مقال شهر ربيع الثاني 1430هـ
الإجابة على أسئلة الأستاذ جلال الشايب التربوية
(المجموعة الأولى)
س1: ما هي أهمية التربية بشتى أنواعها: الإيمانية، العقدية، الأخلاقية، الاجتماعية، الأسرية، العقلية، النفسية، الجسمية، البيئية، الجنسية... بالنسبة للطفل؟
ج1: هذا سؤال مهم جداً في بناء الإنسان، فالشخصية الإنسانية متعددة الجوانب، يحتاج كل جانب منها إلى تربية ؛ بمعنى الزيادة والنماء، فالجانب الإيماني من شخصية الإنسان يحتاج إلى تربية حتى يبلغ المنزلة التي قدَّرها الله له، وكذلك الجانب: الأخلاقي، والنفسي، والجسمي، والعقلي...، فلابد لكل جانب من هذه الجوانب في الشخصية الإنسانية أن يلقى حقَّه الكافي من الرعاية التربوية حتى يبلغ الدرجة التي قدرها الله تعالى له؛ بحيث يكون عند المسلم الحد الأدنى على الأقل من كل جوانب الشخصية، وما زاد على ذلك فهو فضل ونفل؛ فأصول الدين، وأساسيات المعتقد التي يكون بها المسلم مسلماً: لابد من توافرها في الشخص حتى يُوصف بأن عنده الحد الأدنى من التربية الإيمانية، وما زاد على ذلك من المعرفة العقدية، والمراتب الإيمانية فهو فضل وأجر يُثاب عليه.
وكذلك يُقال في التربية الأخلاقية، لابد من توافر الحد الأدنى من الأخلاق في شخصية المسلم، وما زاد على ذلك فهو فضل ونفل، ويمكن تحديد درجة الحد الأدنى من الأخلاق بكفِّ الشر عن الآخرين.
وكذلك الأمر في الجانب الجسمي؛ إذ لابد للمسلم من تربية جسمية تنمي قواه البدنية حتى يتمكن من القيام بفروض العبادات، وتأدية الواجبات، والاستجابة لنداء الجهاد عند الحاجة.
وعلى هذا المفهوم تُقاس باقي الجوانب، فلو نظرنا في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لوجدناهم- في الجملة- ضمن المساحة الشرعية بين الحد الأعلى والأدنى من جوانب الشخصية، فهذا أبو بكر رضي الله عنه قد بلغ في التربية الإيمانية مرتبة عالية لا يدركه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، في حين لم يبلغ في التربية الجسمية شيئاً كثيراً ، إلا إنه- مع ذلك- يملك الحد الأدنى من القوى البدنية التي مكَّنته من القيام بالعبادة، والجهاد، والكسب، في حين لو نظرنا إلى شخصية الصحابي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ فإنه لم يبلغ في الإيمان درجة أبي بكر رضي الله عنه ومع ذلك ملك درجة من الإيمان ضمن المساحة بين الحدين الأعلى والأدنى، إلا أنه قد بلغ في التربية الجسمية حدّاً يستحيل على أبي بكر رضي الله عنه بلوغه، فقد خاض على قدميه معركة قتالية وحده حتى النصر في غزوة ذي قرد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اليوم كلُّه لسلمة))، وكان سريع العدو، حتى ربما سبق الخيل.
ومما تقدم يُفهم أن الشخصية الإنسانية متشعبة الجوانب، فلابد لكل جانب من جوانب الشخصية أن يلقى حقه من الرعاية التربوية، وبقدر ما يقصِّر منهج التربية في الإعداد التربوي الشامل للشخصية الإنسانية: فإنه ينقص من بناء هذه الشخصية بقدر ذلك، فالطفل يحتاج إلى منهج تربوي متكامل، يراعي جوانب شخصيته المتعددة فينميها ليبلغ كل جانب من جوانب شخصيته القدر الذي قدره الله تعالى له.
