مقال شهر صفر 1433هـ
الأمن الفكري والديمقراطية
يكثر الحديث عن الأمن الفكري ، باعتباره صمامَ أمان في القضية الأمنية ، التي ينشدها عامة الساسة القياديين ، رغبة منهم في استقرار المجتمع وسكونه ، وسلامة البلاد من التوترات والنزاعات السياسية ؛ إذ لا يمكن بحال أن تستقر أوضاع دولة ما ، دون أن تستقر اتجاهات شعبها ضمن الأطر النظامية ، وتلتزم الجماهير بالمسالك المشروعة للمشاركة السياسية ، ضمن ما تعارف عليه المعاصرون بعنوان : الديمقراطية ، التي أصبحت التعبير النظري الوحيد أمام المفكرين ، والآلية الفريدة أمام الممارسين ، يتحالم بها المضطهدون ، ويتغنى بها المستضعفون ، وكثيراً ما يدَّعيها المتسلطون .
وبغض النظر عن مشروعية الفكرة الديمقراطية من عدمها ؛ فإن الأمن الفكري المنشود في هذه الحقبة الزمنية المعاصرة : يقتضي العمل ضمن المسارات السياسية التي تتيحها العملية الديمقراطية ؛ بحيث تجد الاتجاهات الشعبية بكل أطيافها وسائل نظامية للتعبير السياسي ، والترويج الفكري ، بعيداً عن الاضطهاد والتسلط والاستبداد ، الذي حال زمناً طويلاً بين خطاب النخبة وآذان وأذهان العامة .
وعلى الرغم من المحاذير الشرعية التي قد تترتب على هذا النوع من الحرية ، إلا أنه الاتجاه السياسي الأسلم في ظل الربيع العربي ، وضمن الحراك الشعبي ، وفي واقع الأمة السياسي المعاصر ، الذي لم يعد يطيق القمع السياسي : فكرياً كان أو سلوكياً ، في أي صورة من الصور ، وتحت أي مبرر من المبررات .
فإذا حازت النخب الفكرية حقها في حرية الممارسة السياسية ، ضمن المسارات الديمقراطية ؛ فإن قدراً كبيراً من الاحتقان الشعبي سوف يتنفس ، والجزء الأكبر من الآراء والأفكار والتصورات ، التي عاشت في الخفاء زمن الاستبداد : سوف تظهر على الساحة الفكرية ؛ لتنال نصيبها من النقاش والنقد والتمحيص ، فعلى الرغم من خطورة ما قد يطرح من الآراء والمفاهيم في ظل الانفتاح السياسي ، إلا أنه يبقى هو الأسلوب الأفضل في هذا الوقت ، من جهة وأد نهج الاستتار ، الذي يؤصل للأفكار الشاذة ، ويقوي مكانها في العقول الساذجة ، ولا يتيح للنقد البناء بلوغها بالنظر والفحص .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه لن يصح في الأذهان والقلوب إلا الصحيح ، ولن يتقبل الناس في نهاية المطاف إلا الصواب ؛ فإن على الحق نوراً يصعب حجبه عن الفطر السوية ، وسرعان ما ينطفئ الباطل بظهور أنوار الحق : (...فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ...) .
لقد مكث المبطلون دهراً من الزمان في ظل الاستبداد ، وقد تمكنوا من جميع وسائل التعبير ، يعرضون باطلهم مزخرفاً ومنمَّقاً ، خالياً من النقد والتمحيص ، في الوقت الذي يعبرون فيه عن الحق الحبيس بما يشوهه ، ويلحق أهله العار والشنار ، فإذا سنحت الفرصة لإظهار الحق بجلال دون عوائق ، في ظل التطبيقات الديمقراطية المتاحة : كان الإعراض عنها للقادر عليها ، وتورُّعه منها من سوء التدبير ، وقلة التوفيق .
