مقال شهر شعبان ورمضان وشوال وذو القعدة 1441هـ
وباء كورونا العالمي
( التوثيق التاريخي للحدث )
مقدمة :
الحمد لله حقَّ حمده ، والصلاة والسلام على خير خلقه ، نبيِّنا وسيِّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريَّته ، وسلَّم تسليماً كثيراً .. أما بعد .. فإن مشاعر الإحباط ، وظلال اليأس ، التي تنتاب الأمة الإسلاميَّة في عقودها الأخيرة ، وما رافقها من الإخفاقات المتواصلة ، والهزائم المتعدِّدة ، والأحزان المُتلاحقة : تحطُّ بثقلها الشديد على نفس المسلم المعاصر ، فتُغلق عليه بوادر الأمل ، واحتمالات الانفراج ، وتُحاصره بمشاعر التشاؤم والقنوط ، التي تعمل في مجموعها على تكوين الشخصيَّة الإنسانيَّة اليائسة ، التي لا تعوِّل على شيء من الرجاء .
ولئن كان هذا الواقع النفسيُّ يعمُّ شرائح واسعة من أبناء الجيل المعاصر من المسلمين ، ضمن ظروف اجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة مؤلمة : فإن القنوط من فرج الله تعالى لا يجوز في دين الإسلام ؛ لأن كلَّ ما يجري في الكون ، من كبير أو صغير ، من جليل أو حقير : إنما يجري بسابق تقدير أمضاه الله تعالى في الأزل على عبيده ، فلا يعدو شيءٌ - ممَّا قدَّره الله تعالى - موضعه : زماناً ومكاناً وقدْراً ، حتى ما كان تافهاً ومُهملاً من الأحوال والوقائع والأحداث ، فكلُّ ذلك مقدَّرٌ ومضبوط في صحائف لا تُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها .
إذا كانت قطرة الماء حين تنزل من السماء : مضبوطة في موقعها من الأرض ، ومكانها من النفع أو الضرُّ ، وورقة الشجرة حين تنفصل عن غصنها ، هابطة إلى الأسفل : قد عُلم سبيلها في الأرض ، فلا تعدو مكانها المُقدَّر لها ، هذا فضلاً عن دواب الأرض - ممَّا يُرى وممَّا لا يُرى - كلٌّ محكومٌ بإرادة ربِّه وسلطانه ، هذا عدا ملكوت السموات السبع وما تُقلُّه من المخلوقات ، والأرضين السبع وما تحويه من الكائنات ، إضافة إلى الملأ الأعلى المُسبِّح بحمد ربِّه تبارك وتعالى ، كلُّ ذلك مضبوطٌ ومحكومٌ بإرادة واحدة ، فكيف - بعد كلِّ هذا - يتصوَّر إنسان : أنه يمكن أن يغيب عن هذه الإرادة العظيمة ، سواء فيما مضى من قضائه وقدره ، أو فيما يستقْبله من عظيم شأنه ودقيقه .
تكريم الإنسان ورعايته :
إن الرعاية والتكريم والإجلال ، التي حباها الله تعالى للإنسان ؛ بأن سخَّر له ما في السماوات والأرض ، وخصَّه بمسئوليَّات التكاليف الجسام ، واختاره من بين جميع المخلوقات ؛ فجعل فيه النبوَّة والرسالات ، وواعده لقاء الآخرة : لا يمكن - بعد كلِّ هذا - أن يغيب عن ربِّه في هذا الكون الفسيح ، أو أن يتوه عن خالقه اللطيف الخبير ، بل لا بدَّ أن يبقى على الدوام في رعايته - عزَّ وجلَّ - وفي كنفه ورحمته - تبارك وتعالى - يعلم بالتفصيل حاجاته وضروريَّاته ، ويعلم بالدقَّة مصالحه ورغباته ، ولكن بحكمته البالغة : يُقدِّم لعبده أموراً ، ويُؤخِّر عنه أخرى ، يُعاجله بوقائع وأحداث ، ويُرجئ عنه غيرها ، فلا يُدرك العبد من مصالحه ما يعْلمه الخالق - جلَّ جلاله - منها ، وإنما المؤمن يُسلِّم لربِّه الكريم في اختياره له ، ويتلمَّس ألطافه في كلِّ قضاء قضاه له ، فكلُّ ذلك خيرٌ للمؤمن ، لا يفوته الأجر والثواب بمحبوب أحبَّه ، أو بمكروه كرهه ، ما دام أنه راضٍ بكلِّ ما قسم الله تعالى له من محبوباته ومكْروهاته .
الإسراف في بغض الدنيا :
وإن من أسوأ المشاعر السلبيَّة ، التي قد تنتاب بعض المسلمين : بغضهم الشديد للدنيا ، وليس ذلك عن زهد فيها ، وإنما لشدَّة ما يجده بعضهم من لأوائها ، في أبدانهم ، أو في أرزاقهم ، أو فيما يلحق بهم من أزماتها وعنف صراعاتها ، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخِّرة ، التي نزل فيها بالأمة من الأهوال والشدائد ما تشيب له رؤوس الولدان الصغار ، فإن الوصف الدقيق لعظيم مصابات الأمة في هذا العصر ، وحجم أزماتها ، وثقل شدائدها : يفوق قدرات الواصفين ، من الكتَّاب والخطباء والبلاغيين ، حتى إن العجز قد يُصيب أبلغ الفصحاء ، وأبرع الخطباء ، وأجود الكتَّاب ، فلا تسعفهم الأقلام العِراض بمدادها ، ولا الألسنة الحداد بكلماتها ، حتى يقف الواحد منهم مشدوهاً أمام بعض ما نزل بالأمة في هذه الأوقات العصيبة .
ومع كلِّ هذه العظائم والفظائع : فإن الدنيا لا تُذمُّ بذلك ؛ لأنها الطريق الوحيد إلى مباهج الآخرة وكراماتها ، فلا سبيل إلى الجنة ورضوان الله تعالى إلا بها ، وإنما الدنيا مكانٌ وزمانٌ لأفعال الإنسان : حسنها وسيئها ، طيِّبها وقبيحها ، فلا يُنسب لها حُسنٌ ولا سوء ، وإنما هي ثمار أفعال بني آدم ، في تفاعلاتهم وصراعاتهم ، في عدلهم وظلمهم ، في خيرهم وشرِّهم ، يجنونها جميعاً بما كسبت أيديهم .
وقد سبقت إليهم النذر ، وتواردت إليهم الأنباء ، بما كان في غابر الأزمان من الفتك ببعض الأقوام ، والرحمة بآخرين ، فمن كان من القوم ظالماً : فقد ناله الانتقام ، ومن كان منهم مظلوماً : كُفِّر عنه بعموم البلاء ، فإن الخير في الغالب لا يتعدَّى أهله ، وأما الشرَّ فيعمُّ بهلاكه الجميع ، حتى إذا وافوا القيامة : تمايزوا بمقاصدهم .
