مقال شهر ربيع الأول 1432هـ
السلام الاجتماعي في مقاصد التشريع
إن من أعظم المنن الربانية والمنح الإلهية أن أكرمنا الله تعالى بدين الإسلام ، الذي ارتضاه لنا ديناً ، نتعبد الله تعالى به ، وشريعة محكمة نحتكم إليها .
وإن من أجل ما جاء به الإسلام : تحقيق السلام الاجتماعي ، من خلال حفظه ورعايته للمقاصد الخمسة : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل ، وحفظ المال ، وهذه المقاصد هي أهم ما يحقق السلام الاجتماعي الذي ينشده عقلاء المجتمعات الإنسانية .
والمتأمل في مجمل التشريعات الإسلامية يجدها تنتهي إلى هذه المقاصد الخمسة الجليلة ، وتصب فيها ، فهي لب الدين ، وقاعدته الأساسية الراسخة ؛ فمقصد حفظ الدين يهدف إلى حماية جناب التوحيد مما يفسده ، وحفظ الشريعة ممل يعطلها ، بحيث تبقى معالم الدين الحق : عقيدة ، وعبادة ، وفهماً ، قائمة بجمالها ونقائها ، بلا شوائب ولا غبش ، فيعيش المسلم سلام العقيدة الصافية الصادقة ، ويعيش أيضاً سلام الطريقة التعبدية الصائبة ، وكذلك يعيش نهج الشريعة الصحيحة ، فلا يدخله شك أو ريب أو تردد في معتقده ، ولا في طريقة عبادته ، ولا في نهج شريعته .
وهذه المشاعر الطيبة المستقرة من أعظم ما يعكسه الدين الحق على نفس الإنسان المؤمن ، وفي الجانب الآخر : فإن فساد العقيدة والعبادة ، وضياع نهج الشريعة من أشد الأسباب وراء ما يصيب الإنسان من القلق والهم والغم ، لما يدخله من الريب والشك والتردد ، ولعل في تعبيرات المسلمين الجدد ، وفي تصريحاتهم ما يؤكد هذا المعنى ويوضحه ، وكيف أنهم استقروا عقلياً ونفسياً واجتماعياً بعد اعتناقهم الإسلام ، وهذه النقلة المشاعرية لا يعرفها على حقيقتها ، ولا يعطيها حقها من الوصف إلا من حُرمها ، وذاق طعم ذل الجاهلية ، أما من نشأ ابتداء في الإسلام ، وعافاه الله من الضلال ؛ فإنه لا يصفها الوصف الدقيق ، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : ( لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية ) .
ومع كل ما يحمله وهذا الدين من الخير والفلاح والجمال فإنه لا يُفرض فرضاً على غير المسلمين ، ولا يجبرون عليه ، وإنما يرغبون فيه ترغيباً دون جبر أو قسر ، فإنه لا إكراه في الدين ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وهذه قمة الحرية على الإطلاق ؛ فإن من أعظم مظاهر السلام الاجتماعي أن يعيش الإنسان متوافقاً مع نفسه ، في حالة سلام مع ذاته ، بحيث يطابق ظاهرُه باطنه ، فلا يعيش تناقضاً بين عقيدته الباطنة التي يعتقدها ، وسلوكه الظاهر الذي يمارسه ، فيحيا متذبذباً بين هؤلاء وهؤلاء ، فقد جاء الإسلام بالنهي الشديد عن النفاق ، ووسم المنافقين بأحط الصفات وأقبحها ، ومقتضى فرض العقيدة بالقوة على غير المسلمين هو تكريس لمسلك النفاق المذموم ، ولهذا جاءت الشريعة بعدم الإكراه على الدين توقياً من نهج النفاق ، وقطع لمادته الفاسدة ؛ إذ النفاق الأكبر هو أقبح منازل الإنسان على الإطلاق : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) .
وأما المقصد الثاني فهو حفظ النفس ؛ بحيث يأمن الإنسان على ذاته ، فلا يصله من الآخرين ما يضره في بدنه ولا نفسه ، فيعيش حالة من السلام الاجتماعي مع الآخرين ، فحياة الإنسان وذاته مصونة محفوظة مكرمة ، في حمى الإسلام من الضرر ، محاطة بالحدود الشرعية والقصاص لحمايتها من الانتهاكات : وفي الحديث : (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق ) .
