الإعلام العربي الفضائي المعاصر

مقال شهر رمضان 1433هـ

الإعلام العربي الفضائي المعاصر


              لا يشك أحد ممن تعرض لبعض وسائل الإعلام الفضائية المعاصرة أنها أداة تربوية مهمة في تشكيل هوية الإنسان الثقافية ، وتزويده بكثير من قناعاته الفكرية ، وإلباسه بعض الطرق السلوكية ، فقد تمكَّنت هذه الوسائل – بخاصيتها النفاذة- من الوصول بالرسالة الإعلامية إلى جميع طبقات المجتمع في المدينة والقرية ، كما تمكنت بكفاءة من أسر الجميع ببريقها وجاذبيتها ، حتى ما يكاد أحد يستغني عنها ، إلا القليل النادر .


              وقد كشفت العديد من الدراسات الميدانية : أن الأطفال والشباب من الجنسين ، هم أكثر فئات المجتمع المعاصر تقبلاً للرسالة الإعلامية وتأثراً بسلبياتها ، وعند تحليل مضمون هذه الرسالة نجدها - في الغالب – تعبير عن ثقافة وافدة دخيلة ، تتعارض بصورة صارخة مع قيم المجتمع ، وثقافته الإسلامية السائدة ، حتى إن المراقب لساعات البث الإعلامي العربي اليومي ليهوله حجم الانحرافات الخلقية والعقدية ، مقابل ضآلة المادة الإعلامية الموافقة للثقافة الإسلامية ، أو المفيدة على الأقل ، حتى إن المراقب لتساءل : ما الفرق بين مضمون الإعلام العربي ، ومضمون الإعلام الأجنبي ؟ فلا يكاد يجد فرقاً كبيراً إلا في اللغة المستخدمة .


            لقد أخفق إعلامنا العربي في تقديم ثقافتنا الإسلامية للآخرين ، في حين نجح في تقديم ثقافة الآخرين إلينا ، وكأنما يعمل عميلاً مخلصاً لغيرنا ، يتقن التقليد ، ويحسن المحاكاة ، وحتى محاولات التجديد – على قلَّتها وضعفها- لا تكاد تخلو من اقتباس ممجوج عن الآخرين ، لا إبداع فيه ولا ابتكار ؛ فالبرامج الإخبارية ، مع ما فيها من القصِّ والتهذيب ، وربما التحريف أحياناً : نسخة مكررة – في الغالب - عن وكالات الأنباء العالمية ، وبرامج الحوارات السياسية على محدوديتها ، وضعف أدائها ، وتكرار شخصياتها : محاطة بخطوط حمراء وصفراء لا تتجاوزها ، وحتى ما يسمى بالبرامج المفتوحة ، التي يشارك فيها بعض العامة بالاتصال المباشر ، فيبدون آراءهم ، فعلى الرغم من سعة انتشارها في الفترة الأخيرة ، وإقبال العوام عليها ؛ فإنها برامج سطحية ، يغلب عليها البساطة والتهريج أحياناً ، يتحدث فيها غالباً من لا يحسن أصلاً الحديث في شيء ، ولكن من باب إبداء الرأي !! فيدخل أحدهم برأيه على كبرى الموضوعات والقضايا : الاجتماعية ، والاقتصادية ، وأحياناً السياسية .


              وأما البرامج الموصوفة بالثقافية ، والتي يمكن أن تفيد المتلقي بشيء ، فعلى الرغم من قلتها ، وضعف إعدادها : لا تبني- في مجموعها- ثقافة المواطن العربي ، ولا توقظ فيه همَّة وطنية ، ولا تدفعه إلى مستقبل واعد ، ولا تحيي فيه البعدين العربي والإسلامي ، ولا يخفى على المتأمل أن أكثرها عبارة عن برامج ثقافية مترجمة ، أو مدبلجة ، لاسيما تلك الموجهة للطفل ، فهي من جهة محدودة الفائدة ، ومن جهة أخرى تكرس البعد الغربي ، باعتباره مصدر الثقافة .


             وما بقي بعد ذلك من البرامج الإعلامية يُصنَّف غالبها في قائمة الترفيه والتسلية ، فقد نالت هذه القائمة حصَّة الأسد من الساحة الإعلامية العربية ، حتى صحَّت التهمة له بأنه إعلام للتسلية والترفيه فحسب ، ساعات طوال من البث اليومي المتواصل ، تبذل من أجلها عصارة ثروات الشعوب ، وتستهلك فيها خبرات مئات العاملين ، وتبدَّد فيها أثمن أوقات الناس ، كل ذلك يبذل في أمر أقل ما يقال فيه أنه سخيف ، لو لا شيء من البرامج المفيدة القليلة ، التي تأتي في آخر قائمة اهتمامات المسئولين الإعلاميين .