بدايات انبعاث الوباء والتعامل معه :
وإن من غريب المُصادفات : ما نزل بالعالَم حديثاً - مع بداية السنة الميلاديَّة الجديدة - من الوباء العام ، الذي يُصيب الإنسان في جهازه التنفُّسيِّ ، فلا يُمهله طويلاً - إن تمكَّن منه - حتى يقتله بإذن الله تعالى ، لا سيما من كان كبيراً في السنِّ ، أو مُصاباً ببعض الأمراض المزمنة ، التي تُهيئ لتمكُّن هذا الفيروس منه .
وقد تعارف الأطباء على تسمية هذا الفيروس باسم : ( كورونا المُسْتجد ) أو ( كوفيد - 19 ) ، وهو سلالة جديدة مُتطوِّرة ، من عائلة فيروسات سابقة أصابت بعض الناس عند ظهورها ، فما لبثوا - في حينها - أن استصنعوا لها علاجات وأمصالاً نافعة بإذن الله تعالى .
وريثما تستجمع البشريَّة المعاصرة قواها ، وتستصنع علاجاً ناجعاً ، ولقاحاً واقياً من هذا الوباء المُتجدِّد الفتَّاك : فإنه - حسب التوقُّعات - سوف يحصد جماهير من الناس ؛ لكونه سريع الانتشار بالعدوى المباشرة ، سواء من الأشخاص فيما بينهم ، أو من خلال لمس الأجسام الملوَّثة بالفيروس ، فهو أسرع وأمضى في الفتك بضحاياه من الفصائل السابقة ، لا سيما أنه انبعث في عالم انفتح بعضه على بعض ، فما يُصيب شرقه : لا يلبث طويلاً حتى يلحق غربه .
هذا إضافة إلى أنه داءٌ يُساوي بين الناس ، فلا يُحجم عن أحد بلغه ، قد تساوت أمامه رؤوس البشر ، وفُتحت أمامه حدود الجغرافيا ، ومن هنا كانت العناية العالميَّة بهذا الوباء أبلغ من غيره ؛ لكونه قد تخطَّى البيئات المحليَّة ، وتجاوز الأعراق والجنسيَّات والأديان ، وأصبح تهديده يعمُّ الكوكب بأسره .
وما زالت وسائل الإعلام الرسميَّة : تتحدَّث عن إصابات بليغة في علْية القوم ، وقد عمَّ الوباء الأرض بأكملها بنسب مُتفاوتة ، ممَّا أثار الهلع في نفوس الناس ، وأدخل عليهم الفزع ، ربَّما إلى حدِّ الهستيريا ، من احتمالات الإصابة بالعدوى ، فلم يُترك - في الضمير - مجالٌ لحسن الظنِّ ، في ظلِّ التغذية الإعلاميَّة المُرعبة ، التي زلزلت الناس بتقاريرها المُتشائمة ، حتى عمَّ الاضطراب العالم أجمع .
ولهذا هرعت الدول عامة إلى أخذ الوقاية اللازمة والتدابير الحافظة ، رجاء التخفيف من آثار هذا الوباء المدمِّر ، حتى إن دولاً أغلقت حدودها ، وأوقفت تعاملاتها ، وكفَّت مواطنيها ، حتى علِق كثيرٌ من المسافرين على حدود بعض الدول ، لا يدخلون ولا يخرجون .
وبلغ الأمر ببعض الدول أن أنزلت فرقاً من جيوشها إلى الشوارع ؛ لضمان تنفيذ التعليمات الصحيَّة والوقائية ، وربَّما حاصرت فيها مدناً بأكملها ، وأغلقت مساكن موبوءةً على أهلها ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرج منهم أحدٌ ، تماماً كما أمر الشرع الإسلامي الحنيف بالحَجْر الصحِّيِّ لمن أصابهم الوباء المُعدي .
سنَّة التأديب الإلهي :
ومن عجائب أقدار الله تعالى : أن أوَّل ظهور لهذا الوباء كان في الجمهوريَّة الصينيَّة الشعبيَّة ، التي تعدَّت بالظلم والطغيان على المسلمين فيها ، حتى إنها حجرت على ملايين منهم في مُعسكرات أمنيَّة مغلقة ، فشتَّت شمل الأسر ، وفرَّقت بين الوالدة وولدها ، فلم تُمْهل طويلاً أن عاقبها الله تعالى من جنس قبيح فعلها ، بوباء شتَّت شمل كثير من أسرهم ، وسجن ملايين منهم ، وكلَّف الحكومة الصينيَّة مليارات الدولارات للرعاية الصحِّية والوقائيَّة ، هذا إضافة إلى ما أصاب اقتصادهم من الأضرار الفادحة ، وما يُؤخِّره الجبَّار - تبارك وتعالى - من العقوبات - للمعاندين - أشدُّ وأعظم .
ويلحق بهذا أيضاً : تفشِّي هذا الوباء القاتل في جمهوريَّة إيران - معقل الرافضة وغلاتها - لتكون الدولة الثانية الأشدَّ ضرراً بعد الصين ، ليُذيقهم الله تعالى بعض ما كسبوا ، فقد أفحشت حكوماتها المُتعاقبة - منذ ثلاثة عقود تقريباً - على الفتك بأهل السنَّة في العراق والشام واليمن ، فأقدمت فرق موتها - الرسميَّة والمتطوِّعة - على مجازر همجيَّة مروِّعة ، لا يمكن تخيُّل وصفها ، لولا ما وثـَّقته بعض عدسات الكاميرات ، ممَّا لا يمكن تصديق صدوره عن أسوء الخلْق سلوكاً ، فضلاً عمَّن يزعم المُقاومة وحماية الدين !! إلى جانب استقدامهم للجيش الروسي الملْحد ، ليتولَّى تسوية المدن على أهلها ، ضمن مشاهد لم تعرف البشريَّة لها مثيلاً .
هذا إضافة إلى حروب الإبادة الجماعيَّة المُستمرَّة على المسلمين المستضعفين في الهند ، وفي كشمير ، وفي بورما ، وفي غيرها - منذ عقود طويلة - وقد وقف العالم بأسره تجاه كلِّ هذه المآسي ، بين : عاجز ، وشامت ، ومُتآمر ، يُشاهد ويُعاين طحن جماهير من الشعوب المستضعفة ، ليس لسبب سوى أنهم مسلمون ، فأراد الربُّ بعدله : أن ينالهم شيءٌ ممَّا نال هؤلاء ؛ ليكون تذكرة بعذاب أشدُّ وأبقى .
حتى إذا تفاقم حجم الكارثة على الدول المُتقدِّمة في أوروبا وأمريكا ، وانكشف عجزهم أمامها ، وأُسقط في أيديهم : أخذوا يسْتجدون حلول السماء ، في تصريحات عامة نادرة ، لم يكونوا يتفوَّهون بمثلها حال الرخاء ، حتى إن دولاً في أوروبا : أذنت للمسلمين - في هذه الأيام العصيبة - برفع الأذان علناً ، حين لم تكن - منذ قرون - تأذن لهم في ذلك .
وهكذا - دائماً - القوَّة لله جميعاً ، وقد تجلَّت أبلغ ما يكون - في هذه الكارثة الإنسانيَّة - في أضعف الخلْق وأصغرهم ؛ ليعلم المُتكبِّرون ضعفهم ، ويُوقنوا بأن ما خفيَ عنهم من عظيم البطش شيءٌ شديد ، وما كُفَّ عنهم من سريع الانتقام أمر مهول .
