( قصة من الواقع الاجتماعي )
في يوم من الأيام الطيبة ولدت سامية لوالدين متديِّنين بعد سبعة سنوات من الانتظار والدعاء ، فكانت الفرحة بها كبيرة بين الأقارب والأصدقاء ، وأصبحت محطَّ اهتمام الجميع، أكثر من أخويها الصغيرين ، اللذين قدما بعدها بسنوات ؛ لكونها الأولى والوحيدة لوالديها.
اعتنى بها الوالدان غاية العناية ، فالأب متخصص تربوي ، والأم متخصصة في أحد الميادين الشرعية ، فحفظت القرآن ، وتعلمت معاني الدين ، وحافظت على الصلاة ، ونشأت نشأة إسلامية مباركة.
وما أن بلغت المرحلة الثانوية حتى بدأ الخطَّاب يتقدَّمون لخطبتها ، لما تحمله هي ووالديها من المميِّزات ، فما أن أتمت المرحلة الثانوية حتى وقع الاختيار على شاب من أهل بلدتها ، لا يزال يدرس في كليـة الطب ، اسمه ماهر ، وكان متفوقاً في دراسـته ، ومبدعاً في نشاطه ، متميزاً في أدائه ، إلا أنه نشأ يتيماً مع أخويه الصغيرين ؛ فقد توفي والده وهو في السادسة من عمره ، فعكفت أمُّه على تربيته مع أخويه ، ضمن حدود معرفتها العلمية ، وخبرتها الاجتماعية ، تواجه أعباء الحياة وحدها ، رغم وجود قرابات لها ، إلا أنها رأت أن تتولى شؤونهم بنفسـها ، ظناً منها أن هذا أرفق بأولادها ؛ حتى لا يتطاول عليهم أحد.
وسعت الوالدة الوحيدة في مسيرها التربوي أن تبث في ولدها ماهر طاقة نفسية ، وحماسة علمية ، رغبة منها أن تصنع منه رجلاً ناجحاً ، تفتخر وتسعد به ، فيعوِّضها عن زوجها الفقيد ، ويهوِّن عليها قسوة السنوات العصيبة الماضية.
أُعجب والد سـامية بالشـاب ماهر ، وجلس معه أكثر من مرة ؛ ليجسَّ شخصيته ، ويتعرف على مدى التزامه الديني ، فظهر له أنه شاب معتدل التديُّن ، يميل إلى شيء من التساهل المقبول شرعاً ، مع جدية مفرطة ، وصرامة قد بدت واضحة على محياه ؛ فكلامه قليل ومحدود ، وتبسُّمه نادر ، إضافة إلى دقَّته في التأنق ، وشيء من الحركة العصبية في قدميه.
لم تكن هذه الملاحظات اليسيرة لتمنع والد سامية من السعي في السؤال عنه ، فعلى الرغم من الواقعية التي كان يتسم بها والدها ، إلا أن المثالية الإسلامية كانت مؤثرة عليه ، رغبة منه في تمثل السـلوك الإسلامي الذي يحثُّ على قبـول الشاب الصالح ، وعدم رفضه لاعتبارات كمالية غير جوهرية.
وقد أسفر البحث عن ماهر وأخلاقه وتدينه – عند أقربائه وأساتذته وزملائه ومسجد حيه – عن إجماع الكل على تزكيته ، وأنه مكسب للعائلة ، فما كان من الوالد والعائلة والفتاة – أمام هذا الإجماع – إلا القبول به ، رغم أنه لا يزال طالباً ، إضافة إلى محدودية دخل أسرته المادي ، ووفاة أبيه في سن مبكرة.
ثم طلب الأب من ماهر أن يحضر لرؤية مخطوبته سامية الرؤية الشرعية ، على أن لا يُحضر معه هديَّة للفتاة ، ولا يصطحب معه أحداً من محارمه ، وألا يخبر برأيه في الفتاة إلا في اليوم الثاني بعد الاستخارة الشرعية ؛ وذلك حتى لا يُحرجه فيوافق دون قناعة كافية ، فإن كثيراً من الخطَّاب يُحرج فيضع هدية للفتاة المخطوبة إيذاناً منه بالقبول بها ، وهو في الحقيقة غير معجب بها ، وربما ألجأته أمُّه بحضورها على الموافقة ، وهذا كلُّه حرج على الخاطب ، فأراد والدها أن يجنِّب ماهراً هذه التجربة المحرجة، رغم يقينه بكمال أنوثة ابنته وجمالها وأن ماهراً سوف يُعجب بها.
