مقال شهر ذي الحجة 1431هـ
غموض العلاقة الزوجية
العلاقة الزوجية أرقى وأعلى أنواع العلاقات الإنسانية ، وأوثق وأشد أنواع العقود البشرية ، وهي أيضاً أعقد جوانب الحياة الإنسانية وأصعبها على الفهم والتحليل ، فلا توجد من بين علاقات الإنسان المتنوعة علاقة – مهما كانت قوية ومتينة – تصل باثنين من البشر إلى حدِّ الذي يمكن أن تصل إليه العلاقة بين زوجين ، من : التمازج الكامل ، والتداخل العميق ، الذي يخترق الآخر إلى أعمق ما فيه ، فينتج من ذلك الامتزاج الكامل ، والتداخل العميق ، والاختلاط الشامل : السكن الذي تستقر معه النفس فلا تضطرب ، فيخلد كل واحد منهما لصاحبة ويأوي إليه ، وينتج عنه أيضاً المودة وهي المحبة ، التي تجذب كلاً منهما إلى صاحبه ، كما ينتج عن هذه العلاقة الإنسانية الفريدة الرحمة وهي الرأفة التي تلقي بظلالها الوارفة على الزوجين وأسرتهما ، فتكون سبباً في دوام العشرة وطول الصحبة ، إضافة إلى إنتاج الولد وحدة البقاء ، ورمز الاستمرار الإنساني .
وما أجمل تعبير القرآن الكريم عن هذه العلاقة الإنسانية الراقية ؛ حيث يقول الله تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ، فهي علاقة ثرية فياضة ، تحمل معها من المعاني الكبيرة ، والمفاهيم الجليلة ، واللطائف الفريدة ما يستحق التفكر والتأمل ، وإدامة النظر ، فما زال الباحثون والدارسون في العلاقات الإنسانية يقفون على أعتاب أسرار الحياة الزوجية ، لم يصلوا بعد عمقها وقرارها ، فما زالوا ينظرون ، ويحللون ، ويكتبون ، ومع ذلك لم يبلغوا كنه حقيقة هذه العلاقة الإنسانية الفريدة ، وغوامض طبيعتها ، رغم أن غالب البالغين من الجنسين قد خاضوا التجربة الزوجية ، وعاينوا كثيراً من جوانبها ، وتلبسوا بالعديد من مسالكها ، وعاشوا مختلف أحوالها ، ومع ذلك تبقى تجربة شخصية يصعب تعميمها ؛ فلكل زوج خبرته الخاصة ، التي لا تنطبق بالضرورة مع تجربة غيره ، ولا تمثل بصورة دائمة تجارب الآخرين .
ولئن كان للتشابه بين الناس في العلاقات الزوجية وجوه كثيرة ؛ إلا أن الفردية الشخصية ، والإنفراد بالتجربة يبقى هو الأغلب في طبيعة العلاقات الزوجية ؛ فالتجربة الزوجية بعدد المجربين ، يصعب التماثل والتطابق بينها ، حتى وإن كان ميدان البحث العلمي يجمع بعضها إلى بعض في حقول وأصناف متشابهة ، إلا أن السرية والغموض يكتنفان طبيعة هذه العلاقة ، ويحوطانها بالستور السابغة ، التي تعيق قرار التعميم أمام نتائج البحث مهما كان متقناً ومتفوقاً ، بل لو ذهب أحدهم ليعبر بصدق وصراحة عن مشاعره الزوجية التي يعيشها ، وطبيعة تجربته الخاصة : لعجز هو الآخر أن يصل إلى كنه ذلك من نفسه ، فقد لا يزيد أحدهم – مهما كان صريحاً وصادقاً – عن وصف العلاقة الزوجية - حسب تجربته - بالسعيدة أو التعيسة ، بالجميلة أو القبيحة ، أو بالشر الذي لا بد منه ، وربما حصرها في المتعة الجنسية ، وهكذا فتراه ينطلق - مدفوعاً بآثار تجربته الزوجية الخاصة – ينصح الآخرين أو يحذرهم ، يدفعهم نحو التجربة أو يثبطهم ، أما أن يعطي تصوراً فلسفياً عميقاً للعلاقة الزوجية من خلال تجربته الخاصة فهذا ما لا يستطيعه غالب الناس ، ومن أُتي منهم شيئاً من البصيرة ودقة التأمل ؛ فإنه مع ذلك يعجز عن وصف الحقيقة الزوجية بكاملها ، فهي أكبر وأوسع من مجرد التجربة الشخصية ، وأبلغ وأدق من أن يعبر عنها شخص واحد .