فرض الربوبيَّة على المُلحدين :
والعجب كلُّ العجب في أناس يتشكَّكون في وجود الله تعالى ، وأنه هو القادر المُدبِّر للكون ، ثم - هم بعد ذلك - يُقرُّون جميعاً : بوجود فيروس صغير حقير ، أخبر بوجوده بعض الباحثين ، يتحكَّم في أهل الأرض جميعاً ، وقد أذعنوا له كلُّهم ؛ فيقتل بعضاً ، ويحبس بعضاً ، ويُفرِّق بعضاً ، ويجمع بعضاً ، فاستطاع كائنٌ مجهريٌّ لا يعقل : أن يُدير المشهد العالمي بأكمله ، وفق شروطه القاسية المُجحفة ، فاستباح من الناس ما لا يستبيحه العتاة من الضعفاء ، إلى درجة أن أكبر دول العالم وأقواها : هي الأضعف أمام حركة هذا الكائن وفتكه ، حتى غدت ضحاياه من المرضى والقتلى تُقدَّر بمئات الألوف ، في غضون ثلاثة أشهر فقط من انبعاثه ، والتوقُّعات تصل بها إلى الملايين إذا طال أمد بقائه ، لا سيما إذا جدَّد الفيروس أشكاله ، وأخذ يظهر تِباعاً في مواسم مُقْبلة ، ممَّا يُنذر بمزيد من الضحايا ، الذين لن يجدوا من يتولى رعايتهم ، هذا فضلاً عن القتلى الذين لن يجدوا من يتولى تجهيزهم ودفنهم ، فإن بوادر ذلك قد بدت واضحة في بعض المُجتمعات ، لا سيما في الدول الفقيرة .
لقد انكشف العالم بأجمعه أمام هذا المخلوق الصغير ، وظهرت به هشاشة نظمه الصحيَّة ، في التصدِّي لأزمات وبائيَّة على هذا النحو الشامل الفريد ، حتى أنذر بعض المُراقبين بتداعيات سياسيَّة عظيمة وخطيرة ؛ كتفكك الاتحاد الأوروبي ، وتغيُّر وجه العالم بأسره ، وتقويض فكرة العولمة ، بانكفاء الدول ؛ كلٌّ على نفسه ، مع التبشير بولادة نظام عالمي جديد ، يقوم على أنقاض نظام عالم اليوم ، الذي انتهت صلاحيَّته في البقاء منذ عقود ، وجاءت هذه الجائحة الوبائية لتُتمِّم الإجهاز عليه ، فقد تعوَّد البشر أن الأوبئة العامة الكبرى : يعقبها - في العادة - تغيُّرٌ في نظام حياة الناس ، فتتأسَّس - على إثر ذلك - منظومة عالميَّة جديدة ، هي ربَّما تكون أكثر عدلاً وإنصافاً ، فوباء اليوم إنما يحكي أحداث أوبئة تاريخيَّة سابقة ، وفق دورة الحياة البشريَّة المُتجدِّدة ، حتى وإن كان وباء اليوم يُوصف بالأعنف والأشدِّ والأوسع .
إذا كانت كلُّ هذه الأحداث الكبيرة ، وتداعياتها الواقعة العظيمة : قد أقرَّ الناس بها - دون نكير - لهذا المخلُوق المجهريِّ الدقيق ؛ فإن من الأولى : إقرارهم بما خفيَ عنهم من مخلوقات أخرى عظيمة وحقيرة في هذا الكون الفسيح ، وأولى منه إقرارهم بقوَّة عظيمة مُطْلقة خلف كلِّ هذا ، تُدبِّر الكون وفق حِكَمٍ بالغة جليلة ، فإن إنكار الملاحدة للخالق المُبدع العظيم : لا يعدو أن يكون معاندة للحقائق المستقرَّة في الواقع والفطرة ، ومُكابرة لِمَا دلَّ عليه العقل الصريح ؛ فإن العقل إذا انبعث بكلِّ طاقاته ومواهبه ، دون عوائق النفس والشيطان : فلا بدَّ - بالضرورة - أن يشهد : أن لا إله إلا الله .
سكرة الوباء :
ومن المُفارقات العجيبة : أنه في الوقت الذي يتطلَّع فيه بعض الساسة الغربيين إلى نفحة ربَّانيَّة تُخلِّصهم من هذا الوباء : أبدت طوائف من المُتشيِّعة مسالك شركيَّة غبيَّة ، في تعاملهم مع هذا الوباء ؛ فظنُّوا أن عتباتهم المُقدَّسة تمنع من الإصابة بالداء ، وتمنح المُصابين الشفاء ، فلم يأخذوا بأسباب الوقاية ، فما ازدادوا بذلك - في أنفسهم - إلا هلاكاً وخبالاً ، وما ازدادوا - عند غيرهم من الناس - إلا استخفافاً وحقارة ، مع ما في هذه المسالك الوضيعة من إثم الصدِّ عن سبيل الله تعالى .
ولم يكن هؤلاء وحدهم المُحتكرين لمشاهد الغباء والاستخفاف بالوقاية الصحيَّة ، ممَّن جمعتهم الخرافة العقديَّة ، فقد شابههم في ذلك طوائف من المتديِّنين اليهود والنصارى ، يزعمون أنهم محفوظون بشركهم من العدوى ، فأبدوا من السخرية السلوكيَّة والاستخفاف ، ما جعلهم أضحوكة للعقلاء ، في عصر لم يعد فيه السلوك الفردي - فضلاً عن الجماعي - مستوراً عن أعين الناس ، فقد حفلت بعض وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع سلوكيَّة مُخجلة ، لمن يُسمَّون عندهم بالمتديِّنين !!
وقد لحق بهؤلاء أيضاً بعض مُتصوِّفة أهل السنَّة ، حين أبدوا شيئاً من الاستهتار بالعدوى ، ليُقْنعوا أتباعهم بحسن توكُّلهم على الله تعالى ، وعدم خشيتهم من الإصابة بالمرض !! وفرقٌ كبير بين الجرأة على مظنَّة العدوى ، وترك الاحتياط الواجب لها ، وبين الرعب غير المُبرَّر من احتمالات الإصابة بالعدوى .
ولئن كان الشرع الإسلاميُّ الحنيف : قد نهى عن الهلع والجزع أمام أقدار الله تعالى ، وأمر - في مقابل ذلك - بالصبر والرضى : فإنه - مع ذلك - شرع الأخذ بأسباب الوقاية الصحيَّة كأحسن ما ينبغي ، ونهى عن الاستهتار بما عُلم بالطبِّ والتجربة فساده ، من سلوك التواكل والإهمال ، المؤدِّي - في الغالب - إلى الضرر على النفس أو الآخرين ، فالاعتدال - في كلِّ هذا - هو نهج الشرع المُطهَّر .
