تذخر الساحة الإسلامية المعاصرة بعدد كبير من الدعاة المصلحين ، ينشطون في العديد من ميادين الدعوة ، والإرشاد ، والتعليم ، وأعمال البر ، والتأليف ، يجمعهم همُّ الدين ، والنهوض به ، في عصر تكالب فيه الأعداء على أمة الإسلام من كل صوب وناحية : يقتلون ، وينهبون ، ويتآمرون ، حتى غدت الأمة محطاً للأطماع ، وساحة للصراع ، وموضعاً لنفوذ الآخرين ، حتى تقطعت أوصال الأمة ، وتفرقت كلمتها ، وتشعبت أهدافها ، ودخل عليها الخلل في كل جوانبها ، وأصابتها النكسات في جميع خطوات مسيرها الحديث ، وغدت متأخرة عن الجميع في كل مرافق وأنشطة الحياة العلمية منها والعملية ، المدنية منها والعسكرية ، لا تكاد تحسن شيئاً من أمور الدنيا التي تفوق فيها الآخرون ، ولم تحرز شيئاً ذا بال من أمور الآخرة التي يحرص عليها الأولياء الصالحون ، فلا هي من أمر الدين ولا هي من أمر الدنيا .
إن هذا الواقع المؤلم لا يناسب أمة كلَّفها الله تعالى الشهادة على الناس ، وخصَّها بالكتاب المنزل ، والسنة المطهرة ، فكان لزاماً على دعاة الحق ، من العلماء ، وطلاب العلم ، وأهل الخير : أن ينهضوا بواجب الإصلاح الشامل ، ليعيدوا – بإذن الله تعالى – الأمة إلى موضعها الذي بوّأها الله تعالى ، فإن وصف الخيرية لم تنله الأمة إلا بقيامها بالدين ، وأخذه بقوة وصدق وأمانة .
وإن من أهم أسباب النهضة الإصلاحية ، ومن أعظم وسائلها : إعداد الداعية المسلم ، الذي يحمل الشخصية الاستيعابية ، التي تتعامل مع القضايا المختلفة ، والمتغيرات المتنوعة بطريقة استيعابية تشمل الجميع ، وتتعامل مع مختلف القضايا والمتغيرات بصورة شمولية ، بحيث تجد المتغيرات المتنوعة موضع اهتمام من شخصيته ، فلا يفوته في مسيرته الدعوية الاهتمام الشامل بقضايا الأمة الكبرى ، مع رعايته لمشكلاتها الصغرى ، ولا يغيب عنه في حركته الدعوية الدءوبة فقه الأولويات ، وتقديم الأهم على المهم ، فيقدم ما حقه التقديم ، ويؤخر ما حقه التأخير ، لاسيما عند تعارض المصالح وتداخل المفاسد ، فإن أزمات الأمة في هذا العصر بلغت حداً عظيماً من : التعقيد ، والتشعب ، والتداخل ، وغدا التشابك بين المصالح والمفاسد في غاية التعقيد ، حتى أصبح الاجتهاد الصائب في القضايا المعاصرة من أشد المحكَّات ، وأصعب الاختبارات ، التي تميِّز بين الدعاة ، وتفرِّق بين مراتبهم ، ودرجة فطانتهم ، وعمق فقههم ؛ فقد تغيب عن الداعية زوايا مهمة عند تناوله لمشكلة ما ، فتراه يعطي جانباً من المشكلة جلَّ اهتمامه ، غافلاً أو ناسياً جوانب المشكلة الأخرى ، التي قد تكون الأهم والأقرب لحلِّها ، وهذا قصور في صفة الاستيعاب ، التي تميِّز الدعاة بعضهم عن بعض .