وبالفعل أعجب بها الشاب وخطبها ، ولم يشترط عليه والدها أَيَّ شروط تذكر ، رغم أنه كان لسامية بضعة شروط ، إلا أن والدها رفض تسجيل ذلك في العقد ، معللاً أن الشاب صالح ومتدين ، ولا داعي للشروط المكتوبة .
وقبل يومين من موعد عقد القران جاء ماهر وسلَّم والد سامية المهر ، فأعطاه مباشرة سنداً بالاستلام ، معللاً ذلك بضرورة ضبط مسألة الحقوق المالية ، رغم أن ماهراً لم يطلب سنداً ، بل كان متعجِّباً من ذلك.
وفي ليلة عقد القران حضر إلى المنزل جمع كبير من الأقارب والأصدقاء والفضلاء والأعيان ، وكان ليلة مثالية رائعة ، أعجب بها الجميع ، بما فيهم أقارب وأصدقاء ماهر الذين حضروا معه ، إلا أن ماهراً – رغم كل هذا الأنس والبهجة- بدا كعادته : واجماً هادئاً ، لا تظهر عليه علامات الفرح ، مما لفت انتباه الحضور ، لاسيما ممن لا يعرفونه من قبل، حتى إن بضعهم حاول أن يداعبه ؛ ليخرجه عن جموده فلم يُفلح.
وفي ختام هذه الليلة أراد والد سـامية أن يُتحف ماهراً بمفاجأة لم تكن على باله ، ولم تكن ضمن برنامج الحفل تلك الليلة ، وهي أن يرى سامية قبل أن يغادر ليبارك لها عقد القران ، فعلى الرغم من موافقة سامية على هذا اللقاء السريع ، إلا أن ماهراً اعتذر عنه ، معللاً ذلك بأن الحفل في هذه الليلة خاص بالرجال ، وليس معه والدته لتحضر هذا اللقاء ، فكان اعتذاره هذا صدمة مؤلمة لسامية.
ومضى أسبوع كامل بين العقد والحفل المخصص للنساء ، لم يحاول فيه ماهر أن يتصل على سامية ، أو حتى يبعث إليها رسالة جوال ، فكان هذا الجفاء منه صدمة أخرى على نفس سامية ، التي كانت تتصف بالرقة الشديدة ، والحساسية المفرطة ، لاسيما تجاه مثل هذه المسائل العاطفية ، التي يميل إليها الفتيات بطبعهن في هذه المرحلة ، سواء كن من المتدينات ، أو من غيرهن.
قرر والد سامية أن يقيم حفلتين للنساء ، الأولى صغيرة في منزله ، لا يحضرها من نساء العائلتين إلا من كانت محرماً لماهر ، أو من النساء كبيرات السن ؛ وذلك حتى يتمكن الشاب من الزفة مع عروسه ، والجلوس بين النساء براحته دون حرج شرعي ، وأما الحفلة الثانيـة فكبيرة ، يُدعى لها جميع النسـاء من القريبات والصديقات ، وهذه خاصة بالنساء، تزف فيها العروس وحدها ، ولا يدخل القاعة أحد من الرجال ، بما فيهم ماهر.
وأما الحفلة الأولى فتمت كما خطَّط لها والد العروس ، حضرها محارم ماهر من العائلتين ، وبعض كبيرات السن ، ممن لا حرج في حضورهن مستورات في مثل هذه الحفلات ، وكانت هذه الليلة- هي الأخرى على بساطتها – في غاية الروعة والإبداع ، وأطلق عليها والد سامية اسم (شبكة محارم) ، ولعلها تكون سنة في المستقبل بين الناس ، يخرجون بها عن عادة دخول العريس على النساء الأجنبيات وهن في كامل زينتهن ، ومع ذلك فقد بدا على أم ماهر شيء من التذمُّر لما لاقته من النقد من بعض قريباتها من غير محارم ماهر ؛ لكونها لم تدعهم لهذه الحفلة ، مع أن قريبات سامية من يغير محارم ماهر كنَّ في غاية التفهم لهذه المسألة.
