مقال شهر رجب 1430هـ
اللقيط في المجتمع المسلم
الناظر في مقاصد التشريع الإسلامي يجد عنايتها الفائقة بالإنسان ، في حفظ دينه الذي يتعبد الله به ، فلا يضل عن سبيل الهدى ، وحفظ نفسه التي تقوم بذاته فلا تتلف أو الضرر ، وحفظ عقله الذي به مناط التكليف ، فلا يتطرق إليه الفساد ، وحفظ نسله من الضياع أو الاختلاط أو الانقطاع ، وحفظ ماله أيضاً من التلوث أو الاغتصاب ، فالناظر في الشريعة المباركة يجد الاحتفاء البالغ بهذه المقاصد العظيمة ، حتى إن المتأمل ليجدها غاية من وراء الأحكام والتشريعات الإسلامية ، يتلمّسها في كل حكم وفتوة وتوجيه ، لا تكاد تخفى عليه .
ولئن كان لكل مقصد من مقاصد التشريع أهدافه الرامية إلى إصلاح العباد ؛ فإن المراجع لمقصد حفظ النسل يجده يهدف إلى تحقيق أمرين اثنين :
الأول : هو ضمان استمرار النسل دون انقطاع ، يخلف الناس بعضهم بعضاً ، وذلك من خلال سنة التزاوج بين ذكر وأنثى ، التي يُقتنص من ورائها الولد ، الذي يُعد وحدة البقاء الإنساني ، وهذه سنة الأنبياء والمرسلين ، وهدي خير المرســلين e القائل: (النكاح سنتي ، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ) .
الثاني : هو ضمان عدم اختلاط الأنساب ، بحيث يُلحق الولد بوالديه ، فيُنسب لأبيه الذي أنجبه ، فقد ورد الوعيد الشديد لمن أنكر ولده وهو يعلم أنه ولده ، فقد قال رسول الله e في حقه : ( أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه : احتجب الله منه ، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ) ، وقال أيضاً eفي شأن المرأة التي تُلحق بفراش زوجها ولداً ليس من صلبه ، يخالطهم في حياتهم ، ويطلع على عوراتهم ، ويشاركهم أموالهم : ( أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ، ولن يُدخلها الله جنته ) ، وهذا كله احتياط للأنساب فلا تختلط ، ومحافظة على الإنسان فلا يضيع ، وتذهب عنه حقوقه .
وعلى الرغم من عناية الإسلام بهذا المقصد الشرعي العظيم ، وإحاطته بالحدود الشرعية ، والتعزيرات التأديبية : إلا أن الوقوع في المحظور ، والولوغ في الفاحشة أمر واقع في الحياة الإنسانية ، يصعب – في الطبيعة البشرية - خلو مجتمع من شيء منها ، إلا أن اتساع ساحة الفواحش ، وكثرة الواقعين فيها ، ويسر تعاطيها : مرهون بضعف الحضور الإيماني الذي يعصم صاحبه من الزلل ، ومرهون أيضاً بتراخي يد السلطان المخولة بالضبط والتأديب ، مما يسوق بعضهم - بغلبة الشهوة - إلى الوقوع في المحظور الشرعي ، فيضع نطفته في فرج لا يحل له ، فينتج عن هذا الوصال المحرم مخلوق ضائع لا عائل له ، بريء من جناية والديه ، ليس له ذنب يلحق به إلا أن يكون مجهول النسب، قد طرحه أهله في طريق عام ، أو في مسجد ، أو في سوق قبل أن يبلغ الحلم؛ ليلتقطه أهل المروءة والنجدة ، فيقومون عليه بالتربية والنفقة نيابة عن والديه ، حين تخليا عنه خشية الفضيحة والعار ، أو إشفاقاً من العقوبة والحد .
ولئن كان الدافع في الأغلب الأعم وراء التخلي عن أمثال هؤلاء الأطفال هو الخوف من الفضيحة والإشفاق من الحد ؛ فإن نسبة من الناس تتخلى عن بعض أولادها الشرعيين بسبب الفقر ، وقلة الموارد المالية ، التي تدفع بعضهم إلى القذف بولده في الطريق العام ، لتقوم الدولة ، أو أصحاب المروءة برعايته والنفقة عليه ، وكلاهما جريمة في نظر الشرع توجب العقوبة التعزيرية أو الحد الشرعي ، إلا أن الأولى أعظم لاشتمالها على جريمتين في وقت واحد : الوقوع في الفاحشة ، وتعريض اللقيط للهلاك بالتخلي عنه .
