الهوية الدينية : ضرورة ملحة

مقال شهر ذي الحجة 1432هـ

الهوية الدينية : ضرورة ملحة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمَّا بعد.. فإن هوية الأمة الإسلامية ممثلة في عقيدتها وأخلاقها وقيمها، وتصوراتها ومفاهيمها، وعاداتها وتقاليدها: لم تتعرض قطُّ لخطر الضياع والاضمحلال والذوبان ـ عبر تاريخها الطويل ــ كما تعرضت في هذا العصر، ولاسيما بعد التطور المذهل لوسائل الاتصال والنقل، وبالتالي ظهور مفهوم العولمة بأبعاده الفكرية والثقافية والاقتصادية، الذي يفرض نفسه ــ من خلال قوى التسلط العالمية ـ بديلاً واحداً للثقافات المحلية، والخصوصيات القومية؛ بحيث تنصهر الأمم قاطبة ــ بكل ما تحمله من تراث قومي، وخصوصيات ثقافية ــ في قوالب ثقافية عالمية عامة، تذوب فيها كل المعالم: الخصوصية والقومية والتراثية؛ لتتشكَّل من جديد، في صور وأشكال ونماذج، تختارها قوى التسلط والسيطرة العالمية.


ولئن كان هذا الهدف الحالم في حق طبيعة الجماعات الإنسانية بعيد المنال؛ إذ يصعب على الطبيعة الأممية ــ في الغالب ــ ذوبان هويتها الثقافية بالكامل؛ بحيث لا يبقى لها أثر في حياة الأمم الاجتماعية، إلا أن جزءاً ضخماً من الخلخلة الفكرية، والزعزعة الاجتماعية لابد أن يصيب الأمم من جرَّاء هذا الضغط الحضاري الثقافي العالمي، ولاسيما الأمم التي تعيش على هامش الحضارة المعاصرة، وتقتات على فضلاتها، دون أن يكون لها دور في تشكيلها، أو جهد في بنائها.


وعلى فرض وجود أمم تتقبل الثقافات الدخيلة، وتمتزج معها إلى أبعد حد ممكن؛ فإن طبيعة الثقافة الإسلامية، وهويتها الدينية لا تقبل الشرْكة بحال، في أيِّ صورة من الصور، وتحت أيِّ مبرر من المبررات: (...وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ...)؛ وذلك لأن مفهوم العبودية في المفهوم الإسلامي ينتظم كل جزئيات وكليات حياة المسلم؛ بحيث تعتبر الإعراض عن الجزء هو إعراض عن الكل، فلا يمكن للأمة الإسلامية أن تحقق العبودية الخالصة لله تعالى حين تكون قد خضعت في أي جزئية من جزئيات الثقافة إلى مصادر جاهلية دخيلة.


ولابد في هذا السياق من التفريق بين مفهومي العلم والثقافة؛ فإن طبيعة العلم لا تختص بأمة دون غيرها؛ فالعلم يحمل الخاصية الإنسانية العامة، التي يشترك فيها جميع الناس، ويظهر ذلك بوضوح في العلوم الكونية، التي لا تتأثر بثقافة أهلها، ولا تنطبع هويتهم الدينية، في حين تتأثر العلوم الإنسانية ــ كأقوى ما يكون ــ بثقافة أهلها، وخصوصياتهم القومية والتاريخية، ومن هنا يظهر أن طبيعة الثقافة خاصية أممية، تختص بكل أمة على حدة، ليست كحال العلم في طبيعته الإنسانية العامة.


ومن هنا كان سعي الأمم حثيثاً للحفاظ على ثقافاتها وخصوصياتها من الثقافات الأخرى الدخيلة، بل إن بعض الأمم التي تشترك مع غيرها في جزء كبير من أصولها الثقافية والتاريخية: تأبى أن تذوب فيهم، أو أن تتحد معهم، وترفض أن تتخلى عما بقي من أجزاء ثقافتها وهويتها التي تميزها عن غيرها؛ ولهذا تتبنى الدول قاطبة خططاً وبرامج وأنظمة عامة، تسعى من خلالها كل دولة لبث هويتها الثقافية، وتصوراتها العقدية، ومبادئها القومية في أبنائها منذ المراحل الأولى من الطفولة المبكرة، ومروراً ــ بعد ذلك ــ بمراحل التعليم المختلفة، مؤكِّدة في كل ذلك على خصوصياتها، وما تتميز به عن غيرها.


وبناء على هذا الواقع الاجتماعي العام: فإنه ليس من البدع المستنكرة أن تهتم الأمة المسلمة ــ كغيرها من الأمم ــ بهويتها الدينية، فتراعيها وتؤكد عليها، وثبتها في نشئها من خلال البرامج العلمية المختلفة، منطلقة في ذلك من مبادئها، وقيمها، وخصوصياتها، التي تنفرد بها عن غيرها، وتتميز بها عن سواها، في عصر أصبحت فيه الهوية الدينية: ضرورة ملحة.