ثم انتقل الخطيبان إلى مرحلة جديدة من التعارف والتأقلم والتفاهم : لم يسبق لهما خوضها من قبل ، فكانت سامية – رغم الصدمتين السابقتين – في غاية الإقبال على نمط المرحلة الجديدة ؛ لما تعرفه عن هذه المرحلة مما يتناقله الفتيات ، وتشاهده من سلوك القريبات ، من المعاني العاطفية والإثارة والمغامرة ، فكانت مستعدة لتجاوز الصدمتين ، في سبيل فترة خطوبة إيجابية مشوِّقة ، ضمن ما هو مقبول شرعاً وعرفاً ، إلا أن المفاجأة ، كانت – هذه المرة – من ماهر أعجب وأغرب ؛ فإذا به على غير نهج الشباب ممن هم في سنِّه ، فهو لا يرغب في الاتصالات الهاتفية ، ولا رسائل الجوالات ، ولا الزيارات المنزلية ، ويميل إلى طريقة بعض الأسر المتزمتة ، التي لا تعطي الخطيبين – بعد العقد – فرصة للتعارف والتواصل ، وتذرَّع – معتذراً عن جفائه هذا – بانشغاله في الدراسة ، إلا أن مثل هذا الاعتذار لم يكن ليجدي مع سامية ، التي ازدادت توجُّساً وريبة منه ، مما دفع أمَّها للتدخل بالحديث مع والدة ماهر ليتلطَّف بسامية ، فتحسَّن سلوكه معها بعض الشيء ، إلا انه لم يصل إلى الحد الذي يريح سامية ، ويشعرها بالأمان تجاه خطيبها ، لاسيما وأنه أول رجل يدخل حياتها.
وبعد مضي شهر على هذا الحال : تدَّخل والد سامية – باعتباره متخصصاً تربوياً في هذا المجال – بوضع بعض البرامج التربوية والترفيهية للخطيبين ؛ بهدف تلطيف الجو بينهما ، وكسر الحواجز النفسية التي تعيق حصول المودة الألفة بينهما ، فوافقت سامية على البرنامج الأول مع بعض التحفظ اليسير ، وأما ماهر فقد استهجن البرنامج غاية الاستهجان ، ورفض تطبيقه معتذراً عن ذلك بخبرته الاجتماعية ، التي خرج منها بخطورة مثل هذه البرامج المنفتحة، وتأثيرها السيئ على علاقة الخطيبين ، وبدت شخصيته أمام والد سامية كأنه شيخ كبير مجرِّب ، قد خبر الحياة، وصقلته التجارب ، وعندها أخبره والدها بأنه لن يتدخَّل في شأنه بعد ذلك ، على أن يتحمَّل نتائج اجتهاداته إذا لم تشعر سامية بالأمان تجاهه ؛ فإنها لن تُزف إليه إلا حين تكون مطمئنة له تماماً.
ثم خاض ماهر خمسة أشهر بعد هذا الموقف ليكيِّف خطيبته لتوافق نمطه السلوكي ، فما زاد بمحاولاته المتكررة إلا تعثُّراً وإخفاقاً ، فكان إذا تقدم معها خطوة في بناء علاقة متينة قوية : تأخر – مقابل هذه الخطوة – خطوات إلى الوراء.
لم يكن ماهر يعيش فطرته الطبيعية فيحسن مع خطيبته الكلام ، بل كان جلُّ حديثه معها: انتقاد ، أو تجريح ، أو تعنيف ، وأهدأ أوقاته حين يتحدث معها عن نفسه وإنجازاته ، وكانت سامية بعد كل مكالمة تقريباً تشعر بالإحباط ، فرغم أنه زاد من عدد اتصالاته وزياراته في الأشهر الأخيرة ؛ إلا أنه لم يضمِّن هذه الاتصالات معانٍ تعزز علاقتهما وتقوي من أواصر المحبة بينهما ، بل كان ملؤها التوتر والجدال والخلاف ، دون سـبب واضح ، ومع كل هذا كانت سـامية لا تقابله بجنس فعله معها ، بل تقابله بكل لطف ورقَّة ، حتى إنها لا تنهي معه مكالمة – في كثير من الأحيان – حتى تسأله عن رضاه عنها ، وهل يرغب في شيء تصنعه له.