ومما يجلِّي الأزمة الاستيعابية في فقه الدعوة الإسلامية المعاصرة : ضعف قدرة الداعية وقصوره عن استيعاب الساحة الدعوية ، بحيث يستوعب جزءاً من الساحة بتفوق ، في مقابل خسارة جزء آخر منها ، فلا تقوم قدراته : الفكرية ، والنفسية ، والأخلاقية ، ولا تطاوعه شخصيته لاستيعاب الساحة بأجمعها ؛ فترى غالب الدعاة في الساحات الدعوية بين محب ومبغض ، ومقبل ومدبر ، ولا تكاد تجد الدعية الذي اتسعت نفسه ، واحتمل خُلُقه الجميع ، بحيث تجد الساحة المتعطشة عنده فسحة للقبول، ومساحة للحركة ، فيغترف الكل من معينه الثري ما يناسبه من زاد الدعوة ، فلا يكاد يحتك به أحد ، أو يطَّلع على إنتاجه الدعوي إلا ويجد عنده قواسم مشتركة ، تصلح للتعاون والاستثمار ، وقبيح من الدعاة ألا يجد المتعطشون عندهم مورداً ولو صغيراً يصلح لهم، ويوافق حاجاتهم وتطلعاتهم ، وقبيح أيضاً من الساحة الدعوية أن تهمل البحث في شخصيات الدعاة عن القواسم المشتركة ، التي ينتفعون بها ، ويمكنهم من خلالها التعاون على البر والتقوى .
ولئن كان اختلاف مشارب الدعاة ، وتنوع أساليبهم ، وتعدد اهتماماتهم : يعد في الجملة ظاهرة دعوية صحية ؛ وذلك ليشملوا باختلافهم ، وتنوع أساليبهم ، وتعدد اتجاهاتهم واهتماماتهم : حاجات الساحة الدعوية المتعددة والمتنوعة والمختلفة ، التي تفتقر لجهود الجميع وأساليبهم وطرائقهم ، إلا أنه مع ذلك تبقى الحاجة ملحَّة إلى الداعية الشمولي ، الذي يستوعب بفكره ، وخلقه ، ونفسه الساحة الدعوية كلَّها ؛ إذ إن القيادة الدعوية - التي تفتقر إليها الأمة الإسلامية المعاصرة - لا تتحقق بكمالها ، ولا تتم بطواعية إلا لداعية شمولي ، قد استوعب الساحة بأكملها ، وضرب بسهم صائب في كل جانب من جوانبها المتنوعة ، فكما أن الأمة تعيش أزمات : اجتماعية ، وأخلاقية ، واقتصادية ، وسياسية .. ؛ فإنها أيضاً تعيش أزمة القيادة الدعوية ، التي تجتمع عليها القلوب ، وتسعد بها النفوس ، ويسلِّم لها الجميع .
إن من أرذل مسالك الداعية أن تضعف قدرته الاستيعابية إلى حدِّ أنه إذا ربح ساحة دعوية جديد : فقد مقابلها ساحة أخرى كان قد استوعبها من قبل بكفاءة ، حتى إن أحدهم – بكل سهولة وعدم مبالاة – يفقد بعض محبيه في ساحة الدعوة ، مع قدرته على الإبقاء عليهم بسهولة ، ومع ذلك لا يبالي بفقدهم ، وكأن من متطلبات النجاح في ميدان ما : الإخفاء في آخر ، وهذا لا شك ضعف في شخصية الداعية ، وقصور في قدرته الاستيعابية ، وخلل في مفهومه للشمول .