والمقصد الثالث هو : حفظ العقل ، فالعقل مناط التكليف ، فإذا غاب العقل غاب معه التكليف ، فيتردى الإنسان – بغياب عقله - إلى ما دون طبقة الحيوان الأعجمي ؛ إذ بالعقل يفهم الإنسان الخطاب ويستوعبه ، ويعمر الأرض ويثيرها ، ويكتشف السنن ويسخرها ، ويطور الحياة ويبنيها ؛ ولهذا جاء الإسلام بحفظ العقل من كل ما يفسده من المسكرات والمخدرات والمفتِّرات ، التي تعيقه عن الفهم الصحيح ، ويقعده عن عمارة الأرض .
وكذلك جاء الإسلام بحفظ العقل من الأفكار المشوشة ، والتصورات المضللة ، والخرافات المعطلة ، التي تذهب بطاقة الإنسان الفكرية بعيداً عما خُلقت له ، وتبددها فيما لا طائل وراءه ، إضافة إلى حفظ العقل من الملاهي المفسدة ، والإغراءات الملهية ، والشهوات الفاتنة ، التي تعطِّله عن العمل الجاد ، والإنتاج المثمر ، فإذا توقى الإنسان هذه المفاسد العقلية ؛ فإنه يحيا بسلام بين مقتضيات العقل السليم ، الذي يدل عليه صريح العقل والمنطق ، وبين سلوكه الذي ينهجه في حياته ، فيحصل بذلك التوافق النفسي بين فهمه وسلوكه .
وأما المقصد الرابع فهو : حفظ النسل ، بحيث يستمر النسل البشري بالتكاثر ، فيخلف بعضهم بعضاً على هذه الأرض ، ضمن نطاق الزواج الشرعي أو ملك اليمين ، فيلحق النسل بآبائهم وأمهاتهم ، فلا تختلط الأنساب ، ولا يتوه النسل عن انتماءاته الأسرية الحقيقية ؛ فإن من أعظم مثيرات الحقد الاجتماعي : فقدان الانتماء الأسري ، حين يشعر الإنسان أنه نتاج نزوة أخلاقية من أبوين خاطئين ، ولهذا أحاطت الشريعة هذا المقصد بالحدود والتعزيرات لحفظه من المفاسد الخلقية ، والسقطات السلوكية .
في حين يشعر الفرد بالسلام الاجتماعي والأمن والاستقرار النفسي ، حينما يطمئن لنسبه من جهة آبائه ، ويأمن على نسله من جهة أبنائه ، وهذه مشاعر جميلة وعزيزة ، لا يقدرها قدرها إلا من فقدها .
وأما المقصد الخامس والأخير : فهو حفظ المال ؛ بحيث يأمن الإنسان على أمواله وممتلكاته من الاغتصاب والضياع والغبن ، إضافة إلى تمتعه الحر بالتصرف الكامل فيه ، وتمكُّنه من تنميته واستثماره ضمن الحدود المشروعة ؛ فإن من أعظم الظلم : اغتصاب الحقوق ، أو منعها من أهلها ، وهذا من شأنه إضعاف ولاء الإنسان لبلاده ، وإثارة الضغينة في نفسه تجاه وطنه ، ولهذا تجد الذي لا يأمن على ماله في موطنه : يسافر به إلى بلد آخر يأمن فيه على ماله .
ولهذا جاءت الشريعة بحفظ الحقوق وتوثيقها ، وتأدية الأمانات وضبطها ، حتى إن أطول آية في القرآن الكريم في سورة البقرة : جاءت في حفظ الدَّين وضبطه ، إضافة إلى ما أحاطت الشريعة هذا المقصد بالحدود والتعزيرات الشرعية لحفظه .
من خلال هذا المرور السريع على هذه المقاصد الخمسة يلاحظ المطلع أنها قد شملت غالب الدين ، فإذا تحققت هذه المقاصد في واقع الحياة ، وأصبحت سلوكاً عملياً حياً يعيشه الناس : تحقق السلام الاجتماعي الذي ينشده الجميع ويطالبون به .