مقال شهر محرم 1432هـ
مشاهدات يوم الخميس
لليبراليين فقط
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه في الأرض ولا في السماء ، بيده الخير وإليه المشتكى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبعد فمنذ أن أذن لليبراليين بالحديث في الشأن العام ، والخوض في كل ميدان : وغالبهم يغالطون الناس ، بل يغالطون أنفسهم ؛ فيصورون الواقع على غير حقيقته ، وينزلون الحقيقة على غير واقعها ، ويحملون الوقائع فوق ما تحتمل ، حتى إن بعضهم – من فرط غلوه – يكذب بالواقع الشاهد ، ويصدق بالوهم الزائف ، حتى يصدق نفسه ، وربما صدقه الآخرون حتى يكذبوا أعينهم ، وينكروا مشاهداتهم ، حتى إن بعض الناس – من شدة الضجيج الليبرالي – أخذوا يكذبون بالواقع ، ويصدقون بالوهم ، حتى إن بعضهم يشاهد الموقف أمامه ، ويعاينه ببصره ، فيتوقف في فهمه حتى يتبرع له ليبرالي بشرحه .
وكم رأينا في واقعنا ، وعاينا في حياتنا من الوقائع البينات ، والمشاهدات الواضحات ، التي لا تحتمل أكثر من تفسير واحد ، ومع ذلك يتصدر لك من هؤلاء من يتهمك بخبث النية ، وغبش المقصد ، وسوء الفهم ، ويأمرك بنزع النظارة السوداء التي تغطي عينيك ، حتى تعود على نفسك ، وتكذب بصرك ، وتنكر عقلك .
بل إن بعض أهل الخير ، وربما من أهل العلم : من قد يغالط نفسه ، ويقع في الوهم ، فيكذب بما يرى ، ويؤول الواضحات ، ويسْكُن للمتشابهات ، تحت وطأة الأز الليبرالي المتفاقم ، الذي يكثر من الدوي المتتابع حتى يغلب العقل ، فيصدق الرجل بالكذب ، ويكذب بالصدق .
ومما أمعن فيه بعض الصحفيين الليبراليين الحديث عن (الفتاة الكاشيرة) ، مخالفين ومستهجنين فتوى هيئة كبار العلماء ، زاعمين أن ذلك يتم وفق الضوابط الشرعية !! والتي أخذت تتسع لكل الأحجام والمقاسات ، كحال أقمشة (الإسترتش) .
وأنا هنا أنقل ما شاهدته في يوم الخميس 19/12/1431هـ ، حين قضيت مع مريضة لي صباحاً كاملاً من أوله حتى الثانية والنصف ظهراً ، بين العيادات الخارجية والمختبر في إحدى مستشفيات جدة العريقة ، فقد هالني ما شاهدت من التطورات القبيحة في حق المرأة عموماً ، والفتيات السعوديات خصوصاً ، فليس بين العاملات منقبة واحدة أو ذات جلباب ، وإنما يلبسن زياً موحداً ، يرسم معالم أجسادهن بأدق ما يكون ، قد كشفن عن وجوههن الملطخة بالأصباغ الصارخة ، وقد أبرزن مقدمات شعورهن مصففة للناظرين ، وحزمن باقي شعورهن بخروق مزركشة ، لا تكاد تستر شيئاً ، وغالبهن - إن لم يكن كلهن - يعمل في مهن خدمية ، من التي صنفتها منظمة الأمم المتحدة بالأعمال الوضيعة المخصصة للنساء .
وأما العاملات الفلبينيات فهن على ثلاثة أصناف : عاملات نظافة ، وهؤلاء أفضل لباساً من غيرهن ، ومع ذلك لا يعد لباسهن شرعياً ، ولا حتى نظامياً ، وصنف آخر ممرضات ، ومن بينهن هنديات ، وهؤلاء أسوأ حالاً من عاملات النظافة ، وأما الفلبينيات الأخريات فإداريات ، وهن – بكل المعايير - أقبح الموجود في تبرجهن ، حتى إن الناظر لا يكاد يصدق أنه في السعودية حين يدخل هذه المستشفى وأشباهها ، ولا يستثنى من هذا الوصف إلا قلة قليلة من الفتيات السعوديات المحتشمات ، وهن بالنسبة للأخريات كملح الطعام ، وأما النساء الزائرات والمراجعات فشأنهن آخر ، والحديث عن واقعهن يطول .
والعجيب في شان تصميم هذه المستشفى أنها ضيقة جداً ، لا سيما في ممراتها ، حتى إن الذي لا ينتبه ربما اصطدم بالآخرين ، وربما داس أحد المارة قدمه ، خاصة في وقت الذروة ؛ إذ إن المارة والمنتظرين عند العيادات يتقاسمون هذه الممرات الضيقة ، فليس للمنتظر في هذه المستشفى إلا أن يخالط الآخرين ويشاركهم في المكان ، أو يغمض عينيه ويغلق أذنيه كأنه غير موجود ، أو يخرج من المبنى فينتظر في الشارع ، فالناس يتزاحمون في كل مكان .
وفي هذا الجو المفعم بالأجساد المتحركة ، والملابس الضيقة ، والأصباغ الصارخة : تنطلق الفتيات السعوديات العاملات يجبن المستشفى بشعور ناتئة ، ونهود بارزة ، وأرداف مضطربة ، ( كاسيات عاريات ) ، يستعرضن في كل مكان ، ولكن كالعادة ( بالضوابط الشرعية !! ) ، يتحدثن بأريحية كاملة مع زملائهن الشباب ، يتجاذبن معهم أطراف الحديث بلطف ووداعة ، فنصحت بعضهن ، وتحدثت مع أحد الشباب ، ولكن الخرق أوسع بكثير على الراقع .