إن الأصوات اللادينية ، التي أخذت فرصتها كاملة زمن التسلط والاستبداد السياسي : انكشفت حقيقتها ، وظهر حجمها في الانتخابات الأخيرة في دول شمال أفريقيا ، نهاية عام 2011م ، حين سمح للشعوب - ضمن الآلية الديمقراطية – أن تختار لنفسها بحرية دون عوائق ، فوقع اختيارها على من يعبر بصدق عن ثقافة الأمة وحضارتها ، ويبقى الرهان قائماً على حسن أداء هذه الأحزاب الإسلامية في الواقع السياسي ، إن هي بالفعل مُكِّنت من مباشرة مهماتها السياسية ، ونجت من فخاخ الأنظمة البائدة وكمائنها التي خلفتها وراءها .
إن إشاعة الحق بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وما ينشأ عن ذلك من تطبيقات صحيحة صائبة : هو وسيلة الأمة الأولى والأهم لتحقيق الأمن الفكري ، وإن أسوأ ما لحق بالحق أن كان سراً ، لا يعلمه إلا القليل ، أو كان مشوَّهاً ينفر منه الكثير .
إن النفس الإنسانية لا تستقر ولا تسكن إلا حين تطمئن بمعرفة الحق بجماله وكماله ، ولا يتم لها ذلك حتى تطمئن أيضاً لإشاعته وتمكُّنه ، فإذا اختل الحق في ذاته ، أو ضعف في نفسه ، أو اهتز مكانه ؛ فإن النفس تضطرب وتألم ، بقدر فهمها للحق وتعلقها به وبتطبيقاته الواقعية .
كما أن التردد في إشاعة الحق ، أو إخفاء بعضه ، أو تأويل فهمه على غير وجهه الصحيح ، بهدف تضليل الرأي العام ؛ فإنه في الغالب لا يخدم القضية الأمنية التي يسعى إليها القادة السياسيون ، بل يزيد من شراسة المخالفين الظامئين للحق بلا شوائب ، ويقوي اتجاههم .
وهنا تختلف تعبيرات النفوس عن اضطرابها وألمها ، فقد تتوحش إلى درجة التدمير للذات ومن حولها ، وقد تقنط وتغرق في مستنقع الإحباط واليأس ، وبين الطرفين المتناقضين نفوس أخرى صابرة محتسبة ، لا يزيدها اختلال واقع الحق في ذاته ، أو في ضعف مكانه : إلا إصراراً على مسلك الاعتدال ، وتشبثاً باليقين ، الذي أطمأنت له النفس ، وسكن له الضمير ، وفي الحديث : (...لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) .
إن الديمقراطية ليست التعبير الأمثل للشورى الإسلامية ، فضلاً عن أن تصبح بديلاً لها ، لكنها - مع ذلك – الآلية المعاصرة الأنسب للمشاركة الجماهيرية في أنظمة الحكم ، وهي المتنفس السياسي الوحيد الذي يقره العالم ، ويوافق - في الغالب - على نتائجه ، وهي في الوقت نفسه الآلية المناسبة لضمان الأمن الفكري ، واستيعاب التيارات المتطرفة في الجانبين ، ضمن آليات منظمة ، وذلك بدلاً من إقصائها ، الذي قد يولِّد مزيداً من الغلو والتطرف .
ولا يزال إعلان أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه – مدوياً ، عالياً في أفق سامٍ رفيع ، حين سمح لأشرس فئات المجتمع وأقبحها : أن تشارك في الحياة العامة ، وأن تعبر عن نفسها الشاذة ، وآرائها المتطرفة بكل حرية ، حين قال للخوارج الأولى : (...لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، و لا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ، و لا نبدؤكم بقتال ) ، فكانت سنة راشدة في التعامل الأرحب مع الفئات الناشزة ، إن هي التزمت سلوكياً بالجماعة ، وانحصرت فكرياً في الرأي المجرد عن السيف ، فلن تلبث آراؤها النشاز أن تتبدد سريعاً وتضمحل ، حين تقابل بالحق الخالص المشاع بين الناس : (قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) .