س2: ما أهم المشكلات والمعوقات التي تحد من فعالية التربية الأسرية، وهل هي محصورة في: الجهل، والتخلف، والفقر، والأمية التي ما تزال تتغلغل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أم أن هناك مشكلات ومعوقات أخرى؟
ج2: لاشك أن: الجهل، والتخلف، والفقر، والأمية تعيق دور الأسرة التربوي، وتضعف من تأثيرها في النشء، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل قامت الأسرة بدورها التربوي في المجتمعات التي نجت - إلى حد ما- من أزمات: الجهل، والتخلف، والفقر، والأمية ؟
إن الأزمة الداخلية في تقصير الوالدين في التربية الصحيحة أكبر من الأزمات الاقتصادية الخارجية التي تعيق برامج التنمية ؛ فعلى الرغم من ظروف الصحابة رضي الله عنهم الصعبة والخانقة- لاسيما في أول الإسلام- فقد نجحت الأسرة في القيام بواجباتها التربوية خير قيام، وكانت ثمارها متفوقة في غاية النجاح.
ولقد نجحت اليوم أسر كثيرة في تحقيق درجات عالية من التفوق التربوي رغم قسوة ظروفها المعيشية، وانخفاض درجة الوالدين العلمية، وفي الجانب الآخر أخفقت أسر أخرى في التربية وهي تحيا في بحبوحة من العيش، مع درجات عالية من المراتب العلمية.
إن الأسرة المسلمة لا تسمى مؤسسة تربوية بحق إلا حين تتحقق فيها أربعة شروط:
الأول: اختيار الزوجين على مبدأ الدين وحسن الخلق.
الثاني: رغبة الزوجين الأكيدة في التناسل والتكاثر.
الثالث: تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين.
الرابع: المعرفة بالتربية الإسلامية والعمل بها.
إذا تحققت هذه الشروط في الأسرة تأهّلت لتولي المهمة التربوية ، إلا أن الناظر في الواقع الاجتماعي يجد ضعفاً شديداً في العمل بهذه الشروط، ومع ذلك يأمل المفرِّطون في نجاحهم في التربية !! رغم أن بعض الأسر التي تحققت فيها هذه الشروط ربما تخلَّف فيها ناتج التربية لوجود متغيرات اجتماعية أخرى حالت دون بلوغ الأسرة مقصودها، فكيف بالأسر المفرطة ؟
ومع ذلك يبقى لكل قاعدة شواذ، فقد وُجد في الواقع الاجتماعي عينات إسلامية متفوقة كانت نتاج أسر مفرّطة، كما وُجدت عينات أخرى مخفقة كانت من نتاج أسر صالحة، إلا أن هذا الشذوذ لا يطعن في صحة القاعدة التربوية المستنبطة من قوله تعالى: ] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً[ [الأعراف:] 58
س3: بما أنكم من المتخصصين في مجال التربية، ولكم العديد من المؤلفات في هذا المجال، من بينها كتاب: "مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة"، حيث تناولتم فيه العديد من المسؤوليات التربوية التي تقع على عاتق الأب في الأسرة، فهل يمكن أن تصف لنا هذه المسؤولية المهمة في بناء الأسرة المسلمة، وما درجة أهميتها في حياة الطفل؟
ج3: هذا سؤال واسع وكبير، والكتاب الذي ذكرت يجيب عليه، إلا أني- في هذه العجالة- يمكن أن ألخّص دور الأب في ( القدوة الصالحة ) ، بمعنى أن يكون سلوكه ترجمة صحيحة لمفاهيم الإسلام، لاسيما الواجبات والفروض، بحيث يجد الطفل في والده الأنموذج الإسلامي الذي يقتدي به، فلا يحتاج الأب- لإيصال رسالته التربوية- إلى كثير كلام فسلوكه يغني عن بيانه.
ولا يعني هذا التقليل من أساليب التربية الإسلامية الأخرى، كالوعظ، والقصة، وضرب المثال... ونحوها، ولكن التربية بالقدوة تفوق غيرها من الأساليب، وربما تُغني عنها في بعض الأحيان ؛ إذ إن ما تبنيه القدوة وحدها في نفس وعقل ووجدان الطفل من القواعد الراسخة المتينة: يفوق ما تبنيه الأساليب الأخرى مجتمعة ، وقد ذكر ابن الجوزي كيف كان يتأثّر في طفولته بسلوك بعض مشايخه العارفين أكثر من تأثره بكلام آخرين وعظهم.
