مقال شهر شعبان 1433هـ
المسئولية الاجتماعية المشتركة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة إسلامية أصيلة ، نصَّ عليها القرآن الكريم ، ونصت عليها السنة المطهرة ، ومارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه العظام ، وسلف الأمة الكرام ، نهضوا مدفوعين بالواجب الشرعي ، ينشروا المعروف ، ويعرفوا الناس به ، ويعرُّون المنكر ، ويحذرون الناس منه .
يقول الله تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ويقول سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...)، ويقول عن ربط الخيرية بهذه الشعيرة المباركة : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محمِّلاً الأمة عامة هذا الواجب الشرعي : (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ، فتدعونه فلا يستجيب لكم) ،
إن الهدف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : هو تصويب الأمة ، وتجديد دينها ، والمحافظة عليها لتبقى دائماً على الجادة الواضحة ، كلما شذَّ منها أحدٌ ، أو جماعة : دعاه البقية ؛ فأمروه ونهوه ، حتى يعود إلى الصف الاجتماعي .
وحتى المرأة المسلمة تشارك في هذا الواجب الشرعي ؛ فهي عضو اجتماعي ، شأنها في ذلك شأن الرجل ؛ فالأحكام الشرعية شاملة للجنسين ، إلا ما ورد تخصيصه بأحدهما دون الآخر ، الخطاب الشرعي العام يدخل فيه كل المكلفين ، كل حسب موقعه ، وضمن حدود استطاعته .
بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأن اجتماعي عام ، يشترك فيه كل أفراد المجتمع : ذكوراً وإناثاً ، كباراً وصغاراً ، كل بحسبه ومكانه وعلمه ؛ وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محمِّلاً أفراد المجتمع جميعاً ، كلاً حسب قدرته ، وضمن حدود استطاعته : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ، فلم يستثني صلى الله عليه وسلم أحداً ، فالرجل والمرأة والشاب ، باعتبارهم أعضاء في المجتمع المسلم ، ينعمون برخائه ، ويألمون بشقائه ، فإنهم يدخلون في هذا الخطاب العام ، ويتحمَّلون طرفاً من المسئولية الاجتماعية ، ويبوءون بقدر من المؤاخذة الشرعية إن فرطوا وتهاونوا .
وحتى الطفل المميِّز ، الذي قارب الحلم ، وقد نال حظَّه من التربية الإسلامية ؛ فإنه يشترك في هذا الخير ، وينافس على هذا الفضل ؛ فهذا علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه- يقرر مصيره ، ويتخذ بنفسه قرار إسلامه ، فيغير دينه ، ويخاطر بنفسه ، ويشارك في بعض أحداث الدعوة الإسلامية في أول أيامها بمكة قبل الهجرة ، حين كان الدخول في الدين الجديد خطراً على النفس والمال والأهل ، كل ذلك كان منه – رضي الله عنه- قبل أن يبلغ الحلم .
وكذلك السيدة عائشة- هي الأخرى رضي الله تعالى عنها- تشارك أسرتها المباركة في أشد وأخطر أحداث الدعوة في الفترة المكية ، وتكابد معاناة الهجرة ، وحفظ أسرارها ، وهي لا تزال طفلة ، لم تبلغ الحلم بعد .
وليس في هذا التكليف إثقالٌ على العامة ، ممن عجز عن دقائق العلوم الشرعية ؛ لأن المعروف العام ، والمنكر المشتهر ، اللذيْن يشترك في معرفتهما الجميع ؛ فإنهم يشتركون أيضاً فيهما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة ؛ كالأمر بالصلاة والصيام والزكاة ونحوها ، مما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام ، وكالنهي عن الكذب والغش والسرقة والنميمة ، مما هو أيضاً معلوم ومشتهر عند العامة قبحه ، فليس في هذا تكليف بما لا يستطاع .
وهذا هو الباب الشرعي الذي يدخل منه عوام المسلمين ، ويشتركون فيه مع العلماء المجتهدين ، فيما يتعلق بالشأن الاجتماعي العام ، فيدخلون معهم في شرط الإجماع العام ، فيما هو ضروري من العلوم الشرعية ، التي حصلت لهم معرفتها بالضرورة الاجتماعية ، دون كلفة النظر والتأمل والاستدلال ، التي تخصُّ أهل العلم والتخصص الشرعي .
ولعل هذا الفهم يحل تنازع العلماء في مسألة شرط دخول العامة في الإجماع ، بين من يشترط دخولهم لعقد الإجماع ، وبين من لا يشترط ذلك أصلاً ، بل يرفضه لكونهم مقلدين وليسوا مجتهدين ، فالعامة – من هذا الباب- يدخلون في الإجماع فيما هو معلوم من الدين بالضرورة ، من العلوم والمعارف الشائعة ، التي لا يُعذر العامي بجهلها ، فيشتركون جميعاً – في هذه المسائل العامة- بالأمر بالمعروف والنهي عن النكر ، أما مسائل دقائق العلم الشرعي ، التي تفتقر إلى الاجتهاد : فلا يدخل العامة في شرط الإجماع ، بل ولا يُقبل منهم لأنهم ليسوا بمجتهدين .
والمتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أهل السفينة ، الذين انقسموا بين أعلاها وأسفلها : يجد فيه العبرة كاملة واضحة بضرورة إشراك الجميع في المسئولية الاجتماعية ، فقد شملت المسئولية الأمنية جميع أصحاب السفينة ، ووضعتهم جميعاً - دون استثناء – أمام واجب جماعي عام ، وفرض أمني شامل ؛ إذ الكل – حتى الطفل المميِّز – يدرك خطر خرق قعر السفينة ، ويستوعب بسهولة حجم الجرم الذي يقدم عليه هؤلاء السفهاء .
ومثل هذا السلوك الأخرق ، الذي بان قبحه للعامة قبل الخاصة ، وظهر سوؤه للجميع ، مما قد يقدم عليه المجاهر بالمعصية المشتهرة التي يستقبحها المجتمع ؛ فإن الجميع حينئذٍ يشتركون في رده ، ويتوزعون فيما بينهم حجم المسئولية الشرعية ، كل بحسبه وموقعه ، فلا يحتاجون – في مثل هذه المواقف الواضحة- إلى مزيد بيان ، ولا إلى مزيد وضوح ؛ لأن العلم بقبح هذا السلوك المشين ، مما هو معلوم من الدين بالضرورة ، قد حصل لهم اضطراراً دون تكلُّف ؛ إذ لا يحتاج العامة من الناس لفهم قبح هذا الأمر إلى إمعان النظر ، ولا إلى مهارات الاستدلال ، فقد حصل لهم العلم به اضطراراً .
ومن هذا الباب الواسع يشترك الجميع في مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويسهم الكل في حماية المجتمع من جهة ، وإشاعة الخير من جهة أخرى ، وللناظر أن يتأمل حجم الخير الذي يمكن أن يشعَّ في المجتمع ، حين يشارك العوام- فضلاً عن العلماء- في هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة ، فيشتركون جميعاً في الأمر بما يعرفونه يقيناً من دين الإسلام ، وينهون عما ينكرونه يقيناً : فأي مجتمع تراه يكون ؟