أمضت سامية هذه الستة أشهر بزيارتين ثابتتين في الشهر للطبيب ، بسبب : التهابات في الحلق ، واضطرابات في المعدة والقولون ، وخفقان شديد في القلب ، فقد كانت معاملته القاسية تنعكس سلباً على تغذيتها ، وبالتالي على صحتها العامة ، فلم تشعر سامية طول هذه المدة من الخطوبة بالسعادة إلا في أسبوع أو أسبوعين ، فقد كانت تشعر أن ماهراً حين يتلطَّف بها بمكالمة لطيفة ، أو رسالة رقيقة ؛ إنما يصدر ذلك عنه تكلُّفاً ، وليس عن مشاعر صادقة فطرية تدفعه كما تدفع الخطَّاب الطبيعيين نحو زوجاتهــم ، حتى إنهــا من فــرط آلامـها عدَّلت اسـمه في جــوالهــا من : ” مهُّـور “ ، إلى: ” جرح “.
والعجب في سلوك ماهر أنه كان كلمَّا أساء إليها عاد فاعتذر منها ، وتأسف من خطئه ، وفي بعض الأحيان كان يعتذر بطريقة غير مباشرة ، وكانت سامية – مع كل هذا- تقبل اعتذاره وتقابله بلطف.
والغريب في شخصية ماهر أن سلوكه القاسي مع سامية عبر الهاتف يختفي تماماً حين يأتي لزيارتها ، فيبدو رقيـقاً هادئاً متزناً ، بل أكثر من هذا يبدو خائر القوى ، ساقط الهمة، ضعيف البنية ، وكأنه شخص آخر غير الذي يتصل عبر الهاتف ، وكأنه واقع تحت تأثير علاج مهدِّئ ، مما أدخل الريبة في نفس سامية تجاهه ، إلا أنها لم تصرِّح بهذا الأمر لأهلها ؛ وذلك لضعف خبرتها.
لم يكن والدا سامية – رغم كل هذه التوترات – ليمتنعا عن الاستمرار في التجهيز لابنتهما ، والتنسيق مع والدة ماهر في ترتيب مراسيم الزفاف ؛ بحيث لم تنته الأشــهر الستة إلا وقد أنجزت الأسرتين كامل المشتريات الخاصـة بالزواج بما في ذلك : الشقة ، والفرش ، والملابس ، وفستان الفرح ، وحجز القاعة.
وفي الأسبوع الأخير من الشهر السادس ، وقبل موعد الزفاف بشهرين : اتصل ماهر بسامية ، فراجع معها العلاقة بينهما ، موضحاً أن كلَّ ما قام به معها من سلوكيات واجتهادات كان قد خطط لها من قبل ، ضمن خطوات مقصودة ، لم تخرج عن عادات أسرته وتقاليدها التي يعتز بها ، في الوقت الذي انتقد فيه أسرتها ، في كونها لا تلتزم بالأصول الاجتماعية في مراسيم الزواج ، وطريقة العلاقة بين الخطيبين ؛ مما كان سبباً في إزعاجه ، ومضايقة والدته وأسـرته ، فراجعت معه سـامية حديثه هذا لتتأكد من مقصده ، فعندها أيقنت أن كل ما دار بينها وبين ماهر في الستة أشهر الماضية ، من معاني الحب والود ، والاجتهادات الخاطئة والاعتذارات وطلب المسامحة : لم يتجاوز – كل ذلك – حدَّ العادات والتقاليد الأسرية التي يؤمن بها ، ويسير في ضوئها ، فأنهت سامية المكالمة معه ، لتخرج بقرارها الحاسم : أن ماهراً لا يصلح زوجاً لها ، فقد أذاقها في الشهور الستة الماضية ما فيه الكفاية من المعاناة النفسية والجسمية ، التي لا يعرفها الخطَّاب في هذه المرحلة ، فكيف تراه يكون حالها معه بعد الزفاف ، حين تصبح في سلطانه ؟
لم يكن الوالدان المتعبان ليحرِّضا سامية على قرارها هذا ، فقد كانا طيلة فترة الخطبة -رغم توجُّسهما – يحملان سلوك ماهر – في الغالب – على أحسن المحامل ، ويصطنعا له الأعذار ، مرة بضعف الخبرة ، مرة بعدم التعمد ، ومرة بسوء الفهم ؛ وذلك لكثر المزكِّين ، الذين امتدحوا ماهراً بحسن الخلق ، وسلامة الطوية ، مما أعاق الوالدين عن التقويم الدقيق لشخصيته التي بدت غريبة جداً في تعامله مع سامية.
