مقال شهر ربيع الآخر 1433هـ
منطلقات نحو النهضة التنموية
الناظر في الواقع المعاصر يجد أن التنمية حاجة تتطلع إليها كل المجتمعات الإنسانية ، ولا سيما المجتمعات الإسلامية في العالم الثالث ، التي تعاني تخلف التنمية وتعثرها منذ عقود طويلة ، فما تزال خطواتها التنموية متأرجحة ، وإنجازاتها الحضارية دون مستوى طموح شعوبها .
والمتأمل في اتجاه الإسلام الاقتصادي يجد أن سبيل النهضة التنموية يقوم على ثلاثة منطلقات أساسية :
المنطلق الأول : هو أن يكون الله تعالى هو غاية التنمية الكبرى ، وهدفها الأسمى ؛ بحيث تنعكس مفاهيم العبودية لله تعالى على جميع الأنشطة الاقتصادية ، في كلياتها وفي جزئياتها ، فلا يشد عن ذلك شيء ، ويكون الإنسان غاية التنمية الصغرى ، في : رعايته ، وكرامته ، ورفاهيته ؛ فالإنسان هو عنصر التنمية الأول وأساسها ، فلا يصح بحال أن تتجنى عليه التنمية بالضرر ، في نفسه ، أو بدنه ، أو عقله .
المنطلق الثاني : تجاوز النموذج التنموي الغربي ؛ فرغم تفوقه الظاهر إلا أنه يحمل في ذاته أسباب دماره ؛ فقد سقط أحد شقيه ( الاتحاد السوفيتي ) من الجهة الاقتصادية ، وها هو شقه الآخر ( الغرب ) يترنح تحت ضربات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والموجعة ، إضافة إلى المظالم الاقتصادية الكثيرة في : سوء توزيع الثروة ، وتخريب البيئة ، والغش ، والاحتكار ، والتنافس غير البريء ، التي تحول في مجموعها دون تأهيل الغرب لمقام القدوة التنموية ، ومع ذلك فلا يمنع هذا الحذر من اقتناص الإيجابيات في النموذج الاقتصادي الغربي ، فالحكمة ضالة المؤمن ، وما بث الله من النعم في الكون هي في الأصل للمؤمنين ، حتى وإن جرت على أيدي غيرهم : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...)
المنطلق الثالث : الاعتماد على الذات الإسلامية لقيام النهضة ؛ فقد ثبت أن التنمية لا تأتي من الخارج ، وإنما هي إرادة وطنية صادقة ، تلمُّ ثعثها ، وتستلهم التاريخ والتراث ، ثم تفرغ وسعها في التعامل الجاد مع الواقع المتخلف ؛ فإن التنمية الاقتصادية تفتقر إلى قاعدة ثقافية يعتز بها أصحابه ، وأمجاد يفتخرون بها ، وتاريخ ينتمون إليه ، وكل هذا متوافر بقوة واتساع لأمة الإسلام ؛ إضافة إلى أن الأمة الإسلامية لا ينقصها عدد ، ولا علوم ، ولا أرض ، ولا خامات ، وإنما تنقصها الإرادة الصادقة ، والعزيمة الماضية .
إن مما ينبغي أن يعلم : أن ما يصلح لغيرنا ليس بالضرورة يصلح لنا ؛ فالنظم الاقتصادية ليست قواسم مشتركة بين الشعوب ؛ إذ لا بد للنظام الاقتصادي من بيئة تلائمه ، والبيئة الإسلامية تتعارض بصورة صارخة مع أسس وغايات النموذج الغربي ، وإن كانت تتقاطع معه في العديد من الآليات التنموية ، إلا أن ساحة التعارض بينهما كبيرة .
ثم إن طرق النهضة ليست حكراً على النموذج الغربي وحده ، فهناك نماذج أخرى متفوقة في العالم المعاصر ، مثل النموذج الياباني ، والكوري ، والصيني ، مع ما في هذه النماذج من عيوب وقصور ، ومع ذلك أثبتت وجودها في مقابل النموذج الغربي .
ومع كل هذه النماذج التنموية المعاصرة يمكن استحداث نماذج أخرى جديدة ؛ فكنوز الكون ملأى بنعم الله تعالى التي ادخرها للمؤمنين ، ولن يجدي تنافسنا مع الغرب في ميدان تفوقه ، الذي قطع فيه شوطاً كبيراً ، حتى نبتدع نحن أنموذجاً جديداً مبتكراً للتنمية ؛ فإن الطبيعة المسخرة للإنسان بإذن الله تعالى لن تبخل على المؤمنين الصادقين بما أكرمت به الكافرين المكذبين ، فلا يبعد أن تجد الأمة الإسلامية – حين تستعين بالله وتفرغ وسعها - مخرجاً جديداً للتقدم الحضاري ، يتنكب كل النماذج الجاهلية المعاصرة ، ويأتي بالأمة في المقدمة ، في زمن قياسي قصير ، وما ذلك على الله بعزيز .