الافتضاح الحضاري :
ولعلَّ من حسنات هذه الأزمة العالميَّة : انكشاف ما أخفته الحضارة الماديَّة بزخارفها ، من قبائح سلوك إنسان الغرب ، الذي بقيَ زمناً طويلاً يسْتتر بعيوبه خلف مظاهر سلوكيَّة تقدُّميَّة ، من معاني الوحدة الإنسانيَّة ، والحريَّة والعدالة والمساواة ، حتى إذا عمَّت هذه الجائحة مُدنهم الحضاريَّة ، وأحسُّوا عندها بضيق الأزمة : ظهر على جمهورهم جشع النفس ، وقبح الطبع ، وفقر الضمير ، ضمن سلوكيَّات اجتماعيَّة فجَّة ، من مظاهر العنصريَّة الاجتماعيَّة ، والأنانيَّة المُفرطة ، وهوس التسوُّق ، الذي لا يخلو أحياناً من التعدِّي والسرقة ، حتى بلغ الهوس ببعض الحكومات إلى قرصنة شحنات المستلزمات الطبيَّة المُرسلة بين الدول !! في صور شاذة من القبائح السلوكيَّة والأخلاقيَّة ، التي تنمُّ عن ظلمة النفس المُسْتترة ، خلف زخارف الصور الحضاريَّة ودعاياتها ، فما لبثوا طويلاً حتى سقطوا عند أوَّل اختبار مُحرج لاتفاقيَّاتهم الدوليَّة المُبرمة فيما بينهم للتعاون المشترك ، بعد الحرب العالميَّة الثانية ، فبدوا غير مُتضامنين ، في وقتٍ هم أحوج ما يكونون فيه إلى تضامن الجميع ، بما فيهم الدول الفقيرة النامية ؛ إذ لم يعد - في ظلِّ هذه الجائحة العامة - مجالٌ للانفراد بالقرار عن الجماعة الإنسانيَّة ، فالكلُّ أصبح رهينة سفينة دوليَّة واحدة ، فقد وحَّد الفيروس الغامض حاجاتهم واتجاهاتهم ، فلا مجال بعد الآن لاجتهاد فرديٍّ خارج المجتمع الدولي .
ورغم ذلك ذهبت كلُّ دولة تنادي - جهاراً - بمصالحها الخاصَّة على حساب الآخرين ، هذا فضلاً عمَّا أبدوه صريحاً - في هذه الأزمة - من إسْقاط حقوق شعوب دول العالم الثالث في الحياة الكريمة ؛ ليكونوا آخر المُنتفعين بأسباب الوقاية والسلامة الصحيَّة ، ومع ذلك جاءت أقدار الله تعالى بغير ما اشتهت أنفسهم المُظلمة ، حتى اسْتحرَّ القتل فيهم أكثر من غيرهم .
التداعيات الاقتصاديَّة العامة :
ولقد كان من التداعيات الاقتصاديَّة العامة لهذا الوباء : أن تعطَّلت غالب الأنشطة التجاريَّة والاستثماريَّة والسياحيَّة ، واهتزَّت أسواق البورصة العالميَّة ، مع موجات من الإفلاس العام ، التي تُنذر بضرب شركات عملاقة كبرى ، ودخل العالم أجمع في أزمات اقتصاديَّة بالغة ، لا يُدرى - حتى الآن - حجم تداعياتها المستقبليَّة ، ومدى احتمالات التعافي من آثارها الاقتصاديَّة الشاملة ، إضافة إلى تعطُّل الحياة الفرديَّة والجماعيَّة بمنع التجوُّل : بما فيها حركة النقل بكلِّ أنواعها ، حتى الأنشطة التعليميَّة بمستوياتها المختلفة : تعطَّلت حركتها الطبيعيَّة ، فعمَّ الحياة شللٌ عامٌّ ، توقِّياً من احتمال العدوى ، حتى غدت شوارع أكبر مُدن العالم كثافة : خاوية من أهلها ، وقد اعتصم الناس في بيوتهم محبوسين خشية الوباء .
وهذا الوضع غالباً ما يعقبه كساد اقتصاديٍّ عام ، يكشف هشاشة الرأسماليَّة في بنائها الاقتصادي ، أمام مُفاجآت الأسواق وتقلُّباتها ، ولهذا غالباً ما يقع الفتْك أوَّل ما يقع على صغار المُستثمرين ، وأصحاب المشاريع الصغيرة ، ومن هم ضمن قطاعاتهم من العمَّال والفنيين الصغار ، وبخاصَّة أولئك الذين يعملون بالأجر اليومي ، من الذين يُباشرون عموم المواطنين بخدماتهم ، لا سيما المتعلِّقة بتوفير المواد الغذائيَّة والاحتياجات الضروريَّة اليوميَّة ، ممَّا قد يكون ضرره عاماً على الجميع .
وقد شاعت - في هذه الأجواء الموبوءة - النصائح الطبيَّة : بالامتناع عن المُصافحة والتقبيل والعناق ، وتجنُّب ملامسة الآخرين ، مع ضرورة ترك مسافات كافية بين المُختلطين ، والحرص على التزام البيوت ، وترك التجوُّل خارجها لغير ضرورة ، ومثل هذه الممارسات السلوكيَّة الصارمة صعبة الالتزام ، لاسيما في البيئات العربية المُفعمة بالعواطف الاجتماعيَّة .
وهذا الوضع - لا سيما إن طال أمده - يُنذر بآثار اقتصاديَّة وخيمة على الأسر ، التي تقتات عن طريق حركتها الاجتماعيَّة ، إضافة إلى الآثار الأخرى النفسيَّة لتكدُّس الأفراد في مساكن صغيرة محدودة المرافق ، ممَّا يُخلِّف - في الغالب - مُضاعفات اجتماعيَّة شاملة ، ولعلَّ شيئاً من الدراسات الميدانيَّة - في المستقبل القريب - تكشف عن حجم الأزمة الخانقة ، التي انتابت الأسر والأفراد في خاصَّة أنفسهم ، من شدَّة الضغوط النفسيَّة التي أحاطت بهم .
ولهذا خفَّت القبضة الصحيَّة - بعض الشيء - على حركة الناس بعد أشهر من التضييق ، حين يئس المجتمع الدولي من توفير علاج سريع للوباء ، أو مصْلٍ عاجل يحفظ المواطنين من احتمالات العدوى ، في ظلِّ مخاوف جادَّة من انبعاث موجات جديدة من الوباء ، ومع ذلك ترجَّح قرار التعايش معه ، والتأقلم مع مُضاعفاته المُتوقَّعة ، بعد أن لُوحظ انخفاض عدد الإصابات والوفيَّات ، لا سيما إذا فُرضت على المواطنين احترازات الوقاية الصحيَّة والسلامة ، مُراعين - في هذا القرار - حجم الأضرار الاقتصاديَّة الناجمة عن شلِّ الحركة الاجتماعيَّة ، ممَّا قد يوازي أو يفوق حجم الإصابات المُحتملة على المدى الطويل .
