مقال شهر جمادى الآخرة1430 هـ
الطفل الكبير
الشباب يشكلون غالبية المجتمع, لاسيما
المجتمعات العربية والخليجية ،وهم أساس
النهضة الشاملة لأي مجتمع؛
لأنهم يحملون القدرة على التغيير الاجتماعي
,فهم بطبيعتهم الفطرية قادرين على التجديد
والتطوير والابتكار ،
فليسوا كحال الشيوخ الذين يركنون عادة
للقديم ، ويناهضون حركات التجديد الاجتماعي
والتطوير, ومع ذلك اقترنت
– للأسف- فترة الشباب في هذا العصر : بالضياع
، والاغتراب , المخدرات , الغلو...
حتى إن كثيراً من الدراسات التربوية المعاصرة
- المحلية والعالمية-
ترتبط بين الانحراف والشباب؛
لذا احتاج واقع الشباب إلى مزيد عناية ورعاية
، لتوصيف المشكلة ، والسعي لحلها ،
وفي هذا المقال محاولة للوقوف على طبيعة
أزمة الشباب ، وأسباب بروزها ، ومحاولة
حلها .
ولعل أول ما تعانيه الأسرة من الشباب هذه
الحدة والانفعال ، وسلوك التمرد ، وهذه
الطبيعة عند الشباب ترجع إلى أن الإنسان
منذ الولادة يعيش حالات من الفطام , ينتقل
بها من مرحلة إلى أخرى ,تبدأ
بالفطام من الرحم , ثم الفطام من الرضاعة
, ثم الفطام من الحضانة , ثم
الفطام من الطفولة , ثم
الفطام من الشباب , ثم الفطام من الكهولة
, ثم من الشيخوخة , ثم
من الهرم , وأخيراً الفطام من الحياة كلها
بالموت .
وهذه الحالات من الفطام يصاحبها عادة شيء من : المعاناة ، والقسوة ، والعنف، والألم , إلا أن أكثر ما تعانيه الأسرة من الشباب هو مرحلة الفطام من الطفولة إلى الشباب ,حيث يصاحبها – في الغالب -عنف وتمرد وصخب , ولكن السؤال الذي يرد هنا : هل هذه الدرجة العالية من العنف التي نشاهدها في واقعنا الاجتماعي طبيعية أم لا , وهل هذا العنف والتمرد والصخب الذي يصاحب الشباب في هذه المرحلة طبيعي في كل المجتمعات والبيئات ، أم أنه خاص ببيئات معينة دون أخرى ,وهل هذا العنف والتمرد جزء طبيعي ضمن مراحل النمو الإنساني أم هو أمر طارئ , وإذا كان هذا العنف أمر طبيعي فكيف نعالجه , وإن لم يكن طبيعياً فما هي أسبابه ومثيراته ؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة ، إلا أن شيئاً من القوة التي تصاحب انتقال الطفل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب أمر طبيعي عند الإنسان ؛ إذ إن الطفل يسير نحو الاستقلال عن الأسرة بالتدريج ، فلا بد له من قوة تؤهله لذلك,وتعينه على الانتقال إلى المرحلة الأخرى ، إلا أن المستنكر أن تزيد درجة القوة إلى حد التدمير والتمرد والفوضى, المرفوضة اجتماعياً وشرعياً ، ويطول أيضاً أمدها لسنوات , فينتج عن ذلك درجات عالية من : الانفعال , واللامبالاة , والاندفاع , والتهور .. , وصور أخرى كثيرة من الخروج عن الآداب والأخلاق مثل الوقوع في : المخدرات , والجرائم, والفواحش , وإهمال للعبادات .
وعلى الرغم من انتشار هذه الظواهر السلوكية السيئة عند غالب شباب العالم إلا أن بعض الباحثين التربويين والنفسيين في المجتمعات الغربية وجدوا أن حجماً كبيراً من قطاعات الشباب لا يعانون هذه الأزمات ، ولا يعرفون آلامها , وهم شباب القرى والأرياف, والمجتمعات البدائية , التي لم تغزها سلبيات المجتمعات الحضارية , فالشاب في القرية يخرج بعد البلوغ مباشرة من الطفولة إلى الشباب دون معاناة كبيرة , فينتقل مباشرة إلى جيل الكبار ، وذلك من خلال مشاركته الفعالة والمباشرة في الإنتاج الاقتصادي , إضافة إلى تأهله السريع للزواج وتكوين الأسرة الخاصة به ، فلا يشعر بالانعزال الاجتماعي عن جيل الكبار ، فهو – رغم حداثة سنه – واحد منهم ، بل هو في الحقيقة عنصر مهم ومؤثر في أسرته منذ طفولته ؛ حين يشارك أفراد قريته في الإنتاج الاقتصادي .
أما ابن المدن الحضارية المملوءة بالمتغيرات الكثيرة والمثبطة ، فإنه يحتاج بعد البلوغ إلى عشرة سنوات على الأقل حتى يصل إلى هذه المرحلة ، فيسمح له بدخول مجتمع الكبار,ولهذا يعيش أبناء المدن الحضارية هذه العشر سنوات في وضع غريب ؛ فلا هم أطفال صغار ، ولا هم رجال كبار, يحيون مرحلة غامضة من أعمارهم ، أفرزتها طبيعة الحياة الحضارية الحديثة ، بمتطلباتها القاسية ، وشروطها الكثيرة ، فيعيش فيها الشباب منعزلين عن حياة الكبار, وفي الوقت نفسه لا تناسبهم طبيعة حياة الصغار ، فهم كالقائم في منزلة بين المنزلتين .