حاول ماهر – كعادته بعد كل شجار – تلطيف نفسن سامية بعبارات رقيقة ، ورسائل لطيفة ، إلا أنها هذه المرة لم تعد تؤثر في سامية ، فقرارها بالانفصال كان حاسماً وقوياً ، وعندها – بعد توتر الموقف- طلب والدها مقابلة ماهر على انفراد وبصورة سرية دون علم سامية ، فحضر ماهر في الموعد يطرق الباب ، ووقف الوالد المكلوم يبتهل إلى الله تعالى بأن يظهر ماهراً على حقيقته ، فما هي إلا دقائق معدودة بعد أن دخل وجلس للحديث حتى ظهـر بشخصيـة أخرى تماماً عما كان معروفاً عنه ، فقد ظهر بذات متضخِّمة ، ونفس مغرورة ، يتكلم مع والد زوجتـه وكأنه ندٌّ له ، لم يراعي فرق العمر ولا المكانة الاجتماعية ولا العلمية ، فعلى الرغم من اتزان حديثه ، وعدم خروجه عن الهدوء، إلا أنه كان يقذف بعبارات قاسية ، ويصرِّح بمعلومات جريئة ، فتعجب الوالد من شخصيته : كيف يستطيع الشخص أن يجمع بين قسوة العبارة ، وهدوء الطبع .
وعلى الرغم من الألم الذي كان يعتصر قلب الوالد على ابنته المرهقة نفسياً : لم يخرج – هو الآخر – عن حد الأدب ، إلا أنه كان منفعلاً بعض الشيء ، فقد طال صبره ستة أشهر على سلوك ماهر السيئ مع ابنته ، ومع ذلك لم يخرجه ألمه عن ضبط نفسه.
مضت ثلاث ساعات من الحوار والجدال والنقاش العقيم ، لم يزدد بها والد سامية إلا يقيناً بصواب قرار ابنته ، فكل دقيقة تمضي من هذا اللقاء البائس تكشف جزءاً من الجانب المظلم في شخصية ماهر ، مما توارى في أعماق النفس ، وتغطى بمظاهر رقيقة من المسالك الحميدة التي تبدو في الظاهر للناس.
كلَّما حاول الوالد أن يذكِّر ماهراً بمميزات سامية في كونها : متدينة ، حافظة لكتاب الله ، لم يفتها فرض في وقته منذ أتمت السابعة من عمرها ، تجيد الطبخ ، فكان لا يبدي أي اهتماماً لهذه المميزات ، بل ربما ردَّ على بعضها للتهوين منها ؛ فهو – حسب زعمه – لم يفته فرض منذ السـابعة ، وأما الطبخ ، فكل بنات عائلته يطبخن ، وهكذا بدت سـامية في حسِّه فتاة عاديـة تماماً لا ميزة لها ، بل هي – في نظره - فتاة مدَّللة ، تريد مثل ما تريد الفتيات الأخريات !!
وإذا تحدَّث الوالد معه عن خبرته التخصصية في شؤون الأسرة ، وأنه لا بد له أن يرجع إليه لاستشارته : أخبره ماهر أنه يعرف ذلك تماماً ، إلا أن له مستشارين آخرين يرجع إليهم ، ويستفيد منهم.
وعندما حدَّثه عن الآمال التي كان يُعدها له في المستقبـل ، ليكون أفضل طبيب ، ويدخل في نجاحات أسرة سامية : رفض ذلك ، معتبراً ذلك نوعاً من الوصاية عليه ، فهو لا يحب أن يشرف عليه أحد ، يعرف تماماً ما يصنع ، يسمع من هنا وهنا – حسب زعمه – ثم يرجع إلى نفسه .
وكان ماهر إذا لاحظ على والد سامية شيئاً من الانفعال في أثناء حديثه : أنَّبه وعاتبه على انفعاله ، مبيِّناً له أن هذا هو السـبب الذي من أجله أعرض عن الحديث معه ، والعجيب أن هذا هو أول حديث جاد بينهما ، لم يسبق لهما النقاش في مثله من قبل.
