الحمد لله الذي علم بالقلم , علم الإنسان مالم يعلم , والصلاة والسلام على إمام المربين , وسيد المعلمين , رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
يختلط مفهوم التربية بمفهوم التعليم , فيقوم كل واحد منهما مكان الآخر في تعبيرات التربويين , ولكن تأتي إشكالية التفريق بينهما حين يُذكران سويا ؛ إذ لا بد حينئذٍ من التفريق بينهما في معنى ، وإلا أصبح لغوا وتكرارا لا معنى له 0
وابتداء فإن مفهوم التعليم يُعني بالناحية العقلية عند الإنسان دون باقي جوانب شخصيته , وأما التربية فإنها تشمل في مفهومها كل جوانب الشخصية الإنسانية , بما فيها الجانب العقلي , فهي - بهذا المفهوم – تشمل التعليم , وتستوعب مفهومه .
إن العملية التعليمية لا تتجاوز في أدائها قدر جهد إيصال المعلومة العلمية إلى ذهن المتلقي بصورة صحيحة وناجحة ؛ بحيث يفهمها المتلقي فهما صحيحا , ويتمكّن من استرجعها والتعبير عنها بنجاح , وإلى هذا الحد من الأداء بين المرسل والمتلقي : تنتهي مهمة وزارات التربية والتعليم في عالمنا الإسلامي ؛ فإن المعلم لا يطالب بأكثر من ذلك مع التلاميذ.
وأما تطبيق التلميذ لهذه المعلومة , والتزامه بها في واقع حياته , وتقيده بها في سلوكه العام , فهذا خارج مسؤولية المعلمين ، وخارج نطاق صلاحية وزارات التربية والتعليم ؛ إذ إن مهمتها تنحصر في جودة الإرسال عند المعلمين ، وسلامة الاستقبال عند الطلاب، ثم تُختم العملية التعليمية بخاتم النجاح على أوراق الاختبارات .
ولتوضيح هذه الفكرة بصورة عملية لنـتساءل : هل سبق لجهة تعليمية أن حرمت طالبا ناجحا من شهادته ؛ لكونه لم يطبق في واقع حياته العامة معلومة واجبة تلقاها في المؤسسة التعليمية ؟
لقد تورط كثير من طلابنا في كبائر سلوكية وخلقية وفكرية , ومع ذلك نجحوا في أدائهم التعليمي ,ووقفت المؤسسات التعليمية التي ينتمون إليها عاجزة عن تقديم شيء ذي بال في إصلاح سلوكهم الخلقي , أو تعديل فكرهم المنحرف , مكتفية بحشو أذهانهم بمعلومات بلا واقع ولا تطبيق , ثم تزويدهم في نهاية العام الدراسي بشهادات التخرج .
إن هذه ليست دعوة تحريضية لمجرد وضع أنظمة عقابية أو تفعيل ما هو موجود منها ؛ فإن العقوبات تأتي كالكي في آخر وسائل العلاج , وإنما هي دعوة للتأمل بين مفهومي التربية والتعليم , حين اقتصر مفهوم التعليم عند حد إيصال المعلومة العلمية إلى أذهان التلاميذ ، في حين يتجاوز مفهوم التربية هذا الحد القاصر ليربي التلاميذ على هذه المعلومة في واقع حياتهم العملية ؛ بحيث تتخطى التربية حد المعرفة إلى مستوى التطبيق الواقعي , وتصبح المؤسسة التعليمية مسؤولة عن التطبيق بقدر مسؤوليتها عن التعليم , وهذا ما لم تصل إليه بعد مؤسساتنا التعليمية في عالمنا العربي والإسلامي , إلا أن تكون نوادر مشرقة يسيرة في واقع تربوي كبير يعج بالقصور والآلام .
إن الجهاز المسؤول عن السلوك التطبيقي عند الإنسان هو القلب وليس الدماغ ؛ فإن القلب هو المضغة التي بها صلاح الإنسان وبها فساده , فهو بالنسبة لجوارح الإنسان كالملك للرعية , الكل تحت إمرته وسطوته , لا يتحركون إلا , وفق إرادته , وأما الدماغ فهو جهاز استقبال المعلومات , وفهمها , وتخزينها , واسترجاعها , وأما الانقياد لهذه المعلومة , والعمل بمضمونها فهي مهنة القلب ملك الأعضاء , فكم من أناس في هذا العالم حصلوا على معلومات علمية صحيحة وكثيرة , ففهموها تماما , ومع ذلك لم يعملوا بها , لكونها بقية معلومات ذهنية لم تنزل بعد إلى القلب للتطبيق والممارسة , وما أدل على ذلك من حال أكثر المستشرقين , الذين لم تنقصهم المعلومة الصحيحة , وإنما نقصهم تطبيق المعلومة والعمل بها , فبقية العلوم الإسلامية عندهم مجرد معارف ذهنية , لا تتجاوز حد المتعة العقلية .
إن المسافة بين القلب والدماغ قريبة جدا بالمقاييس الحسابية اليدوية , ولكنها في الحقيقة الواقعية أطول مسافة في الدنيا , وهي عين المسافة الشاسعة بين التربية والتعليم , فما أبعد المسافة بين المعرفة العقلية المجردة ، وبين اليقين بها , والعمل بموجبها .
إن المهمة التربوية في تحويل المعلومات العلمية إلى سلوكيات عملية واقعية : مهمة عسيرة وشاقة , إلا أنها ليست مستحيلة , فقد تكفّلت بها وسائل التربية الإسلامية , فالقدوة مثلا , حين تتجسد بصدق في واقع المربين , فإنها تفعل فعلها في نفوس المتعلمين , وتحول المعلومة في عقولهم من كونها مجرد معرفة ذهنية هشة إلى معرفة قلبية يقينية , ينطبع بها السلوك واقعا عمليا حيا , في حين لو تخلفت القدوة عن القيام بدورها التربوي : أصبحت عملية التربية مهمة عسيرة للغاية , وربما أصبحت مستحيلة إذا تخلّفت باقي وسائل التربية الإسلامية , وأعسر من ذلك وأصعب حين تتخلف باقي مؤسسات المجتمع عن القيام بواجباتها التربوية , فعندها قد يُعذر النشء على قبيح سلوكهم .