ولئن كانت بعض المؤشِّرات تتحدَّث عن بداية تعافي الصين من آثار هذا الوباء ، باعتبارها كانت الدولة الأولى ، التي انبعث بركان الداء في وجهها ، رغم تكتُّمها في أوَّل الأمر ، فمنطقيٌّ أن تكون هي أوَّل المُتعافين أيضاً ، هذا إن صحَّت هذه المُؤشرات في ظلِّ التعتيم الإعلامي ، وضعف الشفافيَّة ، مع ما أبدته الحكومة من صرامة وقسوة في تعاملها مع الحدث ، ومع ذلك : فإن الإفراط في التفاؤل ؛ بعودة الاقتصاد الصينيِّ إلى ما كان عليه قبل كورونا : أمرٌ بعيد على المستويين القريب والمتوسِّط ، في ظلِّ تداخل الاقتصاد العالمي بعضه في بعض ، فإن تعافي الصين مرهونٌ بتعافي شركائها من : المُصنِّعين ، والمُستثمرين ، والمموِّلين ، فهي أحوج إلى غيرها - في هذا العالم - من حاجتها إلى نفسها ، فإن قوَّة الاقتصاد الصينيِّ - بالدرجة الأولى - مُستمدَّةٌ من شراكاتها الدوليَّة ، ومن أسواق الاستهلاك العالميَّة .
هذا إضافة إلى ما ينتظر الحكومة الصينيَّة من توعُّد كثير من دول العالم بمقاضاتها لدى المحاكم الدوليَّة ، على تباطئها في تحذير العالم من حولها بانبعاث هذا الوباء ليأخذوا حذرهم ، فتكتَّمت عليه حتى خرج عن السيطرة ، وقد كان من الممكن - من أول الأمر - السيطرة عليه ضمن نطاق محدود ، أو على الأقل التخفيف من سعة انتشاره وسرعتها ، ممَّا يحمِّل الحكومة الصينيَّة القسط الأكبر من مسئوليَّة كارثة كورونا ، وآثارها الصحيَّة والاقتصاديَّة .
التداعيات الاقتصادية الخاصَّة :
وإن للمتأمِّل - في هذا الصدد - أن ينظر حجم التداعيات الخطيرة - غير المسبوقة - التي لحقت بأسواق النفط ، لا سيما صناعة النفط الصخري ، التي بدأت بعضها في إعلان إفلاسها ، من جرَّاء ضعف الطلب من جهة ، ومن تداعيات تنافس المُنتجين الكبار من جهة أخرى ، الذين زادوا من إنتاجهم في أثناء انتشار الوباء ، فكثر بذلك العرض إلى حدِّ التخمة ، فانخفضت معه الأسعار ، بل انهارت انهياراً تاريخيًّا ، في مقابل قلَّة الطلب ، في ظلِّ الشلل العام الذي فرضته الجائحة .
وشركات النفط الجديدة - التي دخلت الأسواق مُؤخَّراً - لا تُطيق انخفاض الأسعار ؛ بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج لديهم ، لا سيما إذا كان الانخفاض شديداً على هذا النحو ، ثم طال أمده إلى فترات طويلة ؛ لأن تكاليف التخزين - إذا طالت مُددُها - فإنها سوف تفوق قيمة المخزون نفسه !! وأقصى ما يمكن القبول به من الأسعار للبقاء في السوق النفطيَّة : هو تساوي الربح مع الخسارة ، وهو ما يُسمَّى : ( نقْطة التعادل ) ، المُعبَّر عنها بالصِّفر ؛ فالمدخول يتساوى مع المصروف ، فهذا الوضع الصفْري : هو أقْصى ما يمكن القبول به للبقاء في السوق ، وهذا مُقدَّر - عند بعض شركات الإنتاج - بقيمة أربعين دولاراً للبرميل !! فكيف - والحالة هذه - إذا كان واقع البيع بالسالب دون الصِّفر ؟!
ولهذا أخذت بعض شركات النفط - بالفعل - تُعطِّل بعض خطوط إنتاجها ؛ بقصد خفض خسائرها المُتفاقمة من جهة ، والإبقاء - قدر المستطاع - على نفسها داخل الأسواق من جهة أخرى ، فإن قرار الخروج من السوق بالكلِّية : يعني الانتحار الاقتصادي ؛ فإن جهات التمويل لن ترحم ، كما أن إعادة التشغيل بعد جلاء الوباء : يُشبه - إلى حدٍّ كبير - إعادة التأسيس من جديد ، فهي موازنة صعبة وعسيرة : أحلاها مرٌّ .
ولهذا تبيع بعض الشركات مخزونها من النفط للمشترين بالآجال المُريحة ، في سابقة لا مثيل لها ، حتى بلغت تداعيات الأزمة ببعض الأسواق : أن يدفع البائع للمشتري ؛ ليتخلَّص من حجم مخزوناته ، التي فاضت بها الصهاريج العظيمة ، سواءٌ الأرضيَّة منها ، أو تلك العائمة في المُحيطات الواسعة ، حتى انتهى الأمر ببعض الباعة المُنتجين إلى تكليف شركات خاصَّة : إتلاف مخزناتهم من النفط الثقيل ، بإعادة حقْنها في باطن الأرض !! دونما اعتبار لما قد يؤول إليه هذا التصرُّف الجريء من أضرار بيئيَّة جديدة .
وهذا - لعمر الله - هو غاية العجب في هذا الزمان ، حين يفقد الذهب الأسود قيمته إلى ما دون الصفر ، بعد عمر مديد من التفوُّق والصعود ، فلا شيء يدوم على حاله ، مهما طال أمد عافيته ، حتى وإن كانت السلعة العالميَّة الأولى .
وهذا الواقع يُذكِّر بما سوف يؤول إليه معدن الذهب في آخر الزمان من فقدان قيمته الماليَّة ، فقد ثبت في صحيح الإمام مسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( تقيء الأرض أفلاذ كبدها ، أمثال الأُسطوان من الذهب والفضَّة ، فيجيءُ القاتل ، فيقول : في هذا قَتلتُ ، ويجيءُ القاطع ، فيقول : في هذا قَطعت رحمي ، ويجيءُ السارق ، فيقول : في هذا قُطعت يدي ، ثم يدَعونه ، فلا يأخذون منه شيئاً ) ، وهذا الوصف هو النهاية في عجائب آخر الزمان ، حين تفقد هذه الأثمان الغالية قيمتها السوقيَّة ، بعد أن بقيَت في عليائها الدهر كلَّه ، فلا بدَّ من زمن ترجع فيه الدنيا إلى حقارتها ، ويثبت ذلك عياناً للناظرين ، فلا تعود للأموال التي في أيدي الناس قيمة ، حتى إن الرجل - في آخر الزمان - لا يجد موضعاً لزكاته ، حين تكثر الأموال ، وتفيض عن حاجات الناس ، ومثل هذه الأخبار النبويَّة الصادقة : يسهل قبولها بعد أن شهد الناس هذا التراجع الرهيب للذهب الأسود .
والغريب أن كل هذه الأحداث حصلت في أسابيع معدودة ، منذ انهيار الاتفاق بين الدول المُنتجة ، في ظلِّ أزمة كورونا ، وهكذا أحداث آخر الزمان وغرائبه تكون سريعة مُتلاحقة ، لا تُمهل المُتباطئين عن فهمها وإدراكها ، والخوف كلُّ الخوف من أن تنجلي هذه الأزمة عن اندلاع حرب عالميَّة ثالثة تفتك بالبيئة والإنسان ، فإن طبول الحرب تُقْرع بابتزاز الصين ، لتعويض دول العالم عن أضرار الوباء ؛ لكونها بلد منشأ الفيروس من جهة ، ولأنها تستَّرت - في أوَّل الأمر - على انبعاث الوباء .
