مقال شهر شوال 1429هـ
الفن الصالح
ارتبط الفن المعاصر- بأنواعه المختلفة وفروعه المتنوعة- بالباطل في مضمونه، وإعداده، وغايته، وإخراجه في غالب أحواله ؛ حيث يعيش حالة من الفصام النكد مع كل ما هو حق، حتى تحول عالم اليوم إلى مستنقع آسن من: الأكاذيب، والأراجيف، والغواية، والفتنة، وتكاد هذه الصورة المظلمة تعمُّ الفن المعاصر برمتله، لولا تجارب فنية يسيرة- هنا وهناك- ضمن تيار فاسد جارف، لا يُبقي على شيء صالح في طريقه.
إن الفنان المسلم لا ينطلق في هذا الكون منفلتاً من كل قيد، بل هو في كل أحواله عابد لله تعالى، يلتزم أمره، ويتجنب نهيه، فالعبودية التي فرضها الله تعالى على عبيده، لا تعدو أن تكون التزاماً بالتكاليف، التي تعني التقيد بالحلال والحرام.
ومفهوم العبادة بمعناها العام يشمل كل أنشطة المسلم التي لا تخالف الشرع، فالفن- بكل فروعه- يدخل ضمن أنشطة العبودية، التي تصبغه بصبغتها الربانية، فيصبح الفن فناً إسلامياً، ويكون الفنان عابداً، يمارس عبوديته لله تعالى من خلال أدائه الفني الصالح.
ومقولات : "الفن للفن"، "ولا أخلاف في الفن" ، "حرية الفن " وما شابهها: مقولات مرفوضة في مفهوم الفن الإسلامي؛ لأن الله جلَّ جلاله له حكم في الكلمة التي يقولها الفنان، وله حكم في الآلة التي يستخدمها، وله حكم في الغاية التي يقصدها، وله حكم في هيئة الإنتاج الفني الذي يخرجه، وله حكم أيضاً في ضبط العلاقة بين الجنسين في مجال الأداء الفني والاستمتاع به، فكل ممارسة فنية عبثية، أو منفلتة يرفضها الإسلام.
إن الحديث عن حيادية العلوم الكونية، كالفيزياء، والكيمياء، والجيولوجيا ونحوها لا ينجرُّ على العلوم الإنسانية، التي تحمل خصوصيات الشعوب، ابتداء من العقيدة ومروراً بالقوانين التشريعية، والأهداف التربوية، والطبيعة الاجتماعية، والأنظمة السياسية، والفلسفة الاقتصادية، وانتهاء بالعادات الاجتماعية، والتقاليد السلوكية.
والفن بفروعه المختلفة، ومضامينه الفكرية، ومفاهيمه الفلسفية، لا يعدو أن يكون مادة أصيلة ضمن العلوم الإنسانية، يجري عليه ما يجري من مفهوم الخصوصية الشعوبية والسيادة القومية، فكم حمل الفن والأدب من ثقافات الشعوب وفلسفاتها عبر التاريخ الإنساني الطويل؟ حتى لا يكاد يُوجد منتَج فني، أو عمل أدبي إلا ويحمل في مضمونة- تلميحاً أو تصريحاً- ثقافة المجتمع الذي وُلد فيه، سواء كان ذلك برغبة صادقة من الفنان والأديب، أو برهبة منهما، فكم حمل الفن والأدب الإسلامي من ثقافة الأمة وتصوراتها، حتى أصبح - من الوهلة الأولى - دليلاً بارزاً عليها، وعلى ثقافتها المتميزة.
ولقد كان الفن والأدب - ولا يزالان - متنفسَّ الأمة من همومها وآلامها وأحزانها، حين تعجز الخطبة المنبرية، والمقالة الصحفية ، والمحاضرة العامة عن التعبير الصريح الصادق عن الحقيقة في آلامها وأحزانها، وأشواقها وآمالها، وذلك حين استطاعت الكلمة المنظومة في قصيدة الشاعر الملهم أن تحمل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحين استطاعت اللوحة التشكيلية بريشة الفنان المبدع أن تقذف العيون الغائرة برجوم الحق، التي صُمَّت الآذن عن سماعها، وها هو الرسم الكاريكاتيري- على سهولته وسذاجته- كم أوصل إلى الأذهان من الحقائق، التي عجزت الأقلام المكممة والمستأجرة عن التعبير عنها، فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط قبل سنوات رسماً كاريكاتيرياً، يتضمن شكل خطوة حذاء قد تركت أثراً عميقاً بعض الشيء على أرض طينية ، ثم مُلئ موضع الخطوة بأناس على شكل العرب، وكُتب على الرسم عبارة : "الشرق الأوسط الكبير"، فأي تعبير أشد من هذا في وصف حال الأمة، يهزها هزاً من الأعماق ؟