وعندها قررت الدخول على مدير المستشفى ، فلم أجد إلا المدير الإداري فبثثت عنده همي ، فقابلني بلطف ، وأخذ يتبرأ من سلوك العاملات المتبرجات ، زاعماً أن الإدارة كثيراً ما تنصحهن بعدم التبرج ولكنهن لا يستجبن للتوجيهات !! فذكرت له التبرج الفاضح للعاملات الفلبينيات ، الذي فاق الحدود المسموح بها ، فتخلص من الإجابة بلطف ، فخرجت من عنده محبطاً لأكمل باقي يومي منتظراً في هذه الممرات الموبوءة .
حتى إذا دنت الساعة من الثانية ظهراً ، وقد مضى كثير من العاملين للراحة ، وخفت حركة المارة في الممر الرئيسي : فوجئت بما لم أكن أتوقع ، فتاة سعودية بدينة - يظهر أنها عاملة في المستشفى – متبرجة على طريقة الأخريات في شعرها وزينتها ، إلا أنها ترتدي عباءتها كأنها تستعد للخروج ، وقفت أمامي في الممر مضطربة ، تتلفت هنا وهناك ، حتى مر بها شاب هو في الغالب أصغر منها سناً ، والأظهر أنه هو الآخر يعمل بالمستشفى ، فاستوقفته وأخذت تتحدث معه ، ولا أفهم كلَّ ما دار بينهما ، إلا أنهما – كما يظهر - يعرفان بعضهما تماماً ، وقد لاحظت على الشاب شيئاً من الاستعجال وعدم الرغبة في الاستمرار في الحديث ، وأما الفتاة فكانت على العكس من ذلك : في غاية البطء والسكون والرغبة في استمرار الحديث ، وكانت – أصلحها الله – تبادله نظرات غرام وهيام ، ملؤها الإعجاب والحب والاندفاع ، وكأنها تراوده ، مما لا نعرف مثيله إلا في الدراما السينمائية العاطفية ، وكان آخر ما فهمت من حديثهما أنها تريد الذهاب معه ، فوافق الشاب على مضض ومضيا معاً في الممر ، ثم ما لبثت الفتاة إلا دقائق حتى عادت وحيدة لموقعها أمامي في الممر ، ثم اختفت .
والغريب في الأمر أن الفتاة كانت تمارس كل هذا السلوك الغرامي الشائن في الممر أمام الناس ، لا تبالي بالنظر إليها ، ولم تحترم مقامي في المكان ، وأنا رجل(مطوع) في عمر أبيها ، ولكنه سلوك المرأة المفتونة ، ومن المعلوم أن المرأة قد تأتي بالغرائب السلوكية الشائنة حين تتعلق برجل ولمَّا تصل إليه ، فإذا كان مثل هذا السلوك الرديء يحصل جهاراً نهاراً ، فماذا تراه يحصل في الخفاء ؟!
وقد أرجعني هذا الموقف ثلاثين سنة إلى الوراء ، حين كنت على إحدى الرحلات الدولية الطويلة على الخطوط السعودية ، عندما لاحظت مضيفاً سعودياً يراود مضيفة عربية ، ويلح عليها بحماسة وحرارة ، ويتحرق في حديثه معها ، وقد امتلأ بالشهوة كما يظهر على سلوكه ، وهي تمانع وترفض ، وتحاول التخلص منه ، وما كنت أظن حينها أن يأتي اليوم الذي تراود فيه الفتاة الشاب في بلادنا .
إن هذا الواقع المؤلم الذي رصدته صدفة في بضع ساعات فقط ، دون إرادة أو قصد : هو النتيجة الحتمية المتوقعة من استفحال ظاهرة الاختلاط بين الجنسين في مواقع العمل ، ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد ، بل سوف يزيد بصورة طردية مع زيادة إمعاننا في التساهل والانفلات .
وللقارئ الفطن أن ينظر : كيف سوف يقرأ الليبراليون هذه الواقعة ؟ فقد يكذبون بها ، وينكرون وجود شيء من ذلك ( يدخل في عينك ) ؛ لأنني أتحدث هنا عن طوكيو البعيدة ، لا عن جدة القريبة ، وأصف المستور خلف الجدران ، وليس ما هو ظاهر للعيان !!
وأما من يحترم نفسه من الليبراليين فيقر بوجود هذه المشاهدات الواقعية ؛ فإنه مع ذلك سوف ينطلق في التأويلات والتبريرات والمماحكات ، والطعن في النيات والمقاصد ، وإطلاق قائمة الاتهام والمجادلات المشهورة :
وغالباً لن يخرج الليبراليون كعادتهم عن هذه الأسئلة والمجادلات ؛ ليفرغوا هذه المشاهدات الواقعية عن حقيقتها ، فيهونوا الكبائر على أنفسهم ، ويضخموا الصغائر على غيرهم ، حتى يغلبوا الرجل على عقله ، فيمارونه على ما يرى ، حتى يرجع على نفسه : يلومها ويكذبها .
إن الغاية من هذا المقال هو إثبات أن تجربة الاختلاط في العمل في مجتمعنا غير ناجحة ، فهي كغيرها من التجارب العربية المؤلمة والمحبطة ، والاعتماد في ضبط سلوك الشباب والفتيات على مجرد الضمير ، والحصيلة الأخلاقية هو أيضاً ضرب من الوهم ، ومسألة ( حسب الضوابط الشرعية ) أكذوبة ليبرالية قديمة .