ولعلَّها حرب تفتح المجال لصعود قوىً سياسيَّة واقتصاديَّة جديدة ، على غرار ما تمخـَّضت عنه الحربين العالميَّتين السابقتين ، فيكون في هذا القضاء خيرٌ للمسلمين عامة ، وللعرب على وجه الخصوص ، فإن المسلم لا يقْنط ولا يتشاءم .
وعلى الرغم من أن هذا التدني لأسعار النفط ، الذي كان من المفروض : أن يُنعش اقتصاديَّات الأفراد ، وصغار المُستهلكين : فقد حال الوباء العام بينهم وبين استمتاعهم بذلك ، حين فرض عليهم الإقامة المنزليَّة الإجباريَّة ، فعاد الجميع مُتضرِّراً : الكبار والصغار على حدٍّ سواء .
حسنات الوباء :
ولعلَّ الحسنة الطيِّبة التي تُذكر هنا ، من وراء هذا السكون الحركي الشامل ، الذي انتاب الناس : هو انتعاش كوكب الأرض ، حين بدأ يتنفَّس بطريقة طبيعيَّة ، بعد أن انقطعت عن أجوائه العليا كثيرٌ من انبعاثات مداخن مصانع سكَّان الأرض ، وعوادم مُحرِّكاتهم ، بعد أن انخفضت مُعدَّلات استهلاك الوقود الأحفوري ، فقد أظهرت - مؤخَّراً - بعض صور الأقمار الصناعيَّة : انخفاضاً ملْحوظاً في درجات التلوث البيئي ، بعد عقود طويلة من الإسراف في حقِّها ، ولو استمرَّ السكون على حاله زمناً أطول ؛ لكان في هذا نفعٌ عامٌّ للبشر من هذه الجهة ، وإن كانت الأزمة شديدةً على كثير من مناحي الحياة الأخرى .
إن الجشع الاقتصاديَّ البغيض ، الذي انتهجته الشركات الكبرى ، وما رافقه من الاستهتار السياسيِّ غير المسئول ، وما ظهر معه من العجز التَّام لمنظَّمات المجتمع المدني : أدَّى - في مجموعه - إلى أزمة المناخ العالميَّة ، رغم تحذيرات مراكز الأبحاث العلميَّة ، ونداءاتها المُستمرَّة والمُتكرِّرة ؛ بخطورة الوضع الصحِّيِّ على كوكب الأرض من جرَّاء الاحتباس الحراري ، وما قد ينجم عنه من كوارث بيئيَّة عنيفة .
في هذا الخضمِّ المُتلاطم : كان لا بدَّ لهذا الانفلات المحموم - في حقِّ البيئة - من كابح خارجيٍّ عنيف ؛ يضبط اندفاع أهل الأرض واستهتارهم ، حين لم يبقَ لهم - من أنفسهم - وازعٌ كافٍ ، يُلْجم نزواتهم الاقتصاديَّة ، ويحدُّ من جشعهم التجاري ، ويكفُّ من نهمهم المالي ، الذي تجاوز حدود المعقول ، إلى هوس الطفولة الرعناء .
لا سيما وقد ثبت لدى الباحثين في مجال المناخ : أن الجيل المعاصر من أهل هذا الكوكب ، هم آخر الأجيال البشريَّة ، المعنيَّة باستدراك ما قد فات من تداعيات أزمات التغيُّر المناخي ؛ إذ لن يكون للأجيال القادمة فرصة - مهما حاولوا - لاستدراك ما فات - إلا أن يشاء الله تعالى - وإنما سوف تنحصر مُهمَّتهم في محاولات التأقلم مع التغيُّرات المناخيَّة الحادَّة ، التي سوف يتعرَّضون لها ، فلعلَّ في هذه الجائحة ما يُوقظ نوَّام هذا الجيل ، ويُنبِّه الغافلين منهم ؛ لمحاولة استدراك ما يمكن استدراكه ، قبل أن تفوت الفرصة على الأجيال اللاحقة .
استيعاب الرسالة الإلهيَّة :
إن لحظات تأمُّل فيما أحدثه هذا الفيروس من الأزمات والاضطرابات في حياة الناس : ضروريَّةٌ لاستقبال الرسائل الإلهيَّة بصورة صحيحة ؛ فإن الابتلاء بالخير والشرَّ من سنن الله تعالى في عبيده ؛ رجاء إحداث يقظة روحيَّة طويلة الأمد ، تعقبها انعطافةٌ صادقةٌ نحو الجادَّة ، بهدف تصحيح المسار ، فقد أمعنت البشريَّة المعاصرة في طغيانها في كلِّ اتجاه ، وتجاوزت كلَّ الحدود الدينيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة ، ولم يعد من حدود الله تعالى شيئاً لم تنتهكْه ، سواء كان بأقوال وآراء تتكلَّمها ، أو بأفعالٍ وأعمال تسْلكها .
إن فرح بعض الشعوب المعاصرة بما أُوتوا من القوَّة والتمكين ، حين ظنُّوا أنهم قادرون على ما في أيديهم من كنوز الأرض وخيراتها ، ماضون في مُتعهم الماديَّة والحسيَّة دون رقيب ، مُمْعِنون في ظلمهم لغيرهم وبطشهم دون حسيب ، مُعرضون عن وازع الضمير في عقولهم ، مُغفلون عن نداء الفطرة في نفوسهم : كان لا بدَّ - في خضمِّ هذه الغفلات المُتراكمة والبلادة المُستحكمة والظلم المستشري - من آية تُوقظ النوَّام ، وتُنبِّه الغافلين : فكانت الآية في أضعف خلق الله تعالى : فيروس صغير حقير ، لا يُرى إلا بالمجاهر الإلكترونيَّة المُتطوِّرة ، وقد كان حجم طغيان البشر وكبرِهم وغرورِهم : يستدعي من الآيات ما هو أشدُّ وأعظم ، ومع ذلك كان بعث هذا المخلوق الصغير وحده كافياً لتأديب طغيان البشر ، وتعريفهم حدودهم الطبيعيَّة ، وأحجامهم الحقيقيَّة ، فكان موعظة للعالمين ، ومع ذلك فقد لا يعدو أن يكون هذا الفيروس مقدِّمة لما هو أعظم وأنكى ، إذا لم يستقبل البشر الموعظة بصورة إيجابيَّة .
ولهذا لم يكن غريباً أن تستجدَّ في حياة الناس أمور من البلايا العظام ، والفتن الجسام ، تُقابل بعض ما عملوا من الموبقات ، فتكون في حقِّ طائفة تكفيراً من السيئات ، وفي حقِّ أخرى رفعاً للدرجات ، وفي حقِّ ثالثة مزيداً من العقوبات .
