الأهواء في البحث العلمي

مقال شهر رمضان 1432هـ


 الأهواء في البحث العلمي


الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد : فإن البحث العلمي بميادينه المختلفة ، ومجالاته المتنوعة : هو وسيلة الأمم للنهضة والتقدم ، ومطيتها لبلوغ مقاصدها الحضارية ، وأهدافها التنموية ، وقد استقر لدى المجتمعات المعاصرة ، على اختلاف تصوراتها ، وتنوع أديانها ، وتشعب خلفياتها : أهمية البحث العلمي وضرورته للتقدم الحضاري .

            وعلى الرغم من تنادي المجتمعات العربية والإسلامية مع باقي المجتمعات المعاصرة الأخرى بأهمية البحث العلمي لنهضتها ، إلا أن ميزانيات البحث العلمي العربي ، وآلياته ، وخططه ، وأخلاقياته : لا تزال تتعثر في أبجديات أصول البحث العلمي ، وتراوح مكانها ، إن لم تكن في بعض القطاعات العلمية تتراجع إلى الوراء ، في عصر لم يعد فيه مكان لغير المبدعين ، ولا إرادة لغير المبادرين .

         ولما كان الباحث هو محور العملية العلمية ، وعصبها الأكبر ، وعمودها الأساس : كان لابد أن ينال الاهتمام الأكبر ، والرعاية الأعظم ، إلا أن الباحثين على اختلاف تخصصاتهم ، وتنوع مجالاتهم ليسوا سواء ، فمنهم من تنهض به العلوم ، وتزدهر به المعارف ، ومنهم دون ذلك .

          ويمكن تصنيف الباحثين على اختلاف مراتبهم ، وتفاوت عطاءاتهم إلى ثلاث فئات :

         ولا شك أن معوقات البحث العلمي كثيرة  : مالية ، وإدارية ، ونفسية .. ، إلا أني لا أريد أن ألقيَ باللائمة في تعثر البحث العلمي على الآخرين ، وإنما أتلمس المعوقات التي نصنعها نحن أساتذة الجامعات لأنفسنا ؛ فقد وجدت بعد التأمل أن المعوق الأساس في أزمة البحث العلمي عندنا هو الهوى ، حين يتحكم في أستاذ الجامعة ، فلا يبصر ولا يسمع ولا يقتنع إلا بما يوافق هواه ، والهوى بطبيعته يتعارض بصورة صارخة مع العلم ، فإما الهوى ، وإما العلم .

        وقد يستغرب البعض : كيف يدخل الهوى في القضايا العلمية ، وإليكم أيها السادة الشواهد على ذلك ، وحتى أكونَ منصفاً : فإن هذه الشواهد ليست صورة عامة في مؤسساتنا التعليمية ، ولكنها موجودة بيننا ، نشعر بها ، ونشاهدها ، ولكن للأسف لا نقاومها ، بل قد نقع فيها أحياناً ، حين يغلب علينا الهوى ، وما أبرئ نفسي .

          وأنا هنا لن أحدد جهة بعينها ، وإنما سوف يكون حديثي عاماً بلا تخصيص ، وسوف ينصب حديثي على البحث في العلوم الإنسانية دون التطبيقية أوالهندسية أوالطبية ، ولا أظن أن القوم يبعدون عنا كثيراً .

             ومن المعلوم أن حسن اختيار المعيدين يُبنى عليه مستقبل البحث العلمي ، فمن الأهواء التي صادفتها : إعراض لجنة اختيار المعيدين في إحدى الكليات عن الطالب الأول الحاصل على الامتياز إلى الطالب الحاصل على جيد جداً ، وعندما اعترض أحد الناس على اختيار الكلية : اتهموه بالتخريف .

           على اختيار الموضوعات العلمية الجيدة يُبنى التفوق العلمي ، فمما صادفته من الأهواء في ذلك أن طالباً قديراً ، كان الأول على دفعته ، تقدم بموضوع قوي لمجلس القسم فرفضه ؛ لأن المشرف لم يكن موجوداً في تلك الجلسة ليدافع عن الخطة ، وحين تقدم بموضوع سهل ، دون مستواه : قبل مباشرة .