            وأما المرأة العربية ، فعلى الرغم من إهمال وسائل الإعلام العربية بثقافتها الإسلامية ، وضعف البرامج التربوية الموجهة إليها ، والمغالطة الكبرى في الحديث عن حقوقها ، مع كل هذه المخازي : تتآمر غالب هذه الوسائل العربية مع الإعلام الغربي في جريمة حصر المرأة في حدود جسدها ، وحبسها في قوقعة بدنها ، فهي المغنية المطربة ، والراقصة الفاتنة ، والممثلة البارعة ، والمذيعة اللطيفة ، والمسوِّقة الجذابة ، وربما أشيد بها كسياسية أو رياضية ، ضمن ممارسات صارخة في مخالفتها للوجهة الإسلامية ، التي تدين بها شعوب المنطقة العربية ، في مقابل تقصُّد فاضح بالازدراء للأم ربة المنزل ، وللمرأة المحجبة ، وللزوجة الطائعة .


              في هذا الخضم الإعلام الملوث ظهرت مؤخراً قنوات إسلامية منضبطة ، ساهمت بعض الشيء في سدِّ الهوة بين الواقع الإعلامي المحبط ، وبين الأمل الإعلامي الواعد ، فرغم ما حققته هذه القنوات الإعلامية الجديدة من نجاحات محدودة ، وعطاءات متواضعة ؛ فقد بقي جلُّ الرسالة الإعلامية الإسلامية قاصرة العطاء ، ضعيفة الأداء ، محصورة في : الوعظ ، والدرس ، والفتوى ، والترفيه ، وشيء من التثقيف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، وربما انحدرت بعضها إلى حدِّ التهريج المخل بجدية المسلم .


             إن أهمية الإعلام الإسلامي تظهر من كونه لسان الأمة الصادق ، المعبِّر عن : دينها ، وأخلاقها ، ومبادئها ، وتصوراتها ، في أثواب إعلامية مبدعة متجددة جذابة ، وليس هو الإعلام المقلِّد الذي لا يحسن التجديد المنضبط ، ولا يعرف التطوير المبدع .


             إن الأمة الإسلامية تعيش اليوم تحدٍ حضاري كبير ، يستهدف الأمة في عمقها الثقافي ، ويقصدها في أصل وجودها ، فلا يرى لها حقاً مشروعاً في الحياة بدينها ، في الوقت الذي يحق فيه لكل صاحب دين – أياً كان- أن يعيش تعاليم دينه - مهما كانت غريبة - ويمارس طقوسه ، مهما كانت خرافية ، أو شاذة ، أو حقيرة ، في هذا المأزق الحضاري الخطير لابد من إعلام إسلامي قوي وصادق ، متفوق ومبدع ، يسير في اتجاهين ؛ الأول : في إحياء ما اندرس في الأمة من ثقافتها الإسلامية ، والثاني : في إقامة الحجة بالدين الحق على غيرها .


            إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى إعلام تربوي هادف ، يتبنى وسائل التعليم عن بعد ، بأبعادها المتفوقة والمتطورة ، ليصل بالمعرفة العلمية بكل عناصرها التربوية إلى المتلقي العربي والمسلم في كل مكان ، لاسيما في المناطق النائية ، والقرى البعيدة ، فضلاً عن المدن والعواصم الحضارية ، بهدف رفع آصار الأمية عن المسلمين من جهة ، ودفع عجلة التقدم والتنمية من جهة أخرى .


             إن هذا الأمل المنشود للإعلام العربي بأبعاده الثقافية والتربوية يستلزم بالضرورة إعادة بناء مؤسسات الإعلام العربية من جديد ، على أسس إسلامية وعلمية محترفة ، تتبنى الفكرة الإسلامية بأبعادها الإنسانية الشاملة ، ورؤاها المستقبلية الواعدة ، متحررة من قيود الرأسمالية الخانقة ، بحيث تكون مؤسسات الإعلام العربي والإسلامي مؤسسات للنفع العام ، تقدم النفع للناس بلا مقابل ، كحال المرافق الدولة العامة ، فلا تتحكم فيها رؤوس الأموال ، ولا الدعايات التجارية .