مقال شهر جمادى الآخرة 1432هـ
دور الكلمة التربوي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ,, أما بعد ،،
فإن للكلمة المنطوقة - عبر التواصل البشري المباشر – صداها الخاص في النفس الإنسانية ، ولها تأثيرها الفعال في تعديل اتجاهات الناس ، وتوجيه اهتماماتهم ، وتغيير قناعاتهم ؛ فكم من كلمة صادقة مدوية ، قوية ممتلئة ، خرجت من فم طاهر شريف ، قد امتزجت بروح صاحبها ، واختلطت بمشاعره ، فكان لها في العقول أبلغ الأثر ، وفي النفوس غاية التقدير .
وفي الجانب الآخر : كم هي الكلمات المنمقة ، والعبارات المعسولة ، والخطب البليغة ، التي خرجت من نفوس مترددة ، وأفواه متلعثمة ، وشخصيات مداهنة ، فلم تُغنِ عن أصحابها شيئاً ، ولم تحرك ساكناً ، ولم تبعث روحاً ، ولم توقظ ضميراً ، جوفاء خاوية بلا حراك ، قد مضت كلماتها عبر الأثير لتتلاشى وتذوب ، فلا يبقى لها في حياة الناس أثر ولا رصيد .
ولما كان للكلمة الصادقة البليغة هذه القوة التأثيرية في النفوس : كانت المعجزة النبوية الخاتمة بيانية الطبيعة ، مستمرة الحجة ، دائمة القوة ، قد امتطت متن اللغة العربية ، بخصائصها المعروفة عند أهلها ، وطبيعتها البلاغية ، وأحرفها المعدودة ، لتصنع منها أعجوبة الدهر الكبرى ، والمعجزة العظمى ، والحجة البالغة ، في كتاب يُقرأ أبد الدهور ، وآيات تُتلى على مر الأزمان والعصور .
وكان صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – أبلغ الناس بياناً ، وأفصحهم لساناً ، وأوجزهم عبارة ، قد أُوتي جوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصاراً ، فملك – عليه الصلاة والسلام – ناصية اللغة ، فما سُمع الكلام من أحد أفخم ، ولا أحسن ، ولا أسلم منه ، فاجتمع للحجة الربانية : البيان القرآني ، والبيان النبوي ، فكان البيانان اللغويان حجة الله على عباده ، ومراده من خلقه ، ونهجه الذي ارتضاه لهم .
لذا كان أسلوب الاتصال الجماهيري المباشر ، عبر الخطب والمواعظ والإرشادات : هو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته ، منذ أن علا الصفا بمكة ، ينذر ويحذر ، حتى ختم حياته في آخر أيامه ، حين جلس على المنبر يعظ الناس ويودِّعهم ، ويقتص لهم من نفسه ، وبين هذين الموقفين جمع هائل من الخطب المنبرية ، والمواعظ النبوية ، والإرشادات الأخلاقية ، التي تخللت عصر النبوة المبارك ، في الجمعة والجماعات ، والحج والمناسبات ، فكانت مادة خطبه نوراً ونبراساً وهدىً للمسلمين في كل عصر ، يرشفون من معينها الذي لا ينضب روحاً تحيا به القلوب ، ونوراً تهتدي به العقول ، وأنساً تنشرح به الصدور .
لقد استطاعت الآية القرآنية ، والعبارة النبوية : أن تصنع أمة تخلد عبر التاريخ ؛ فلا تضمحل ولا تنتهي ، ولا تذوب ولا تتلاشى ، كلما خمد أوارها ، وضعف كيانها : عادت بالقرآن والسنة كأقوى ما يكون ، تجدد نفسها ، وتصلح ضعفها ، فما أن ينهض فيها بالوعظ والتذكير الأئمة المجددون ، والدعاة المصلحون ، والخطباء المشفقون ، حتى تعود جذوة الأمة متوقدة متوهجة ، كأن لم يصبها وهن ، ولم يلحقها ضعف .
لقد كانت الكلمة ولا تزال مطية الأمة لنيل غاياتها الإصلاحية ، ووسيلتها لبلوغ أهدافها النبيلة ، فبقدر ما يستمد الوعاظ الهداية من المصدرين المعصومين ، وبقدر ما يخاطبون الناس بهما وبمضامينهما ، ويسلكون بهم في ظلالهما : يحصل المقصود من إحياء القلوب ، واستنارة العقول ، ويقظة الضمائر ؛ إذ إن الوحيين جاءا موافقين للفطرة السوية ، التي فطر الله الناس عليها ، فكل ما وافق الفطرة : توافق معها ، وأثر فيها ، وكل ما خالفها : تنافر معها ، وضعف أثره فيها .