وإن من عظيم ما يُؤلم المؤمن البصير - في خضمِّ هذه النازلة الوبائيَّة العظيمة - ضعف الاعتبار بها ، في مقابل استحكام الغفلة المُطْبقة عند بعضهم ، فإن المقصود من وراء الابتلاء : هو الاستذكار والانتباه ، فإذا لم يحصل هذا المقصود ، أو كان وقع النازلة باهتاً على النفوس : فهو إيذانٌ - والعياذ بالله تعالى - بمزيد من البلايا الكبار ، التي قد لا تأذن للمجرمين بزمن للنظر والاستبصار ، فإن من استمرأ صغار البلايا ، فلم تُجدِ في يقظته شيئاً : جاءته كبارها ، التي لا تُبقي ولا تذر .
تعليق الصلاة في المساجد :
وإن من عظيم ما نزل بأبناء هذا الجيل من المسلمين ، ممَّا استجدَّ في حياتهم ، ولم يكن لهم به سابق خبرة ولا تجربة : هو اجتماع كلمة جمهور علماء المسلمين المعاصرين ، على مشروعيَّة تعليق صلاتي الجمعة والجماعة في المساجد عدا الأذان ، إلى أن يأذن الله تعالى برفع هذا البلاء ، فهذه نازلةٌ شرعيَّة فريدة ، لا مثيل لها من تاريخ المسلمين ، على هذا النحو العام والشامل والطويل ، الذي عمَّ الكثير من أمصار المسلمين جملة واحدة ، حتى غدا الحَرَمان الشريفان بلا معتمرين ولا زوَّار ، بما في ذلك المسجد الأقصى المبارك ، وأصبحت الكعبة المشرَّفة كالجوهرة العظيمة النفيسة في وسط صحن المطاف ، لا يقْربها أحد ، وقد أُخْليَ الصحن من الطائفين إلا قليلاً ، على غير ما اعتاد هذا الجيل رؤيته من التزاحم والتدافع عند البيت العتيق ، لا سيما في العشر المفضَّلة من أواخر شهر رمضان المبارك ، وما يختمون به شهرهم - في العادة - من التوافد العام لصلاة العيد ، فكلُّ ذلك حصل هذا العام على غير ما اعتاده الناس وألفوه ، فلم تُبقِ هذه الجائحة شيئاً من أحوال الناس إلا تناولته بالتغيير والتحويل ، حتى شاع بين المسلمين تعلُّم فقه أداء الصلاة في البيوت ، لا سيما صلاتي الجمعة والعيد ، اللَّتين لا عهد لعوام المسلمين بالنهج المشروع لهما .
وإن أسوأ الظنون - فيما آلت إليه بيوت الله تعالى - وأخوفها : أن يكون هذا طرداً من الجبَّار - جلَّ وعلا - للمُصلِّين عن بيوته ، فلم تعد له - سبحانه وتعالى - فيهم حاجة ، وقد فرَّطوا وخرَّبوا أزماناً طويلة ، ومع ذلك ما زالوا يتمتَّعون بنفحات الله تعالى في بيوته متى شاءوا ، فأراد الغنيُّ - تبارك وتعالى - أن يُذيقهم بعض إعراضه ليتَّعظوا ، ويتعرَّفوا - عن يقين - نعمة الله تعالى عليهم ، فإذا صحَّ هذا الظنُّ ، وكان هذا الحال مع عُمَّار بيوت الله تعالى : فكيف هو الحال بغيرهم ؟ بل كيف هو الحال بغير أهل الصلاة ؟
ولعلَّه أن يعقب هذه الموعظة المؤلمة : رجعةٌ صادقةٌ إلى الله تعالى ؛ يتوب فيها المفرِّطون ، ويستزيد فيها المُقْتصدون ، ويُوقِن فيها المجتهدون ، فليس أحدٌ - مهما بلغ من الفضل والإحسان - بمأمن من قضاء يُزعجه ، أو ربَّما يُهْلكه ، فالعبرة كلُّ العبرة ، فيما نزل بالأنبياء العظام - عليهم السلام - وكثير من الأولياء الكرام : من عظيم البلاء ، فغيرهم من المُخلِّطين أولى أن ينالهم بعض ما يكرهون ، فإنه ما بقيَ - بعد هؤلاء - إلا مُخلِّط .
ورغم ما في هذه الفتوى من الحزن والألم ، بفوات نعم بيوت الله تعالى ؛ لما رآه العلماء وأصحاب القرار من المصلحة الشرعيَّة في ذلك ؛ لأنه يحدث للناس من الأقْضية الشرعيَّة : بقدر ما أحدثوا في حياتهم من التجاوز والفجور ، ومع ذلك فإن فيها أيضاً إشارة إنذار لغرائب أخبار آخر الزمان ، ووقائعه العجيبة المُنتظرة ، من تلك التي لا تستوعبها كثيرٌ من العقول ، وربَّما لا يستسيغ بعضهم قبولها ، فإذا وقعت ، وشاهدها الناس : علموا حينها وأدركوا معانيَ ما أُخبروا به من غرائب الأحداث ، التي سوف يستقبلونها في آخر الزمان ، ممَّا أخبر بها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فإن المؤمن السعيد من وقف عند الثابت من الشرع : يقبله بقلبه ، ولا يُحاكِمه بعقله ، فإن كبار أشراط الساعة إذا بدأت : تتابعت مُسْرعة ، فلا تُمْهل بليداً ، ولا تنتظر متردِّداً ، ففائزٌ بعمله وإيمانه ، وخاسرٌ بكفره وعصيانه .
وحتى عودة الناس إلى مساجدهم - بعد نحو ثلاثة أشهر من الإغلاق - لم تكن على نحو ما اعتادوه من أداء الشعيرة التعبُّديَّة ، فرغم ما انتاب العودة من البطْء والتدرُّج ؛ فقد اقْتضت شروط العودة : الاستمرار في أخذ الاحتياطات الوقائيَّة اللازمة ، وبخاصَّة التباعد الجسدي ، الذي اقْتضى تجنُّب التقارب بين المُصلِّين توقياً من العدوى ؛ بحيث يترك كلُّ مصلٍّ مسافة متْرين تقريباً ، من الاتجاهات الأربعة المحيطة به ، حتى بدت صفوف المُصلِّين : أشبه ما تكون بصفوف المُتدرِّبين الرياضيين ، ممَّا اضطرَّ بعضهم إلى اتخاذ الساحات الواسعة المفتوحة : مُصلَّيات عامة لاستيعاب أعداد المُصلِّين ، الذين ضاقت بهم مباني المساجد المحدودة ؛ من أجل شرط التباعد الذي لا بدَّ منه .
ولا شكَّ أن هذا التباعد الجسدي بين المصلِّين - على هذا النحو - يُضعف من روحانيَّة صلاة الجماعة ، التي يبعثها التلاحم بين صفوف المُصلِّين ، والتراص الجسدي فيما بينهم ، حتى غدا المُصلُّون - حين يلتقون في المساجد - يتناظرون عن بُعد ، ويُشير بعضهم إلى بعض دون تماس ، يتوقَّى كلٌّ منهم لمس جسد أخيه ، خشية أن يكون مُصاباً بالوباء .