إن اللقيط الذي يُوجد على قارعة الطريق في بلاد المسلمين : إنسان مسلم حرٌ ، تجري عليه أحكام المسلمين ، باعتباره واحداً منهم ، فلا يجوز استرقاقه بحيث يصبح عبداً مملوكاً، ولا يجوز أيضاً تبنيه بحيث يصبح ولداً لمتبنيه كولده من النسب ، وإنما الواجب في حقه ابتداء هو التقاطه لمن صادفه ، فهو فرض واجب عليه إذا غلب على ظنه أنه لن يتفطن له أحد غيره ، أو أنه سوف يهلك إذا لم يلتقطه ، وهذا أول حقوقه ، وهو حقه في الحياة ، والشريعة الإسلامية ندبت للإحسان إلى البهائم ، واللقيط أولى بالإحسان دون أدنى شك ، فإذا تخلى عنه الجميع وهم قادرون على إنقاذه أثموا جميعاً .
وإذا تحقق للقيط النجاة من الموت فإن : التسمية ، والسكن ، والنفقة ، والتعليم ، والعلاج ، والعمل ، والجنسية .. ، وجميع حقوق المواطنة حق له ؛ إذ من حقه – باعتباره مسلماً – أن يحيا حياة كريمة ، لا يُبخس من ذلك شيء بسبب كونه مجهول النسب ، فإن قام عليه من التقطه بالرعاية والإحسان ، وكان ثقة أميناً : أجازه السلطان وأعانه ، وإلا نقله إلى من هو أفضل من المسلمين ، أو ألحقه بدار من دور الإيواء المخصصة لأمثاله ؛ لأن : "السلطان وليّ من لا وليّ له" ، كما جاء في الحديث .
إن مما ينبغي الالتفات له ، والتنبه إليه في طبيعة شخصية اللقيط أنه شخص يحمل في -الغالب- مشاعر المنبوذية ، وتسيطر عليه هموم الإحباط ؛ لكونه شخصاً مجهول النسب في مجتمع يعتز فيه الناس بأنسابهم العريقة ، ويفتخرون بانتماءاتهم وجذورهم القبلية والعشائرية ، فإذا خطب لا يُزوج ، وإذا تعلم لا يُقدّم ، فالناس معه في حذر ، مما قد يسوقه إلى الانطواء والانعزال الاجتماعي ، فيتعرض إلى معانات نفسية قاسية ، قد تؤدي به إلى أمراض نفسية تعيقه عن ممارسة حياته بصورة طبيعية ، وربما تحول – تحت ضغط مشاعر الإحباط والمنبوذية – إلى مجرم منتقم يفتك بالمجتمع ، ويسعى إلى تقويض أركانه ، حين كان المجتمع من حوله سبباً في تعاسته وحرمانه ، دون أن يكون له يد فيما ارتكبه والداه .
إن الإنسان ابن بيئته ، يتأثر بها ويؤثر فيها ، فإذا أخفقت البيئة الاجتماعية في رعايته ، وأسهمت في إحباطه فلا يبعد أن يكون هذا الإنسان أداة إزعاج ، ومعول هدم في المجتمع ، ومن المعلوم أن : الإحباط ، والمنبوذية ، ومشاعر التفاهة والانحطاط : عناصر رئيسة في تكوين الشخصية الإجرامية .
إن الواجب الإسلامي يفرض على المجتمع أن يواجه أزمة اللقطاء بأمور :
الأول : رعاية هذه الفئة ، وتمكينها من حقوقها الشرعية التي فرضها الله لها ، مع حس تربيتها وتهذيبها في ضوء مبادئ وأخلاق الإسلام ، بما يكفل حمايتها من الانحرافات السلوكية ، وضمان سلامة نفوس أصحابها من الإعاقات النفسية المدمرة .
الثاني : إعداد الفرد المسلم إعداداً صالحاً ، من خلال إشاعة التربية السليمة الشاملة لكل جوانب شخصيته ، وربطه برباط العقيدة ، التي تعمر القلب بالإيمان ، وتزين السلوك بالتقوى ، بحيث يجد المسلم من نفسه واعظاً ورقيباً على سلوكه .
الثالث : كف المثيرات العاطفية في المجتمع بصورة عامة ، وفي ووسائل الإعلام بصورة خاصة : التي تثير الجنسين ، وتزكي لهيب الشهوة بينهما ، مما يدفع بالنساء إلى التبرج ، والسفور ، والاختلاط، ويثير الرجال إلى التحايل عليهن لقضاء الوطر .
الرابع : السعي الاجتماعي الجاد في إعفاف الشباب من الجنسين ، من خلال الزواج وبناء الأسرة ، وإشاعة ثقافة الزواج المبكر ، وتقديم العون والمساعدة لأسر الشباب الجديدة .
الخامس : إقامة حدود الله تعالى المقررة في الشرع على من تلبس بها ، وثبتت عليه ، فلا تأخذ المجتمع في ذلك لومة لائم ، فإن إقامة الحد على من يستحقه كفيل بأن يطهر صاحبه ويردع الآخرين ، بل هو خير لأهل الأرض عموماً ؛ وفي الحديث : ( حدٌ يُعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً ) .