتى أصبحت الرياضة سلعة للاستثمار والاتجار ، تتنافس عليها دول العام أجمع ، لا يكاد يشذُّ عنها أحد ، لاسيما الدول المتقدمة .
وقد حظيت الرياضة التنافسية بأنواعها المختلفة المكانة العالمية الأكبر ، ضمن فعاليات دولية واسعة ، من أشهرها وأشملها ما يسمى (الألعاب الأولمبية) ، التي تشارك فيها دول العالم بفريق رياضي متنوع للتنافس ، وكسر الأرقام القياسية السابقة .
إلا أن الجديد الذي طرأ مؤخراً على شروط مشاركة الدول في فعاليات هذه الملتقيات العالمية هو حضور فريق رياضي نسائي للمشاركة ضمن فرق كل دولة ، فلا تسمح اللجنة المنظمة للدول الراغبة في المشاركة إلا بحضور فريق نسائي يشارك في بعض ألعاب التنافس ، ولهذا لا تخطئ العين ، ولا يشك السمع الحضور الرياضي الواسع لمجموعات من نساء وفتيات العالم ، يشاركن في الألعاب التنافسية ، حتى من بعض الدول العربية والخليجية .
غير أن الملفت للنظر التوسع الكبير للمشاركات النسائية في جلِّ الألعاب التنافسية ، بما فيها حمل الأثقال ، والقفز بالزانة ، ورمي القرص والرمح ، ونحوها من الألعاب التي تفتقر عادة إلى القوة البدنية المفرطة ، واللياقة العضلية الكاملة ، التي لا تناسب الأنثى لطبيعتها الرقيقة ، وليونة بدنها ، وغلبت الدهون عليها ، مما يدفع بعض الرياضيات في الفرق النسائية إلى تعاطي المنشطات الجسمية الممنوعة عالمياً ، لاسيما في مثل هذه المشاركات التنافسية الرسمية ، فقد ضبطت الجهات المعنية في أولمبياد لندن 2012م عدداً من المخالفين بتعاطي المنشطات ، كان غالبهم من النساء ، حتى إن بعضهن ضبطن بتعاطي هرمون الذكورة (التستوستيرون ) ، بمعنى أن النجاح لا يتحقق للمرأة الرياضية على ما تهوى حتى تتخلص من ثقل أنوثتها ، وتحمل بعض صفات الرجل !! وهذا ما بدا واضحاً من ملامح النساء الرياضيات ، فقد فقدن ملامح الأنوثة ولطافتها ، وبدت أجسادهن أقرب إلى أجساد الرجال منها إلى أجساد النساء ، ولهذا فإن التدريب الرياضي العنيف ، وبناء الأجسام القوية ، ورفع اللياقة البدنية : لا يزيد الذكور إلا رجولة ، في حين يفقد المرأة أنوثتها ، وبالتالي يفقدها هويتها الجنسية .
إن إمعان الفتاة الرياضية في التنافس الرياضي ، من خلال القوة العضلية ، وسعة الصدر ، وضيق الحوض ، وتضخم الحنجرة هو في الحقيقة تكريس للذكورة وإضعاف للأنوثة ، وهو ضد فكرة المساواة بين الجنسين ؛ لأن الإنجاز الذي تحققه المرأة الرياضية المتنافسة من خلال القوى البدنية والعضلية هو في الحقيقة إنجاز للرجل ، حين أبدعت من خلال تلبُّسها بصفاته الذكورية ، وليس من خلال إبقائها على صفاتها الأنثوية ، وهذه خسارة واقعية ينوء بها كل من يصبو إلى المساواة المزعومة بين الجنسين .
إضافة إلى أن مجالات التنافس العالمية لا تزال مقسَّمة حسب الجنس ، فلا تنافس بين الجنسين في الألعاب مطلقاً ، وهذا أيضاً تكريس لفكرة التفوق الذكوري حين تجنب النساء التنافس مع الرجال ، إلى جانب أن كل الألعاب المعروضة للتنافس – من الوجهة التاريخية - وجدت أصلاً للرجال عبر قرون ، ليس بينها لعبة كانت مخصصة للنساء ، بمعنى أن المرأة الرياضية تسعى لأن تتأقلم مع ألعاب الرجل ، وتدخل مضماره الرياضي ، فليس لها طاقة أن تحدث لها لعبة تنافسية خاصة ، فضلاً على أن تفرضها لعبة تنافسية دولية ، وهذا كله يصبُّ ضد فكرة المساواة بين الجنسين .
وإن العاقل الذي يعيش فطرته الطبيعية ليتعجب : كيف استمرأ العالم المتحضر متفاخراً ظهور المرأة الرياضية شبه عارية أمام الجماهير والعدسات ، لا تكاد إحداهن تغطي إلا سوأتها الغليظة ، فالكل يرمقها ويهتف بها ، قد غابوا عن صوابهم ، والعاقل يستهجن كشف الرجل عن عورته ، فكيف بعورة المرأة ؟ والعجيب أن هذه الممارسات البغيضة جاءت متأخرة في القرن العشرين ، لم تكن معروفة في السابق ، ومع ذلك تقبلها العالم سريعاً دون نكير .