            طالب آخر تقدم بخطة بحثه نفسِها تسع مرات في أربع سنوات ، مرت على أربعة مجالس علمية ، كل مجلس يدخل عليها تعديلات جذرية ، تشمل الأبواب والفصول ، فخرج الطالب ليس له في الخطة إلا إتقان الطباعة .

            ومن الأهواء التي رأيتها في ذلك أن مشرفاً يتدخل بقلمه في رسالة الطالب رغماً عنه ، حتى وصل به الأمر أن صاغ له صفحة الإهداء ، فهو يرى أن الرسالة ليست مسؤولية الطالب وحده .

          مشرف يختصر أحد فصول الرسالة إلى صفحة واحدة فقط ، فأقره على ذلك أعضاء لجنة المناقشة ، ولم يعترضوا عليه .

          مشرف يقول لطالب جاد : لا تقرأ كثيراً ؛ فإنك إن قرأت كثيراً كتبت كثيراً فأرهقتنا ، اعمل رسالة كباقي الطلاب ، لا تشغلنا .

           مشرف وضع على رسالة أحد الطلاب 120 صفحة ملاحظات ، نصفها غير معقول ، وربعها وجهة نظر خاصة ، والباقي لا ضرورة له ، إلا أشياء يسيرة ، فلما قام الطالب بالتعديلات ، وقدمها للمناقشة كانت قناعة المشرف بالرسالة أكبر من قناعة الطالب بها .

             كثير من الطلاب يحرصون على موضوعات سهلة لا جهد فيها ولا إبداع ، يتصل أحدهم بأستاذ جامعة فيقول له : هل تعرف لي موضوعاً سهلاً ؟ ويقول آخر : والله لو قبلوا مني رسالة مائة صفحة ما تجاوزتها .

       طالب يعاند المناقش في تعديلات يسيرة جداً في رسالة الماجستير ، فيأبى عليه المناقش ، وتتعلق درجته سنتين ، ويضيع مستقبله العلمي .

        وطالب آخر بقي على نهاية مدته شهران لم يكتب شيئاً ، فاستدل على رجل يساعد الباحثين ، فأمره بشراء أقراص مدمجة معينة ، ودربه على مهارات القص واللصق ، فسلم الرسالة في شهرين دون تمديد ، ولم يكن المشرف يدري بما يجري ، والعجيب أن الطالب رغب أن يناقشه أفضل متخصص في المجال ، وبالفعل ناقشه متخصص متمكن ، وحصل على درجة جيد جداً ، مع بعض التعديلات .

           كثير من المناقشات العلمية تمتلئ بالأهواء ، ومن ذلك أن مناقشاً حبس الرسالة عنده ثمانية أشهر ، وقدم تقريره الإيجابي عنها ، ثم فاجأ الجميع قبل المناقشة بعشرة أيام بطلب ملحق إضافي للرسالة ، فاضطر الطالب لعمل الملحق في أيام محدودة ، فأعجب به المناقش أكثر من الرسالة الأصلية ، فوصف الطالب بالعملاق ، ثم سأله عن مصير هذا الملحق هل سوف يدخله في صلب الرسالة عند نشرها أم لا ؟ فأجاب الطالب بالنفي ، وعندها حلف المناقش أمام الحضور أنه لن يجيز الرسالة ، ثم حنث في نهاية المناقشة وأجازها بلا أي تعديلات مطلقاً مع مرتبة الشرف الأولى .

          مناقش يصفي حساباته مع زميل له ، فيعطي الطالب نفس الدرجة ( 80 ) التي أعطاها الآخر لطالبه .

         طالب ناقشه أستاذان من كليتين مختلفتين ، أحد المناقشَين اعترض على الطالب لكونه لم يشر إلى أي مرجع في مجال التخصص ، وأمره أن يذهب برسالته إلى كلية المناقش الآخر ، فرفع المناقش الآخر يده معترضاً على هذا الاقتراح ، ولما جاء دوره في المناقشة عاتب هو الآخر الطالب حين لم يشر إلا إلى مرجع واحد فقط في التخصص ، ومع ذلك حصل الطالب على الامتياز .

