مقال شهر شوال 1432هـ
تفعيل خطبة الجمعة
الخطيب والخطبة
( القسم الأول )
لقد أجمع التربويون على أن الوعظ أسلوب من أساليب التربية التي جاء بها الإسلام ، ضمن العديد من الأساليب التربوية الأخرى التي جاء بها ، مثل : أسلوب القدوة ، والقصة ، وضرب المثال ، والترغيب والترهيب ونحوها ، فالوعظ أسلوب تربوي له فعاليته البالغة ، وأداؤه الخاص في إعادة تشكيل الشخصية الإنسانية ، وتحريكها من الداخل نحو : التذكر ، والتفكر ، والتأمل ، في الواقع والمآل ، وفي النفس والمجتمع ، بحيث تبقى النفس متيقظة بصورة دائمة ، منتبهة لمسيرها في الحياة ، فلا تطول غفلتها ، ولا تستحكم قسوتها ، كلما غفلت نبِّهت ، وكلما نسيت ذكِّرت ، ولهذا جاءت خطبة الجمعة ملبية لهذه الطبيعة الفطرية في كيان الإنسان ، تتعاهده في كل أسبوع بموعظة ، وتتناوله في كل جمعة بتذكرة ، فلا يغيب المسلم عن الحقائق الشرعية ، فينشغل بالدنيا عن الدين ، وبالعاجلة عن الآجلة .
لقد شرع الله خطبة الجمعة وركعتيها المباركتين شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة ، يجتمع لها المسلمون في بيوت الله تعالى ، يأتونها مندفعين بقوة الشرع الملزمة ، قد نفضوا أيديهم من مشاغل الدنيا ، وفرغوا قلوبهم من شواغل الحياة ، حتى إذا حضروا المساجد ، وأحاطوا بالمنابر ، ودنوا من المحارب ، وحانت ساعة الزوال : خرج إليهم الأئمة الوعاظ ، يتلون عليهم آيات التقوى ، وأحاديث النبوة ، يحركون بها القلوب ، ويوقظون بها النفوس ، وقد أطرق الجميع آذانهم للخطبة ، وأرعى الحاضرون أسماعهم للموعظة ، فلا ينشغلون عنها بقول ، ولا بذكر ، ولا بفكر ، يتعبدون الله تعالى بالسكون والإطراق ، والهدوء والإنصات ، قد أسلموا آذانهم للخطباء ، يجلسون في خشوع بين أيديهم ، وقد فتحوا لهم قلوبهم وعقولهم منصتين ، لا يقاطعونهم ولا يجادلونهم ولا ينازعونهم ، ما داموا على المنابر يخطبون ، وبذكر الله منشغلوين ، فما أعظم هذه الشعيرة التعبدية ، التي جاءت بكل هؤلاء الرجال والشبان ، من كل طبقاتهم ، وبجميع مقاماتهم ، من العلماء والشرفاء والقادة والأغنياء والبسطاء والفقراء ، وحتى الأعاجم ممن لا يفهمون القول ، ولا يفقهون المراد ، قد أتوا الجمعة طائعين لله تعالى ، منساقين لأمره ، يتعبدون الله تعالى بشهود الجمعة .
والجهاد في الإسلام لا يقتصر على السنان ، بل يكون بالسنان وباللسان أيضاً ، وإن الخطبة من جهاد اللسان ؛ إذ إن القول هو الأصل في تبليغ الدعوة ، وإقامة الحجة ، والله تعالى يقول : ( وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) ، وهاهم المسلمون بين يدي خطبائهم مستسلمين ، يفرغون في نفوسهم وعقولهم أنوار الهداية ، ويسمعونهم كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، يصوغونهم صياغة ربانية ، ويبنونهم بناء إيمانياً ، حتى يكونوا مسلمين كما أراد الله تعالى لهم ، وكما أحب لهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه فرص دعوية شرعية متكررة ، فرضها الله على البالغين القادرين من ذكور المسلمين ، أتاحت للدعاة الخطباء – بقوة الشرع – أن يوجهوا المصلين ، بما يحقق مقاصد الشارع الحكيم من فرض إقامة صلاة الجمعة ، بأن يكون الدين كله لله تعالى وحده ، وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، فلا شيء يعلو على كلمة الله تعالى .
هذه الفرص الشرعية المتكررة أسبوعياً ، والمدعومة بخطب المناسبات تتطلَّب من الخطباء والوعاظ ، والجهات المعنية في وزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف مزيد عناية واهتمام ؛ لأنها مناسبات فرضها الشرع وسنها لإصلاح الناس ، والترقي بهم في مراتب الكمالات البشرية ، فهم يحضرون الخطبة – خاصة خطبة الجمعة - مهيئين للموعظة ، مطرقين أسماعهم للخطباء ، يتزودون من عبير الخطبة لأسبوعهم ، ثم يعودون في الأسبوع المقبل لمثلها ، بل إن بعض المصلين يقتصر على خطبة الجمعة في موارده الثقافية ، فلا مصدر للمعرفة عنده إلا ما يسمعه من الخطباء على المنابر ، فدور الخطيب مع بعض المصلين لا يقتصر على مجرد أداء الفرض ، بل يتجاوزه ليشمل الناحية التعليمية ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم السبق الأكبر في هذا المجال ؛ فقد كانت خطبه مليئة بالعلم ، مفعمة بالمعرفة ، خرَّجت فقهاء الصحابة وعلماءهم ، مع ما حملته مواعظه الجليلة من قوة التأثير في النفوس ، وعظيم الأثر في السلوك ، حتى إن الصحابة – كبارهم وصغارهم – رضي الله عنهم ، لا يملكون أعينهم حين يستمعون لوعظه - عليه الصلاة والسلام – فحري بالخطباء والوعاظ في كل عصر ، أن يولوا خطبهم ومواعظهم العناية البالغة ، ويعطوها القدر الأكبر من وقتهم وجهدهم ، مستغلين في ذلك حكم الشرع ، الذي ألزم المصلين بالحضور والاستماع ، ولو قُدِّر لبعض الأمم والأحزاب والجماعات الأخرى مثل هذه الفرص الوعظية المتكررة لدى المسلمين لكان لهم معها شأن آخر .
