الحمد لله الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فإن المساجد بيوت الله تعالى أمر بإحيائها بذكره، ففيها تقام الصلاة، ويقرأ القرآن، وفيها الاعتكاف، وصلاة الجنازة، يجتمع فيها المسلمون في كل يوم خمس مرات، يذكرون الله ويوحِّدونه.
وإن من أعظم ما أنشئت من أجله المساجد : إقامة صلاة الجمعة، التي خصَّ الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يجتمعون في مساجدهم حول خطبائهم، فيستمعون منهم لما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم ، يتعلم الجاهل، ويتنبَّه الغافل، ويستبصر اللاهي، فكم من خطبة أيقظت الغافلين، وأرشدت الحائرين، ونفع الله بها الكثيرين.
وخطبة الجمعة لم تأت لغرض واحد بعينه، وإنما جاءت عبادة ألزمنا الله بإقامتها في المساجد، تحوي توحيد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله؛ وتشمل الصلاة والسلام على سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها شيء من القرآن والأحاديث ، والغرض منها- بعد تحقيق العبادة- هو الوعظ التربوي، الذي يُصلح الله تعالى به القلوب، ويوقظ به المشاعر، فإن الوعظ أسلوب من أساليب التربية الأصيلة، استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثرَّ به في أصحابه غاية التأثير، حتى إن أحدهم من شدة وعظه يضع رأسه بين رجليه يبكي.
ثم انتشرت المنابر بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت عبر تاريخ طويل تتناول ما يهم المسلمين في دينهم ودنياهم، علاها الخلفاء، والعلماء، والفضلاء، ما بين واعظ، ومنبّهٍ، وشارح، وموضّح ، الكل من النبع الصافي يستقي، فهذا يوضح آية من كتاب الله، وهذا يشرح حديثاً من السنة، وهذا يبيّن حكماً شرعياً، وهذا ينبّه على سلوك سيئ، وهذا يتحدث عن ظاهرة اجتماعية، وهكذا يتناول الخطباء في القديم والحديث شؤون الأمة في مجتمعها الضيق ، وامتدادها في المجتمع الإسلامي الكبير.
ومن القضايا التي تناولها الخطباء على مر التاريخ الإسلامي، في مناسبات مختلفة ومتنوعة، مسألة التكفير والتطرف والغلو، ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومروراً بالخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى غيرهما من العلماء والفضلاء، ممن تصدّوا للانحرافات الفكرية والسلوكية.
ولما كان المنبر في الإسلام يمثل مصدراً من مصادر الحق، المعبِّر عن الدين في أفضل وأحسن صورة، حين ينطلق من جوار المحراب في بيت الله تعالى، فإنه يكسب من ذلك تأثيراً خاصاً في نفوس المصلين، وثقة كبيرة ليست لأي مصدر آخر من وسائل الاتصال المختلفة، فالمنبر، والمعلومة، والأسلوب، والفكرة، كلها في حسِّ المصلي من الدين الذي لابد من احترامه، وأخذه بعين الاعتبار.
إن الفكر المتطرف والغلو والتكفير، وغيرها من السلوكيات المستقبحة كالخيانة، والخداع، والغش، والكبائر كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة ونحوها، كل هذه السلوكيات والأفكار فإن للمنبر دوره الفعال في محاربتها، والتنبيه عليها.
ولقد تصدَّى في بلاد الحرمين الشريفين خطباء المساجد لكثير من الانحرافات الفكرية والسلوكية، وأعطوها- حسب استطاعتهم- حقها من البيان والتوضيح، إلا أن بعضهم قد يكون أبلغ من بعض، وأجود في بيان الحق، وتوضيح الحجة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وما قد يُتهم به الخطباء من التقصير، قد يكون فيه شيء من الحق من جهة ضعف القدرات في بيان وجه الحق، لا من وجهة التعاطف مع الفكر المنحرف؛ فإن الخطباء- كما هو المفروض وجميع المسلمين- لابد أن يدينوا لله بالبراءة من الغلو، كما يدينوا لله بالبراءة من الكبائر، وجميع السلوكيات المنحرفة الأخرى.
وأما الحديث عن ضعف أثرهم فإن الخطب توجه عادة لعامة الناس، وأما من يحمل الغلو فهؤلاء لا يحضرون المساجد، ولا يصلون خلف الأئمة؛ لما يحملونه من الفكر المنحرف والغلو؛ إذ يظنون أن الصلاة لا تصح خلفهم، ومن هنا يكون تأثير الخطباء في هذه الفئة ضعيفاً.
ولعل المطّلع من المسئولين والدعاة يلاحظ ذلك من الفئة الضالة، فكم هو حجم الجهد المقدم لهم داخل المعتقلات لتغيير فكرهم، وتعديل اتجاهاتهم ، ومع ذلك تبقى النتائج ليست إيجابية تماماً، بل ملؤها التوجّس والشك والله المستعان.
اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك، واحفظ بلاد المسلمين من السوء يا سميع الدعاء، وصلى اللهم وسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.