بيوت الله
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير نبي أرسله بالهدى والنور، فبلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمة ، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ، فإن المساجد بيوت الله تعالى ، رفع قدرها ، وعظَّم شأنها ، ونسبها إليه سبحانه وتعالى تشريفاً وتكريماً لها ، وإعلاماً لأمة محمد بمكانتها وفضلها، حتى ترتبط بها قلوبهم ، وتتعلَّق بها نفوسهم ، ففي المساجد تُقام أعظم شعائر الله تعالى ، يجتمع فيها المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، يركعون ويسجدون لله رب العالمين ، ويذكرونه ــ سبحانه وتعالى ــ بكرة وعشية .
ولقد كان المسجد على عهد رسول الله r والخلفاء من بعده : قلب الأمة النابض بالحياة ، يجتمع فيه المسلمون للعبادة ، ولما أهمَّهم من أمر دينهم ودنياهم ، فقد أسس رسول الله r دولته الإسلامية الأولى على أن يكون المسجد قاعدة الانطلاقة الإسلامية، فلم يؤخِّر قرار بناء المسجد يوماً واحداً بعد وصوله إلى المدينة ، فدلَّ ذلك على أن المسجد أساس الدولة الإسلامية الأول .
لقد استوعب المسجد في عهد رسول r والخلفاء من بعده : جلَّ حاجات المسلمين ، وأنشطتهم المختلفة ، حتى أصبح المسجد جزءاً أساساً من حياة المسلم اليومية ، حتى المنافق في ذلك العصر ، لم يجد بدَّاً من حضور المسجد مع عامة المسلمين حين ارتبطت مصالح الناس به .
لقد كان المسجد زمن النبي r مورد المسلم الروحي ، ففيه الصلاة ، والاعتكاف، والذكر ، يتزود المسلم من المسجد زاده الروحي ، الذي به تحيا القلوب ، وتعمر الصدور .
وفي المسجد كانت جامعة الصحابة للتربية والتعليم ، ينهلون من علوم الوحي المبارك ، على يد خير معلم ومرب r أفضل العلوم ، وأحسن المعارف ، فتخرَّج من هذه الجامعة المباركة علماء الصحابة ، وروّاد المعرفة ، من أمثال أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد كان المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام : دار الفتوى ، ومحكمة القضاء ، ومأوى المحتاجين والفقراء ، وموضع البيعة ، ومكان الشورى، واستقبال الوفود، ومازال المسجد منذ ذلك الزمن يضعف مكانه في نفوس المسلمين شيئاً فشيئاً ، حتى كان العصر الحديث ، الذي تحوَّل فيه المسجد إلى مجرَّد موضع لصلاة ركعتين يوم الجمعـة ، يحضرها جمع من المسلمين ، ليس لغالبهم همٌّ سوى أداء الفرض الذي لابد منه .
ولقد انحصر دور المسجد - في كثير من بلاد المسلمين - في إقامة صلاة الجمعة ؛ إذ لا تزال طائفة من المسلمين تحرص على حضور صلاة الجمعة دون باقي الفروض الخمسة ، وهذا الوضع يفرض على الخطيب الاستفادة القصوى من الخطبة ومضمونها، وأسلوبها في التأثير الإيجابي على المصلِّين ، الذين يغيبون عنه طول الأسبوع ، ولا ينقادون له إلا في يوم الجمعة ، ولا شك أنها فرصة قصيرة محدودة ، يصعب فيها توجيه الناس الوجهة الإسلامية الكاملة ، إلا أن الخطيب الحاذق يحرص على مناسبة يوم الجمعة - على قِصَرها - في توجيه الناس نحو الخير ، وتعديل اتجاهاتهم السلبية ، وربطهم بالمساجد ، فكم من خطبة قصيرة وجيزة : وقعت موقعها من نفس السامع ، فعدَّلت سلوكه نحو الخير ، وغيَّرت اتجاهه نحو الصلاح ، وما زالت خطبة الجمعة ــ مع كل ما انتابها في هذا الزمن ــ موضع احترام المصلين وتقديرهم؛ إذ تُعتبر عند كثير منهم مورده العلمي ، ومصدر ثقافته الإسلامية ، وهذا يفرض على الخطيب مزيد جهد وعناية بإعداد خطبته ، والتهيؤ لها نفسياً وروحياً وعلمياً، ولا يعدم الخطيب أثراً صالحاً يتركه على المصلين ، ولو كان يسيراً .