مقال شهر صفر 1430هـ
آيات غزة وعجائبها
بعد أسابيع قليلة من سيطرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على قطاع غزة بالكامل، وطردها للمتنفّذين من أعضاء السلطة الفلسطينية وقوات الأمن وأجهزتها: التقيت ببعض الدعاة المنتسبين إلى هذه الحركة حين حضروا إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعد تجاذب أطراف الحديث معهم قلت لهم- وقد امتلأت نفسي يقيناً وتفاؤلاً- "إذا خَلَص الصف ظهرت الآيات"، ولعلي حين قلت هذه العبارة لم أكن على وعي بنوع الآيات التي يمكن أن تظهر، ولا بحجمها، ولا بكيفية حدوثها، إلا أني قلتها موقنًا ومطمئنًا لمدد الله تعالى، الذي لا يتخلَّف حين تصفوا الجماعة المؤمنة، وتخلص من الشوائب التي تحجب نصر الله وعونه.
وبالفعل ظهرت الآيات في مشهد ما اعتدناه من قبل ولم نعرفه في التاريخ الحديث، إلا حين خَلَص الصف الأفغاني في جهاد الملحدين الروس، ثم ما لبث جهادهم حتى خبت أنواره، وأظلم نهاره، حين اختلط صفّهم، وتشعَّبت مقاصدهم، فسُلبوا فرحة الفتح، وعادوا من حيث بدؤوا ، ولئن كان للجهاد الأفغاني امتداده الجغرافي في بعض الدول المجاورة، وما لاقاه من الدعم العربي والإسلامي: فإن الجهاد في غزة قد ضاقت عليه أرضه، وانحصرت موارده، وخذله الأقربون، وعاداه الأبعدون، حتى انفرد به عدو غاشم حاقد، فظهرت بذلك آية صمود فريد لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
لقد أثبت الجهاد في غزة أن أمة الإسلام- بكل ضعفها وهوانها وافتراقها- أمة قوية وممكَّنة وثابتة بطبعها، ما أن تراجع دينها وتأخذه بقوة- علماً وعتقاداً وعملاً- حتى يأتيها مدد الله تعالى في صور متجددة من لطفه- سبحانه وتعالى- وإلا فكيف عاش أهل غزة سنتين تحت حصار خانق شديد، فلو استطاع أعداؤهم أن يمنعوهم الهواء لمنعوهم إيّاه، ومع ذلك استطاع أكثرهم العيش والصمود، بل والحرب من الكر والفر، فمن أين يا ترى اقتاتت هذه الأجساد ؟! وأعجب من هذا تدفق السلاح وتطويره، رغم الطوق الخانق من كل اتجاه، فإذا به سلاح فتاك مؤثر، أدّى واجبه كأحسن ما يكون في يد المجاهد الفلسطيني، فهو أية أخرى من آيات هذا الجهاد الإسلامي المبارك.
وإن من أعظم الآيات التي أبرزها هذا الجهاد : ذلك التلاحم الفريد العجيب بين القيادة والشعب، في ظرف يستطيع فيه الناس أن يفعلوا ويقولوا ما شاءوا، ومع ذلك لم نسمع من أحد في غزة كلمة وحدة تطعن في قيادتهم، أو تحمّلهم مسؤولية الأزمة، وكم كان صيداً رابحاً لبعض القنوات الفضائية المغرضة لو تمكنت من نقل انتقاد واحد، أو عبارة تذمَّر موجّهة إلى القيادة، ومع ذلك لم يجدوا شيئاً، وهذا لاشك آية من آيات الله تعالى في تأليف قلوب المؤمنين، في مشهد نسيناه في عالمنا الإسلامي منذ عقود.
وأما معاناة القيادة مع الشعب، وأخذها بنصيبها الوافر من عذاب الحصار، وآلام الجراح، وفقد الأحباب، فهذه آية أخرى لم يعتد عليها المسلمون المعاصرون من قادتهم، مما زاد اللحمة بين القيادة، والشعب، وعمَّق الثقة بينهما.