ومن اللطائف الحديثة أن اللجنة المنظمة للأولمبياد – لأول مرة- أذنت بمشاركة النساء المسلمات الرياضيات بشيء من الحجاب ، تنزلاً مع الدول والشعوب الإسلامية ، حتى لا تحرم من المشاركة الدولية ! وعلى الرغم من غرابة هذا القرار ، الذي لا يتعدى أكثر من إضافة خروق صغيرة محدودة على أجساد النساء الرياضيات ؛ فإنه قرار لا يعني غالب الرياضيات المسلمات في شيء ، فهن مشاركات بدونه من قبل ، وإنما هو طعم لطيف لجذب الدول الإسلامية التي لا تزال تجد حرجاً في مشاركة المرأة في المنافسات الرياضية الدولية .
وشأن الحجاب الشرعي أبلغ من مجرد تغطية جسد الفتاة الرياضية بما يشفُّ ويصف ، فقد نهاها الشارع الحكيم أن تضرب بخلخالها في قدمها حين تعبر أمام الرجال ، لتُعلمهم بما تخفيه من الزينة : (...وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ...) ، فكيف يجيز لها الشارع أن تضرب بجسدها كله قاصدة الجماهير المتفرجة ، مع إظهارها الزينة !! فما هو الذي أبقته محجوباً من جسدها ؟
وعلى الرغم من أن هذا الإذن الهزيل لا يعد حجاباً شرعياً بشروطه ، ولا يمنع المرأة المشاركة والمسئولين عنها من الإثم ؛ فإن بعض المنظمات النسائية البريطانية المتطرفة دفعت ببعض نسائها إلى التعري الكامل في بعض شوارع لندن احتجاجاً على هذا الإذن بالحجاب ، مما دفع الشرطة إلى منعهن والقبض عليهن .
والعجب كل العجب من بعض النساء المسلمات المشاركات في هذه الدورة – وقد أخفقن إخفاقاً ذريعاً في هذه الدورة- تتمنى إحداهن أن كانت في مرتبة هؤلاء الكافرات في تفوقهن الرياضي ، وتتحسَّر أخرى على وضع بلادها المتخلف في مجال الرياضة النسائية ، وتستعد ثالثة لمواجهة النقد الاجتماعي عند عودتها إلى بلادها ، دون أن تنظر إحداهن إلى فضل الله عليها أن كانت مسلمة ، وقد حفظ الله عورتها من الظهور ، ومع ذلك تتمنى وترجو ، وكأنهن ما قرأن قصة قارون حين تمنى سفهاء قومه أن كانوا مكانه ، فما تنبهوا لفضل لله عليهم إلا حين نجوا من الخسف الذي حاق بقارون وكنوزه : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .
والغريب أن بعضهم يحتج لضرورة المشاركة النسائية في هذه المنافسات لما فيها من الإنجاز الحضاري ، ورفع مكانة بلادهن بحيازة الميداليات ، فعلى الرغم من سعة الهوة بين الدول العربية والإسلامية وبين الدول المتقدمة في مجال المنافسة الرياضية الرجالية ، على مدى عقود متتابعة ، فإن الهوة في ذلك أوسع وأكبر في المجال النسائي ، فما زال الرياضيون العرب متعثرين منذ عقود في هذه المنافسات الدولية ، حتى إنهم لم يحرزوا شيئاً في دورة الألعاب الماضية عام 2008م ، وما أحرزوه مجتمعين في ألعاب لندن 2012م مخجل ومحبط ، فكيف والحالة هذه تريد النساء المسلمات الرياضيات أن يحقق شيئاً على المدى القريب ، وقد جاءت نتائجهن الأخيرة مخجلة ؟ في مقابل اقتطاعهن من دينهن وأخلاقهن ، لاسيما وأن هذه الدورة انعقدت خلال شهر رمضان المبارك .
وهذا التخلف العربي في مجال الرياضة الدولية التنافسية لا يضر العرب كثيراً فقد تخلفوا في كل شيء وليس في الرياضة فحسب ، فإن كان ولا بد من إحراز شيء من الإنجاز المتفوق فليكن في مجالات : البحث العلمي ، أو التفوق الاقتصادي ، أو الإبداع التقني ، أو التطور الطبي ، أو الابتكار العلمي ، فما يضير الأمة الإسلامية أن تتفوق في هذه المجالات الحضارية المرموقة ، ثم كانت بعد ذلك ذيلاً في الركب الرياضي؟
ولكن كم هو قبيح أن تجنِّس دولة عربية نساء رياضيات أجنبيات بحجة عدم التخلف عن المشاركات الدولية ، حين لم تجد من فتياتها المواطنات ، ومن أسرهن المحافظة : من يمكن أن تزجَّ بها في هذه المتاهة الدولية الموحشة .
إن العالم الحائر التائه لا ينتظر من المسلمين في هذا العصر إنجازاً رياضياً ، فقد اُتخموا بمنجزاتهم الرياضية ، وأنى للمسلمين مجاراتهم في ذلك ، وإنما ينتظر من المسلمين إنجازاً روحياً ، وتقدماً أخلاقياً ، وتفوقاً سلوكياً ، وهذا ما يفتقر إليه العالم المعاصر ويحتاجه ، وهو عين ما كُلِّف به المسلمون : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) ، فهل سوف تفيق أمة الإسلام ، وتلتفت لما كُلِّفت به ، وتُعرض عما نُهيت عنه ؟