س4: ما أهمية دور الوالدين في تربية الطفل؟
ج4: الوالدان هما وكلاء المجتمع في نقل المعايير الأخلاقية والعقدية للطفل؛ فإن الطفل يبدأ حياته الأسرية الأولى ساذجاً ومهيَّأ لتقبل ما يُلقي إليه من المفاهيم والسلوكيات، سواء ما كان منها بصورة مباشرة أو بالإيحاء، فالطفل في سنوات طفولته يلتقط كثيراً مما يدور حوله في الأسرة، ويتأثر به سلباً وإيجاباً، سواء قصد الوالدان ذلك أو لم يقصداه، فالأطفال الصغار- لاسيما في سن التمييز- يستوعبون ما يجري حولهم من المفاهيم والسلوكيات أكثر بكثير مما نظن، بل إنهم- في كثير من الأحيان- يستطيعون أن يقوِّموا سلوك الوالدين ويحكموا عليه في ضوء ما تعلموه واستوعبوه من معايير المجتمع، ومن هنا كان دورهما في غاية الأهمية والحيوية في البناء الأولي للطفل، وهو القاعدة الأساس لما بعده من أدوار المؤسسات الاجتماعية الأخرى كالمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام ونحوها.
س5: ما هي في تصوركم أهم العقبات التي تحول دون تحقيق التربية الإسلامية الصحيحة؟
ج5: العقبات في هذا العصر كثيرة، وبعضها أشد من بعض، إلا أني يمكن أن أوجزها في عقبتين، هما في تصوّري- الأهم، والأكثر ضرراً على التربية:
العقبة الأولى: ضعف، أو اختلال، أو ربما فقدان البيئة الاجتماعية الصالحة، التي ينشأ فيها الطفل نشأة تربوية إسلامية، يعيش فيها التطبيق الواقعي لمقتضيات الإسلام- اعتقاداً وعملاً- بحيث يتشرب المفاهيم الدينية، والأخلاق السلوكية من كل مؤسسات المجتمع ومرافق الحياة من حوله، فتُسهم البيئة الاجتماعية الصالحة، ومؤسساتها المختلفة في بناء شخصيته الإسلامية، إلا أن الواقع الاجتماعي المعاصر يسير في غير هذا الاتجاه، بل ربما يعارضه في كثير من الأحيان، فيهدم في شخصية الطفل ما قد يبنيه الأب، أو المعلم، أو الواعظ.
وأما العقبة الثانية: فتتمثل في الأدوار التربوية السلبية لوسائل الإعلام المختلفة، لاسيما بعد الانفتاح الإعلامي الكبير الذي يعيشه العالم، ضمن مفهوم العولمة الثقافية، التي أخذت تشكِّل الإنسان المعاصر- أياً كان في هذا العالم- ضمن قوالب ثقافية واحدة، تصهر الناس جميعاً في نمط ثقافي مشترك، يتعارض - في غالب كلياته وجزئياته- بصورة صارخة مع الوجهة الإسلامية، حتى غدا التعرض لهذه الوسائل الإعلامية دون ضوابط كفيل بمسخ الشخصية الإنسانية، وهدم أركانها العقدية والأخلاقية بصورة سريعة عاجلة، لا تحتاج بالضرورة إلى العلمية التراكمية التي كانت تحتاجها في الماضي قبل الانفتاح الإعلامي ؛ إذ أن بعض القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية، والمنشورات الصحفية تحمل- في بعض الأحيان فيما تبثُّه وتعرضه - مضامين تدميرية للشخصية الإنسانية، تضر بها بشدة وعنف في عمقها الإيماني والأخلاقي، فتجتث منابت الخير من جذورها، حتى ما يبقى لها في النفس باقية.
فهاتان العقبتان هما على رأس العقبات التي تحول دون تحقيق التربية الأخلاقية بصورة صحيحة، وتجعل من التربية مشقة ومعاناة كبيرة