ومما يوضح أزمة الاستيعاب في واقعنا الدعوي المعاصر هذه القصة الواقعية ، وملخَّصها أن جمعاً من طلبة العلم حضروا في بيت أحد الفضلاء على شرف أحد الدعاة المشهورين ، وبعد أن ألقى الشيخ الداعية كلمته : قام أحد الحضور - من المحبين للشيخ ، وممن سبق للشيخ معرفته - بطرح موضوع جوال الكاميرا - وكان ذلك قبل فسح بيعه في السعودية – حيث حذَّر من خطورته على العورات والأخلاق ، وما قد يسببه من التدخل في الخصوصيات الشخصية للناس ، ولاسيما بالنسبة للنساء ، ورغب من الشيخ أن يعلِّق على الموضوع ، فما كان من هذا الشيخ الداعية إلا أن التفت إلى هذا الشاب بكلمات حادة وجافة ، فيها تسفيه لرأيه ، وتعريض به وبأمثاله ممن يتوجَّسون من التقدم التقني ، مهوِّناً في ذلك من شأن هذا الجهاز الجديد ، ومستخفَّاً بمخاطره الأخلاقية والاجتماعية ، ففوجئ الحضور باندفاع الشيخ وقسوة عباراته ، فحاول الشاب أن يقترب من الشيخ ويجلس بجواره على مائدة الطعام لعله يوضح له أمراً خفي عليه ، لاسيما وأن موضوع جوال الكاميرا لم يُبحث في ذلك الوقت من المهتمين ، فإذا بالشيخ الداعية يزيد على ما سبق بعبارات أغلظ يصعب السكوت عنها، فضلاً عن قبولها ، فقد قال للشاب فيما قال له : ( ما المشكلة لو خرجت صورة زوجتك للناس ؟ فإن العالم لن يهتم بذلك ، فصور النساء كثيرة وفي كل مكان ) !! فما كان من الشاب إلا أن انسحب من المجلس بهدوء ، ومضى مكلوماً إلى بيته ، دون أن يرد على الشيخ الداعية ، احتراماً لصاحب البيت ، ورغبة في تهدئة الموضوع ، وعندها الْتفَّ بعض الشباب حول الشيخ يراجعونه في هذا الموضوع ، وإذا بالشيخ يقرهم بالفعل على خطورة هذا الجهاز على الأخلاق ، وأنه يحتاج إلى ضبط !! وقد كان بإمكانه أن يقرَّ بذلك من أول الأمر ، ويكسب المجلس ، ثم يقول بعد ذلك ما يريد ، وعندها يقبل الناس منه ، ولكنه للأسف ضعفت قدرته الاستيعابية عن ذلك .
هذا موقف واحد من مواقف كثيرة يخسر فيها الدعاة أنصاراً وساحات وميادين ، كان بمقدورهم كسبها بسهولة لو أنهم تأنوا وتبصروا ، فقليل من الروية ، وشيء من الحكمة تصنع الكثير بإذن الله تعالى .
لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في نهج الشمول والاستيعاب للساحة الدعوية ، فعلى الرغم من تنوع الطبيعي في مجتمع المدينة المنورة ، واختلاف طبقات الناس ، وتعدد فئاتهم : استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرعاهم جميعاً ، ويشملهم باهتمامه ، ويستوعبهم ضمن نطاق الدعوة ؛ فلم يفته في مسيرته الدعوية صغير ولا كبير ، ذكر ولا أنثى ، عبد ولا حر ، شريف ولا وضيع ، الكل وجد ساحة تستوعبه في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إنه ليكني الصغار ، ويعطف على الإماء ، ويتلطَّف بالجواري ، إضافة إلى رعايته لأصحابه ، واهتمامه بعامة الناس ورؤوسهم ، فضلاً عن رعايته لأهله ، وعبادته لربه ، وأعجب من هذا كلِّه أن يستوعب فئة المنافقين ، ويشملهم بشخصه الكريم ؛ حتى إنه ليتلطَّف بالمنافق الأكبر : عبد الله بن أبي ، بعد أن قال ما قال من القول الغليظ ، فقد صلى عليه، وحضر قبره، ، واستغفر له ، وألبسه قميصه ، فإذا كان المنافق يجد ساحة للقبول والحركة عند صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – أفلا يجد المسلم العادي – فضلاً عن المسلم الصالح - موطئ قدم عند داعية معاصر ؟