مقال شهر ذي الحجة 1429هـ
البنــت الملعـونـــة
إن من أخطر الثورات الشعبية التي ترتبت عليها أبعاد فكرية وعقدية عامة ، فاتخذت اتجاهات إنسانية شاملة، وخرجت عن حدودها الإقليمية لتعم الشعوب قاطبة ، فارضة عليهم فهمها للوجود والحياة والإنسان، هي الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، التي كانت رد فعل حاد على السلطتين المتعاضدتين آنذاك على الظلم والعدوان : السلطة السياسية ممثلة في ملوك الإقطاع ، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة.
ولئن كان البديل الديموقراطي يقابل تسلُّط الملوك الإقطاعيين: فإن العلمانية تقابل السلطة الكنسية ؛ بمعنى إلغاء دور الدين في حياة الإنسان العامة ، وحصره في صور وطقوس محدودة الزمان والمكان ؛ فلا تتجاوز الممارسة الدينية دقائق أو سويعات معدودة في الأسبوع لأشخاص في المجتمع، يحملون انطباعاً روحياً معيناً، ولا تتجاوز حدود المكان جدران مبنى الكنيسة؛ بمعنى أن ينحصر الدين – وهو إرادة الرب من الإنسان كما هو مفروض – داخل جدران الكنيسة، فلا يكون له – سبحانه – شأن بباقي جوانب الحياة الإنسانية.
ولئن كان الاتجاه الديموقراطي- مع ما عليه من الملاحظات والاعتراضات- مقبولاً في الجملة من الوجهة المنطقية ؛ لما يحمله من مبادئ المساواة والعدالة والشفافية ؛ فإن الاتجاه العلماني المناهض لسلطة الله تعالى العامة على الحياة هو اتجاه فاسد باطل، لا يقبله العقل الصحيح، ولا يرتضيه المنطلق الصادق، فأين عقل أو منطق يقبل تجريد المالك من التصرف في ملكه، وحرمان صاحب الحق من التمكُّن من حقِّه.
إن إقرار العلمانيين لله تعالى بتوحيد الربوبية، حين أقروا له سبحانه: بالملك، والخلْق، والإحياء، والإماتة، والرزق، فهذه المعتقدات الفطرية لا تزيدهم إلا إمعاناً في الكفر، وبعداً عن الله تعالى، حين سلبوا حق الله في الحكم وهو توحيد الألوهية ؛ إذ لا معنى لملك بلا حكم، وإقرار بلا طاعة، بمعنى آخر : لا قيمة لتوحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية ، المتضمن حق الله تعالى وحده في حكم خلقه.
إن الواقع الفطري البشري يرفض بقوة مفهوم الملك بلا تصرف؛ فإن أحدنا لا يرضى أن يملك ثوباً : لا حق له في التصرف فيه- ولله المثل الأعلى – فأي قيمة تبقى لملك بلا سلطان ولا حكم، والله تعالى يقول في الجمع بينهما : ) أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ( ، فهو سبحانه الخالق، وهو كذلك الآمر الناهي جل شأنه، ويقول سبحانه وتعالى في رفض الفوضى والعبثية من وجود الخلْق، والتي يروِّج لها العلمانيون : ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (، إن العبثية في خلق الكون والحياة والإنسان؛ بمعنى إلغاء إرادة الله الشرعية من المكلفين هي الفرية التي يسوِّق لها العلمانيون، ويسعون بقوة لترويجها في العالم.
إن طبيعة الحياة الإنسانية ونظامها الاجتماعي تفتقر – بالضرورة- لسلطة حاكمة قادرة، فإذا ما أُلغيت حاكمية الله تعالى : حلَّ محلها – بالضرورة – حاكمية الطاغوت، في أي صورة من صوره المختلفة والمتنوعة، فإما أن يكون الحكم لله تعالى وحده، وإما أن يكون للطواغيت.
إن العلمانية البغيضة هي البنت الملعونة للثورة الفرنسية، حصل بسببها جراءة وتسلُّط من الناس على الدين – أياً كان – ومفاهيمه المتعلقة به، فلم يعد عند العلمانيين والمتأثرين بوجهتهم الفكرية معنى يقدِّسونه، ابتداء من الله جل جلاله، وانتهاءً بالفروع والجزئيات الدينية، حتى إن المتأمل يجدهم يتحمّسون للنقد اللاذع والجارح لكل مقدّس ديني، حتى لا يبقى في يحسِّ الإنسان شيء يحترم مبجَّل سوى العقل البشري، ونتائجه الحضارية المادية، وهذا الفهم العلماني من أعجب تناقضاتهم ؛ إذ إن العقل البشري بكل إنجازاته لا يعدو أن يكون مخلوقاً من مخلوقات الله تعالى- وهذا بإقرارهم- فكيف يكون المخلوق أعظم من خالقه، وأكثر منه قداسة واحتراماً!!
لقد ارتبط التسلُّط الكنسي الظالم في حسِّ الناس بالله تعالى زمن القرون الوسطى ؛ إذ كانت المظالم تنحطّ على الشعوب الأوروبية باسم الله والدين، مما أوقع في النفوس بغضاً لله تعالى وللدين ، ولكل ما له علاقة بهما، فانحصر سلطان الله تعالى في حسِّهم داخل جدران الكنائس، ولم يعد له – سبحانه – ذكر في الحياة؛ ولهذا ضعف تأثير الآيات الكونية في نفوس العلمانيين والمتأثرين بهم ، فلم يعد للآيات الدالة عليه – سبحانه – وقعها في نفوسهم حين انفصل في حسِّهم الخالق عن المخلوق، فما يزدادون بالمعارف العلمية ، والحقائق الكونية إلا بعداً عن الحق، كما قال تعالى : ) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (، فلا تنفعهم الآيات حين درسوها من وجهة النظر العلمانية اللاربانية، على الرغم من أن الكون وعلومه ومعارفه الطبيعية بكل أنواعها لا تعدو أن تكون آيات للدلالة على الله تعالى : خالقها وموجدها سبحانه ؛ وذلك حين تُقدّم هذه العلوم للناس على مائدة الإيمان ، مربوطة بخالقها جلَّ وعلا، فتتحول المعرفة العلمية إلى شواهد حية تدل على عظمة الخالق وجلاله، فتكون حافزاً للإيمان والطاعة والخضوع، وليست أداة للتمرد والكفر والجحود.
إن النظرة العلمانية للوجود أخطر ما منيت به الإنسانية المعاصرة، وأفسد ما لحق بالعقول، وأضر ما أصاب الحياة، حين أوقعت في نفس الإنسان المعاصر أنه يمكنه أن يعيش مطمئناً بعيداً عن كنف ربه وخالقه سبحانه وتعالى، فيكفيه الإقرار بوجوده، ولكن لا يلزم الانصياع لأوامره وإرادته.