إن مما يزيد العلاقة الزوجية غموضاً واستتاراً : حجم العوائق : النفسية ، والعقلية ، والجسدية ، والاجتماعية ، التي يحتاج الزوجان إلى تجاوزها لتحقيق أول درجات التوافق بينهما ، فهما - حتى ينجحا في بناء الأسرة - في حاجة إلى كسر حواجز : الذات ، والخصوصية ، والفكر ، فيصل كل منهما إلى عمق صاحبه ، مداخلاً له مداخلة كاملة ، حسيَّة ومشاعرية ، فلا يبقى معها مستور بينهما ، وبقدر نجاح الزوجان أو إخفاقهما في بلوغ هذه المرتبة من عمق العلاقة : تتقدم أو تتعثر درجة التوافق الزوجي بينهما .
والعجيب في شأن العلاقة الزوجية : أن تخطي الزوجان لهذه العوائق والحواجز المتعددة والمتنوعة ، التي تطال الذات الإنسانية بكل إبعادها وشعبها : يتم بنجاح في غالب الأحيان ، ويحصل بتفوق في فترة قصيرة جداً من الشروع في الحياة الزوجية ، وكثيراً ما يبدأ هذا النجاح - في تخطي الحواجز والعوائق بين الزوجين - عند أول لحظات لقاء الخطيبين في الرؤية الشرعية ، فيتبادلنا النظر ، ويقرأ كل منهما الآخر بصورة عاجلة ، وربما غزا كل منهما صاحبه حتى يستقر في قلبه ، فيكون الحب من أول نظرة ، وهذا تصديق قوله عليه الصلاة والسلام : (... فانظر إليها ، فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما ) ؛ يعني أحرى أن تحصل المحبة والموافقة بينكما ، فعندها تنقشع بين الخطيبين المتراضيين جملة من الحواجز النفسية ، والأوهام العقلية ، والتردد الاجتماعي ، وينفتح أمامهما خيال واسع رحب من الأحلام الوردية اللطيفة ، يتراءيانها معاً عبر نوافذ الأمل المطلة على المستقبل ، فما يلبثان طويلاً بعد العقد حتى يتعلق أحدهما بصاحبه تعلق الروح بالبدن ، فيتجاوز كلُّ منهما موروثه الاجتماعي السابق ، ويُغالب علاقاته الأسرية الماضية ، فيتخطى كلَّ ذلك إلى شقِّه الآخر ، ليبنيان معاً وحدة اجتماعية جديدة ، ويكونان لبنة أخرى في بناء صرح الأمة الاجتماعي .
وللناظر أن يتفكر متسائلاً : أي قوة هذه التي تنزع الفتاة الغضة الغافلة من باطن خدرها ، وحنان والديها ، ووشائج عائلتها ؛ لتغادر كلَّ هذه العلاقات الحمية الدافئة إلى حياة جديدة غامضة ، لا تعرف عنها إلا القليل ، فتلقي بنفسها في كنف رجل لم تلقه ربما إلا ساعات من نهار ، فتكون في إمرته ، وتحت سلطانه ، ووعاء لأولاده ، وسقاءً لهم ؟ إنها بلا شك قوة فائقة في نفس الفتاة ، وإرادة هائلة عندها - رغم ضعفها وقلة خبرتها - يصعب تفسيرها وتحليلها ، وإنما هي السر المكنون داخل النفس البشرية ، وضعه الله تعالى بحكمته بين الزوجين لدوام العشرة ، واستمرار النسل ، فيطل علينا هذا السر أحياناً من شرفة صغيرة ضيقة ، لا نكاد نراه ، فننطلق نعبر عنه بقدر ما تراءى لنا ، نصيب أحياناً ، ونخطئ أحياناً أخرى ، كالمستهلين حين يتراءون الهلال في أول الشهر ، فيتنازعون في صحة رؤيته ، فسبحان من شكَّل عباده على ما أراد ، وصنعهم كيف يشاء .