ومن هذا المنطلق الشرعي والواقعي تجدر الإشارة إلى بعض المقترحات والوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها تفعيل خطب الجمعة والمناسبات الشرعية ليعظم أداؤها ، ويكمل عطاؤها ، ويمكن حصر الموضوع في عنصرين رئيسين هما : الخطيب والخطبة ؛ فالخطيب من جهة شخصيته ، وما يحتاج لها للقبول الاجتماعي ، والتأثير في الناس ، والخطبة وما تحتاجه من الإتقان والضبط ليحصل تمام الانتفاع بها ، وذلك على النحو الآتي :
أولاً : الخطيب :
الإخلاص لله تعالى بقصد القربة إليه ، من خلال ممارسة هذه العبادة العظيمة .
الحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء هذا الفرض الشريف .
التأكيد على عمق الصلة بالله تعالى ، والروحانية العالية ، من خلال طول العبادة والتنسك ، والإكثار من القرب والطاعات .
التعرف على أحكام صلاة الجمعة من كتب الفقه الإسلامي ، والتقيد – قدر المستطاع - بالراجح منها والأكمل ، والتعرف على ما تصح به هذه الشعيرة .
التمكن العلمي : الشرعي والتربوي ، والثقافة العامة ، والواقع المحلي والعالمي ؛ بحيث يلم الخطيب بما يحتاجه من المعارف العلمية والثقافية والواقعية لإعداد الخطبة .
استحضار النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، والتزود بالحصيلة الأكبر منهما ، مع سلامة الفهم لهما على نهج السلف الصالح .
القدوة الصالحة في كريم الخلق ، وحسن السمت ، وسلامة السلوك ، بحيث تنعكس على شخصية الخطيب آثار معاني خطبه ومواعظه .
البعد عن مواطن التهم بما يحقق نظافة ثوبه ومكانه وسمعته ، مستشعراً مقامه الإصلاحي ، ودوره التربوي في المجتمع .
المصالحة مع سكان الحي والتوافق معهم بما يحقق رواج مكانه عندهم ، واحترامهم لشخصه ، واقتداءهم به .
تجنب إثارة المصلين واستفزازهم وتنفيرهم بالعبارات أو الألفاظ أو المواقف غير اللائقة ، التي تبعث الكراهية والبغض في نفوس الناس .
إشعار المصلين بالمحبة والاحترام والتقدير ، والحرص على مصالحهم الدينية والدنيوية .
البعد عن التنطع في الأحكام ، والتزمت في المواقف ، والتشدق في الألفاظ ، واعتماد نهج اليسر والتيسير ، والسماحة الإسلامية ، في غير تكلف أو مصانعة .
تجنب عبارات الإطراء والتملق والمداهنة للمسئولين ، واعتماد نهج الاعتدال في غير غلو .
الاعتزاز بمقام الإمامة والخطابة ؛ لما فيه من القيام بأعظم شعائر الدين ، والنهوض بالدعوة ، في غير تكبر ولا غرور .
التفاعل مع الخطبة في طور إعدادها ، وفي طريقة إلقائها ؛ بحيث تنقل عبارات الخطبة وانفعالات الخطيب مشاعره القلبية الصادقة إلى الحاضرين ، مما يزيد من انفعالهم معها ، ومن ثمَّ تأثرهم بها .
أخذ الخطبة بشيء من الحماسة والعاطفة والانفعال في غير تكلف أو إفراط ، وتجنب البرود والرتابة والتكرار ، التي لا تحرك ساكناً ، ولا توقظ نائماً ، ولما في هذه المسالك من الضيق والإملال .
الترفع بالمنبر عن : المداهنة ، والمجاملة ، وساقط القول ، والأخذ بميثاق الشرع في الصدع بالحق وعدم التخاذل ، في غير اندفاع وعنف ، ولا غلو وشطط ، وفي الإشارة القصيرة الواضحة ما يغني الخطيب عن طويل العبارة الفجَّة .
التأني في اتخاذ المواقف ، وتبني الآراء في النوازل الجديدة ، والموضوعات المستجدة ، حتى تتبين الأمور ، وتظهر الحقائق ، والرجوع في ذلك لأهل الاختصاص ، والمصادر العلمية .
التواضع لسكان الحي ، وسعة الصدر معهم ، والسماع لهم ، وتقبل نقدهم ، والتعاون معهم لتحقيق المصلحة العامة .
اعتدال الخطيب بما يحقق المصلحة والنفع الأكيد ، بين كتابة الخطبة بكاملها ، أو عنصرتها في نقاط ، أو ارتجالها ، والتنقُّل بين هذه الأساليب الثلاثة ؛ بحيث يسلك – حسب قدراته المتاحة وسلامة لغته – الأفضل والأحسن ، بما يحقق بلوغ المقصود في نفع الناس ، وإيصال الخير لهم ، وليس مجرد إثبات بلاغته وتمكُّنه .
اعتماد اللغة العربية الفصحى في مخاطبة الناس ، وتجنب اللهجات العامية لغير ضرورة ، مع حسن العرض للأفكار والمعاني المراد إيصالها للمصلين .
تحسين الصوت واعتداله بين القوة والتوسط والخفض ، حسب المواقف والموضوعات ، في غير إزعاج أو تشويش .