وربما اعتذر ماهر عن بعض عباراته القاسية ، واصفاً نفسه بأنه جرئ في طرحه ، وقد غفل أن مسلكه هذا ليس من الجراءة المحمودة في شيء ؛ وإنما هو من سوء الأدب ، الذي لا يليق مع الناس ، لاسيما مع الكبار منهم.
لقد مضت الساعات الثلاث بلا جدوى ، لم تزد المشكلة إلا تعقيداً ، ولم يبد فيها ماهر أَيَّ اعتذار جاد ، أو تأسُّف عما بدر منه تجاه سامية وأسرتها ، وكان والد سامية في حديثه معه – من شدة الصدمة – يضحك تارة ، ويصمت تارة ، ويضرب كفاً بأخرى ، من عجب ما يرى ويسمع ، ويقول في نفسه : ” كيف خفيت هذه الشخصية الغريبة على كل هؤلاء المزكِّين ، من الأقارب والمعلمين والجيران والأصدقاء “ ؟
وعلى الرغم من الاتـزان الظاهـر لماهر في هذا اللقاء إلا أنه قضى باقي ليلته – منذ فارق المجلس – في المستشفى ، ضمن ظرف صحي عرَّضه للموت ، فقد أصيب بذبحة صدرية ، بقي بعدها أياماً يعاني انهياراً نفسياً وعصبياً ، فقد اكتشف عندها شديد تعلُّقه بسامية ، التي تحسَّنت نفسها بعد هذا القرار ، وتعدَّلت صحتها ، وعادت إلى طبيعتها التي كانت عليها قبل معرفتها بماهر ، مع ما كان يراوحها – في بعض الأحيان – من الآلام التي خلَّفها سلوك ماهر القاسي معها ، حتى إنها أصبحت تكره الحديث عن الزواج والرجال.
توسَّط بعض أقارب ماهر لدى أسرة سامية لإصلاح ذات البين ، واستدراك ما يمكن استدراكه لإتمام هذا الزواج ، إلا أن سامية كانت مصرَّة على موقفها ، فما تزداد كل يوم إلا قناعة بصواب قرارها ، مما دفع والدها للإلحاح على أقارب ماهر لإنهاء هذا النكاح بالخلع ، وتسلُّم المهر والهدايا.
مكثت الأسرتان قريباً من الشهرين لإنهاء إجراءات الخلع ، لم يظهر فيهما ماهر تماماً، رغم محاولات والد سامية الوصول إليه ، وإنما كان خاله هو الذي ينوب عنه بالحديث والاتصال ، بسب سوء وضعه الصحي.
ولما كان موعد الحضور للمحكمة لإنهاء العقد : حضر ماهر بصورة جيدة ، متزناً لا يظهـر عليه اضـطراب ، فحـاول والد سـامية التلطــف به ، فكان كعادتـه لا يكثر الكلام ، يرد فقط بقدر الحاجة ، فأعرض والد سامية عنه بحديثه نحو خاله الذي بدا لطيفاً بعد أسبوعين مضت من التوتر والتهرُّب.
وبعد إتمام الجلسة وحصول الفرقة الشرعية : تسلَّم ماهر من والد سامية مبلغاً إضافياً، تعويضاً عن خسائر عائلته المالية ، وتعبيراً من أسرة سامية عن سلامة الصدور، والعجيب أن ماهراً استلم المبلغ بنفسه دون تردد ، رغم أن والد سامية حاول أن يعيد إليه ثلثي المهر – في أول الأمر – ليستعين به على فرش المنزل : فأبى أخذه ، رغم كل المحاولات، وأما الآن – وقد انتهى الأمر – فلا مانع عنده من أخذ أَي مبلغ كان.
ولما انقضى الأمر ، وعزم الثلاثة على الخروج من مكتب القاضي ، يتقدَّمهم ماهر ، فما هي إلا برهة قصيرة جداً حتى اختفى ماهر تماماً ، وليس ثمَّة إلا مصاعد مشغولة تحتاج إلى انتظار ، والسلَّم بينه وبين الدور الأرضي عشرة طوابق ، فتعجَّب والد سامية ، وأخذ يلتفت حوله ويقول : ” أين ذهب ماهر “ ؟ وبدا خاله هادئاً مبتسماً ، غير مكترث من اختفائه بهذه السرعة ، وكان هذا هو آخر العهد بماهر !!