وقد أكد ذلك نتائج بعض الدراسات العالمية ، التي اعتبرت أزمات الشباب – في حقيقتها-أزمات حضارية ، أفرزتها طبيعة الحياة الحديثة , بمتطلباتها الكثيرة ، التي تبدأ بطول فترات مراحل التعليم , وبالتالي تأخير قدرة الشاب البالغ عن الإنتاج الاقتصادي ,ومن ثمّ تأخير سن الزواج والاستقلال الأسري , ومن المعلوم أن الإنسان حتى يدخل عالم الكبار يحتاج إلى نوعين البلوغ :
الأول : هو البلوغ الجنسي ، الذي يصبح به الشاب قادراً على والزواج والتناسل.
الثاني : هو البلوغ الاقتصادي ، الذي يصبح به الشاب قادراً على الإنتاج ، الذي يؤهله للاستقلال الأسري .
حين كان البلوغان يحصلان للفرد في وقت واحد لم تظهر الأزمة عند الشباب ، كما هو الحال المجتمعات في السابق ، وكما هو قائم الآن في الأرياف والقرى , ولكن ظهرت الأزمة حين تأخر البلوغ الاقتصادي عن الجنسي عشر سنوات تقريباً , فأصبح الشاب في المجتمع يعامل على أنه طفل كبير , يعامل كما يعامل الصغار ، رغم أنه بالغ، وقادر على الإنجاب ؛ لذا يشعر الشاب بالتفاهة والاحتقار ، وعدم الأهمية , فليس له زوجة يسكن إليها, وليس لع مورد يحقق ذاته من خلاله , فهو في الحقيقة لا شيء (صفر) , والشعور بالصفرية هو صفة من صفات المجرم ، الذي يذهب – مندفعاً بهذا الشعور المحبط – نحو الجريمة ، والانتقام من المجتمع ، الذي كان سبباً في معاناته؛ ولهذا كثيراً ما يعبر الشاب عن أزماته : الجنسية والنفسية والاقتصادية بالتمرد ، والخروج عن المألوف، والإتيان بالغرائب ، يفصح بذلك عمّا في نفسه من الآلام ؛ ولهذا غالب إجرام الشباب ،ومظاهر التطرف والغلو تقع منهم في هذه السنوات العشر الغامضة من عمارهم .
ومن المعلوم شرعاً أن من حق الشاب حين يبلغ الحلم أن ينطلق في الحياة ، ويضرب في الأرض ، إلا أننا في الواقع الاجتماعي المعاصر نعيقه في انطلاقته ، ونحجزه عن الضرب في الأرض , ومن حقه أيضاً التناسل من خلال النكاح الشرعي ، ونحن في واقعنا نمنعه من ذلك , في الوقت الذي كلف الله الشاب البالغ بالأحكام الشرعية , وخاطبه بالكتاب والسنة ، وألزمه : العقائد والعبادات والحدود , ففي الوقت الذي يكلفه الله بالقضايا المصيرية الكبرى, يقف المجتمع الحضري المعاصر فلا يراه أهلاً للعمل، ولا للزواج !!
إذا لم يكن الشاب البالغ أهلاً للمسؤوليات - العمل والزواج - فماذا كلفه الله بما هو أكبر وأعظم ؟ ومن المعلوم أن الإنسان يبقى مراهقاً ، ويسلك سلوك المراهقين حتى وإن بلغ الأربعين مادام أنه لم يتأهل بالعمل والزواج ,ثم إن الخبرة – التي يحتج بها بعضهم-لا تحصل للإنسان بالتقدم في العمر فحسب , بل تحصل له بالدخول في الحياة وممارساتها الاجتماعية المتنوعة .
ثم إن الشخص الأعزب العاطل يعد عنصراً خطراً على المجتمع ، يهدده في أمنه وسلامته وخلقه , في حين لم يشكل الشاب الأعزب العاطل خطراً على المجتمع في السابق ؛ وذلك لقلة أعدادهم من جهة, وندرة فرص الانحرافات الخلقية من جهة أخرى , وأما اليوم فإنهم يشكون خطراً محدقاً بالمجتمع لكثرة أعدادهم , وتوافر فرص الانحرافات وتنوعها .
إن حل هذه الأزمة يتلخص في أمرين اثنين :
الأول : تهيئة الشباب للإنتاج والاستقلال منذ البلوغ , وذلك من خلال ضغط سنوات التعليم العام إلى الخامسة عشرة ,وتطوير مناهجه بحيث يكون هدف التعليم العام هو : التأهيل للحياة ، وليس التأهيل للجامعة فقط ، فيدخل الشباب مباشرة على العمل والإنتاج.
الثاني : تأهيل الشباب للزواج وتكوين الأسرة مبكراً ، وذلك من خلال الدعم بالوحدات السكنية الصغيرة ، والدعم المالي للمتزوجين الجدد ؛ فإن تأهيل شاب هو في الحقيقة تأهيل فتاة .