ومن عجائب هذا الجهاد وآياته أنه استطاع بفضل الله تعالى أن يبلِّغ قضيته إلى العالم بأسره، ويحرك مشاعر الملايين من كل الأجناس والفئات والأديان، حتى إني لا أعرف قضية معاصرة ناصرتها شعوب العالم مثل قضية غزة، رغم العداء المستميت من غالب الأنظمة السياسية المعاصرة تجاه القضية الفلسطينية بصورة عامة، وقضية غزة بصورة خاصة، فاستطاع المجاهدون - بفضل الله تعالى- أن يصلوا بأصواتهم الخافتة إلى أطراف المعمورة، حتى تحركت الشوارع العربية والإسلامية والدولية تهتف بنصرتهم.
وأما الصواريخ، فعلى الرغم من أثرها المحدود في مقابل آثار الآلة الإسرائيلية المدمرة، إلا أن في استمرارها وتدفقها دون انقطاع آية عجيبة ، لها دلالاتها العسكرية المحمَّلة بالقوة والصمود الذي لا منتهى له، ولها أيضاً دلالاتها المعنوية المفعمة بالروح الإيمانية المتوقّدة، والنفس العالية الوثَّابة.
إن ثبات كل شخص على أرض غزة في هذه المحنة ، من الرجال والنساء والأطفال هو آية في حدّ ذاتها ، ورصيد إيماني وافر ، ومحفّز روحي عال ، يعمل في الأمة البائسة المستكينة عمله الرائد ، فيحيي فيها ما اندرس من معاني العزة والإباء ، ويفتح أمامها نهجاً جديداً نحو مستقبل واعد ، تنال فيه الأمة شيئاً من حقوقها المسلوبة، ويتعامل معها الآخرون على قاعدة المساواة والندّية ، لا على قاعدة الغبن والفوقية ، فلم تعد الأمة بعد هذه التجربة الناجحة طرفاً ضعيفاً ، فقد عرفت مكمن قوتها الحقيقي : النصر أو الشهادة ، وتخلّصت من الوهن وآثره ، فمن تراه من أهل الأرض يصمد لأمة تعشق الشهادة في سبيل الله ، وترى أن النصر في الموت ، وأن الربح الأكبر ، والأجر الأعظم إنما هو في الهزيمة مع الثبات ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النصر والهزيمة في مفهوم الإسلام : « ما من غازية أو سرية تغزو في سبيل الله فيسْلَمون ويُصيبون : إلا تعجَّلوا ثلثي أجرِهم، وما من غازية أو سرية تُخفق وتُخوَّف وتُصاب : إلا تمَّ أجرُهم ».
ولئن كانت المقاومة الفلسطينية قد انتصرت في المعركة القتالية بالثبات، واستعصت على الاستئصال ؛ فإن انتصارها في المعركة السياسية هو آية أخرى ؛ وذلك حين تمكَّنت- حتى الآن- من تجاوز العديد من المناورات التفاوضية بنجاح، رغم عمق الخلاف ، وعِداء الوسطاء .
وتبقى المعركة السياسية المحك الأخير للمقاومة الباسلة لقبولها عضواً في المجتمع الدولي بكل ما تحمله من انفراد واختلاف وتميّز ، في الوقت الذي يتطلَّع إليها المسلمون باعتبارها رمزاً من رموز العزة والإباء ، في عصر الذل والتخاذل والخيانة، فهل تصمد المقاومة في المحك السياسي كما صمدت في المحك القتالي ، فتكون بذلك آية تمثل النموذج الإسلامي في العصر الحديث، وتحقق للمتطلعين واليائسين أملاً جديداً في نصرة هذا الدين، وعودته من جديد للقيادة والريادة ، وتفوّت الفرصة على المراهنين والمزايدين ، وتخيّب آمالهم ؟ نرجو هذا ، والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .