مقال شهر ذي القعدة 1429هـ
معاني
العبادة
لا يختلف اثنان في أن الله خلق الإنسان لعبادته ، إلا أن الناس يختلفون في مفهوم العبادة التي خُلق الإنسان من أجلها ، فكثيراً ما يحصرها بعض الناس في الشعائر التعبدية ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ونحوها ، بمعنى أن مفهوم العبادة لا يتجاوز حدود أداء هذه الشعائر.
والناظر في هذه الشعائر يجدها لا تستهلك من وقت الإنسان وحياته إلا القليل؛ فالصلوات الخمس لا تستهلك من يوم الإنسان أكثر من ساعة ، والصيام : شهراً في السنة ، والحج : مرة في العمر ، ولمن استطاع إليه سبيلاً ، والزكاة : لمن ملك نصاباً وحال عليه الحول ، فهذه العبادات - كما هو واضح- لا تستوعب كل نشاط الإنسان وحركته ، في حين أن الله إنما خلق الإنسان للعبادة كما قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، بمعنى أن الله ليس له غرض من وجود الإنسان –وهو الغني سبحانه- إلا أن يقوم بمهمة العبادة ، وعلى هذا لا يمكن أن يكون مفهوم العبادة قاصراً على مجرد أداء الشعائر التعبدية ، بل لا بد أن يكون مفهوماً أوسع وأرحب ، يستوعب كل نشاط الإنسان وحركته وسكونه في الحياة ، بحيث لا يخرج عمل من أعماله –أياً كان- عن مفهوم العبادة ، وهذا ما عبر عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال : «أمَّا أنا فأقوم وأنام ، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي» ، يعني أنه يحتسب الأجر على النوم كما يحتسب الأجر على قيام الليل ، وهذا معنى جليل لمفهوم العبادة الشامل ، حين تتحول كل أنشطة الإنسان إلى عبادة يؤجر عليها ، حتى مما يكون دافعه الشهوة المستلذة كجماع الزوجة ، والأكل ، والنوم ، والاستجمام ونحوها ، كل ذلك داخل ضمن مفهوم العبادة التي يؤجر عليها المسلم المحتسب.
بل إن الأعمال التي يترفع عن امتهانها غالب الناس ، مما يحتاجه المجتمع كالحدادة ، والنجارة ، والسباكة ، وقَمِّ الشوارع ونحوها من الأعمال الشاقة وغير المحبوبة : تدخل ضمن مفهوم العبادة ، ضمن فرض الكفاية التي كُلِّف به المجتمع ، فإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين ، ونال المحتسبون من القائمين به أجور الجميع ، ممن لم يقم به.
ورجال التربية الإسلامية يقسِّمون العبادة إلى قسمين:
الأول : العبادة بالمعنى الخاص : وهذه تشمل الشعائر التعبدية ، وهذا النوع من العبادة بارز واضح ، لا يشك أحد ولا يرتاب في أن من تلبَّس بشيء منها أنه يمارس عبادة ، كالركوع والسجود والدعاء ونحوها ، فهي عبادات ثقيلة غليظة ، لا تتحمل إلا مفهوم العبادة ، فحين يتقدَّم بها الإنسان لله تعالى يُحكم عليه بالإسلام قطعاً ، وحين يتقدَّم بها لغير الله تعالى يُحكم عليه بالكفر قطعاً ، فهي أعمال لا تتحمل إلا هذا.
الثاني : العبادة بالمعنى العام : وهذه تشمل كل أنشطة الإنسان وأعماله الموافقة للشرع ، كالأكل ، والجماع ، والنوم ، و الأُنْس ونحوها مما يصعب وصفه بالعبادة في الظاهر لأنه مفهوم رقيق لطيف خفي ، يفتقر إلى نيَّة وموافقة للشرع ، وهو ما عبَّر عنه ابن تيمية رحمه الله بقول : «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة» ، فهذا الآكل للطعام ، قد يكون عابداً لله تعالى! إن هو أكل من حلال ، وبدأ باسم الله ، وختم بحمد الله ، يريد التقوي على طاعة الله ، فهو بهذه الأعمال والمقاصد عابد لله تعالى ، في حين لا يكون عابداً ، بل آثماً إن قصد بطعامه ما يكون مخالفة الشرع ، أو أهمل الحلال.
ومعيار صدق العبادة التي يعرف به المسلم موقعه من العبودية لله تعالى هو أن ينظر في حاله في كل لحظة ويتساءل : «ماذا يريد الله تعالى مني في هذه اللحظة؟» ، فإن سعى إلى تنفيذ مراد الله تعالى فهو عابد لله مخبت له ، وإن قصَّر فهو دون مستوى العبودية الحقة بقدر حجم تقصيره ، فالمسلم القادر حين يسمع الأذان؛ فإن السعي لأداء الصلاة المفروضة عبادته المطلوبة حينئذ ، و إذا صادف منكراً ، فعبادته الإنكار حسب قدرته ، وإذا نعس في الليل فعبادته النوم ، وإذا كان تلميذاً في حجرة الدراسة فعبادته التعلُّم ، وهكذا لا يخلو المسلم من عبادة محبوبة لله تعالى يقوم بها في يومه وليلته ، وفي هذا المعنى قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله لأحد طلابه ، حين قام من الدرس يتنفّل بالصلاة : «ما كنتَ فيه خير مما قمتَ إليه» ، بمعنى أن عبادة التعلم الآن أفضل من عبادة صلاة النافلة ، وقد صرح بذلك الإمام الشافعي رحمه الله فقال : «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة».
وبهذه المفاهيم العالية للعبادة ارتقى السلف ، وبلغوا ما بلغوا ، فعلى الرغم من اجتهاد غيرهم في الاستكثار من الشعائر التعبدية ، فقد سبق السلف بأعمال القلوب ، وامتحان المقاصد ، وتقديم الأولويات ، فكانوا على قلَّة تنسُّكهم : أعبد لله تعالى ممن جاء بعدهم ، حين قدَّموا ما يستحق التقديم ، وأخَّروا ما يستحق التأخير.