        مناقش يعلن أن من حق الطالب أن يدون في قائمة المراجع مراجعاً اطلع عليها ولكنه لم يستخدمها في هوامش الرسالة .

        مناقش يقضي جل زمن المناقشة المخصص له في الحديث عن قصة حياته وإنجازاته العلمية الخاصة ، ولم يأمر الطالب في أثناء المناقشة أن يفتح الرسالة ولو مرة واحدة .

         طالب متعثر أنجز رسالته للماجستير كيفما اتفق بصعوبة شديدة ، وكان المشرف في غاية الحرج من مستوى الرسالة ، فاختار مناقشَين ( طيبين ) ، فحصل الطالب على الامتياز ، وكادوا يوصوا بالطبع ، فذهل المشرف .

         الأهواء المتعلقة بالمسألة الإدارية والمجالس العلمية هي الأخرى كثيرة ، ومنها أن طالباً تقدم للدراسات العليا فمكث سنة كاملة في مقابلات شخصية عبر ثلاث لجان ، إحداها لحفظ أجزاء من القرآن الكريم ، ثم كُلف سنة أخرى لإنجاز ثلاثة أبحاث علمية ، في ثلاث تخصصات علمية مختلفة ، بلغت 250 صفحة ، ثم قُبل بعدها للدراسات العليا .

         تقدم طالب بنسخ رسالته الأربع إلى وكالة إحدى الكليات للدراسات العليا للمناقشة ، فاختفت نسخة منها ، فطلب الطالب تحقيقاً في الأمر ، فنهره المشرف   وألزمه بإحضار نسخة أخرى دون اعتراض ، وأخبره أن خصمه وكيل الكلية .

         حبست لجنة سرية في إحدى الجامعات رسالة طالب سبعة أشهر ، رغم أن الرسالة لا علاقة لها بالسياسة ، ولا بالمملكة ، ثم خرجت ملاحظات اللجنة على الرسالة مخجلة يندى لها الجبين خجلاً ، فأنجزها الباحث في يوم واحد فقط ، والعجيب أن الطالب حاول أن يعرف أسماء أعضاء هذه اللجنة السرية ، فأخبره أحد أعضاء هيئة التدريس باسم رئيسها ، وذلك بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق ألا يفشي هذا السر .

         تقدم أستاذ بمسوغات ترقيته إلى مجلس علمي ، وكان بينه وبين رئيس المجلس خلاف شخصي ، وبعد ثلاثة فصول دراسية جاءت تقارير المحكَمين الثلاثة برفض الترقية ، مع سوء أدب ووقاحة من بعضهم ، ثم تقدم الأستاذ بأبحاثه عينِها إلى مجلس علمي آخر ، فجاءت التقارير الثلاثة بالإيجاب ، وبأعلى الدرجات .

         تقدم أستاذ للترقية العلمية ، فرد المجلس العلمي أحد الأبحاث لكون الباحث كتبه قبل تعيينه على الوظيفة ، في الفترة ما بين الحصول على الدرجة والتعيين ، وصادف أن المجلة أشارت في الهامش إلى تاريخ استلام البحث ، فكان بعد أربعة أيام فقط من التعيين على الوظيفة ، فرد المجلس بناء على ذلك البحث ، باعتبار أن الكتابة قبل التعيين خيانة علمية ، وكتب المجلس في المحضر : ( هل أُنجز البحث في أربعة أيام ؟ ) ، رغم أن البحث لم ينشر في المجلة إلا بعد ثلاثة أشهر من التعيين ، فلما حاجَّهم الأستاذ باللائحة : أذعن المجلس العلمي وقبل البحث .

             وكيل كلية للدراسات العليا يقول لطالب دكتوراه متحمس لتسجيل الموضوع : ( لا تستعجل ، ليس وراءك شيء ، أمكث أربعة أشهر ، أو خمسة ، على مهلك لا تتعجل ) .

          إذا لم نتخلص نحن أعضاء هيئة التدريس من أهوائنا الخاصة ، وما قد يغلبنا على عقولنا : فلن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام ، ولن ينفعَنا أيُّ شكل من أشكال الدعم المالي للبحث العلمي ، مهما كان كبيراً .