ومن ظنَّ من السذج أن مثل هذا التباعد لا يُؤلم النفس ، ولا يثقل عليها : فلا رأي له ، ولعلَّه معذورٌ يحكي تجربته الشخصيَّة الطويلة في الانعزال الاجتماعي ، التي أفقدته الإحساس برحمة التلاحم الجماعي ، وأنـْستْه مشاعر التعاطف بين الأصدقاء وذوي القربى ، حتى تحجَّرت نفسه على أشكالٍ خارج طبيعة سلوك الثدييات ، فعاد جسداً بلا حياة ، فإن الشخصيَّة الانعزاليَّة - التي تختار العزْلة بغير سند شرعيٍّ - لا تُدرك مُسوِّغاً للتعاطف الإنساني ، ولا تفهم معنىً للاختلاط الاجتماعي ، وربَّما داخلها رُهاب التجمُّعات البشريَّة ، فلا يصحُّ أن يكون شواذ الناس : معياراً للسلوك الإنسانيِّ القويم .
ولا يغيب عن الأذهان العقوبة التي أنزلها الله تعالى بالسَّامري ؛ انتقاماً منه على إضلاله بعض بني إسرائيل ، حين غاب موسى - عليه السلام - لميقات ربِّه - عزَّ وجلَّ - فزيَّن للقوم عبادة العجل ، فعُوقب أن يمضي في الحياة بلا مساس ، فلا يمسُّ أحداً ولا يمسُّه أحد ، حتى توحَّش فانفرد عن الناس في الأحراش والأدغال ، فلينظر المُتأمِّل كيف عمَّت عقوبته هذه الناس أجمعين ، فأصبحوا يتنافرون من مساس بعضهم بعضاً ، وهم داخل مدنهم وأسواقهم ومنازلهم ، يتوقون ذلك بالكمَّامات والقفَّازات .
والغريب أن هذه العقوبة - بقطع حاسَّة اللَّمس - كانت بين أصناف العقوبات التي مُورست على المعتقلين بسجن غوانتانامو ، الواقع في جنوب شرق جمهوريَّة كوبا ، ضمن أمريكا الجنوبيَّة ، حيث اتخذت منه السلطات الأمريكيَّة معتقلاً خارج حدودها الرسميَّة ؛ لتمارس فيه سلْطة مُطْلقة خارج القانون ، ضدَّ من صنَّفتهم أخطر الإرهابيين ، فكانت عقوبة قطْع حاسَّة اللمس للأشياء والأشخاص : ضمن العديد من العقوبات الأخرى ، التي شملت قطع جميع حواس المُعتقل عمَّا حوله ؛ بهدف تحطيم بنائه الشخصيِّ ، وهذا - لا شكَّ - من أشدِّ ما يمكن أن ينزل بالإنسان من العذاب النفسي .
وهاهم الناس في عالم اليوم - في ظلِّ وطأة هذه الجائحة الوبائيَّة العامة - قد نالهم شيءٌ من هذه المشاعر الانعزاليَّة المؤلمة ، التي فرضت عليهم قدراً ضروريًّا من التباعد الاجتماعيِّ ، وبعثت فيهم أحاسيس التوجُّس والريبة من الآخرين ، حتى غدت النفْرة اختيار الجميع تجاه الجميع ، على نحوٍ عالميٍّ عام ، لم يكن لهم به سابق خِبرةٍ ولا خَبر ، فما كان سلوكاً مستهجناً قبل الأزمة : أصبح بعدها سلوكاً مستحسناً ، بل فرضاً ضروريًّا لازماً ، تُعاقب على انتهاكه القوانين والتشريعات .
وهكذا تغيُّرات آخر الزمان تأتي غريبة وسريعة ، لا تترك للناس فرصة لتأمُّلها وتفحُّصها ، فضلاً عن أن تسمح لهم بتجنُّبها ، أو تعديل مساراتها ، وإنما تسوقهم في دروبها سوقاً ، لا يدَ لهم في شيء من فصولها وأحداثها ، فالسعيد من تحضره منيَّته على التوحيد ، طيِّب النفس ، صادق الود ، لا يُسرُّ ضغينة ولا حسداً ، قد خزن من لسانه ، وكفَّ من يده : ما يُحبُّ أن يُقابله الناس بمثله .
صدق الوحي والنبوَّة :
وفي هذا الصدد : فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الناس في آخر الزمان - حين يفجُرون - يُبتلون بأمراضٍ لم يسبق لأسلافهم بمثلها ، ومصداق هذه النبوءة المحمَّديَّة من الوقائع الشاهدة لا يُنكره عاقل ، فقد بلغ الفساد بكثير من المجتمعات المعاصرة مبلغاً لم يسبقهم إليه أسلافهم ، وتجرَّؤوا على مُحرَّمات خلقيَّة وسلوكيَّة ، وعقديَّة وروحيَّة ، ومحرَّمات أخرى صحيَّة ؛ من مأكولات بغيضة نتنة ، ومشروبات خبيثة قذرة ، حتى ما عاد عند بعض الشعوب المعاصرة شيئاً يتَّقونه من المحرَّمات ، اللهمَّ إلا ما كان من تجاوز حدود قوانين الصخرة والطغيان الجائرة ، فلم تكن سنَّة الله تعالى - في عقوبة المخالفين - لتفوت هؤلاء ولا غيرهم ، حتى نالتهم حظوظهم من أرجاس العذاب وصنوفه .
في هذا الخضمِّ المتلاطم : يستحضر المؤمن جمال دينٍ أباح لأهله الطيِّبات ، وحرَّم عليهم الخبيثات ، وأمرهم بالصالحات ، ونهاهم عن المُفسدات ، حتى عاد المؤمن مصوناً بدينه ، مُحصَّناً بشريعته ، محفوظاً بسنَّته ، فما يكاد يمضي زمنٌ يسيرٌ من الوقت ، حتى يصدر عن بعض مراكز الأبحاث العلميَّة المرموقة : ما يُؤيِّد الوحي المبارك ، في واجبات أوجبها ، أو في مناهيَ حرَّمها ، أو في طرائق سنَّها ، حتى غدت آيات الله تعالى شاهدة - على الناس - في الآفاق : تُبشِّر وتُنذر .
وما أدلَّ على ذلك - في هذه الواقعة العالميَّة العامة - من ظهور عظيم أحكام الوضوء وفضائله ، وما يلحقه من الآداب الشرعيَّة ، التي أصبحت فرضاً للوقاية من تفشِّي هذا الوباء القاتل ، فكم تُراه انتفع المُتوضِّئون والمُتأدِّبون منذ قرون - على كثرتهم - من هذه الشرْعة الربَّانية الحميدة ؟ وكم خسر - في مقابل ذلك - المُتنجِّسون الوقحون من فوات هذه المصالح الصحيَّة الشريفة ، هذا فضلاً عمَّا رتـَّب عليه الشارع الحكيم من ثواب اتـِّباع السنَّة ، وإسباغ الوضوء للمسلم ، بتكفير السيئات ، ورفع الدرجات ، ووعد الجنَّة للأطهار .
ولو ذهب الباحثون الشرفاء - ممَّن لم تعبث بهم العقائد والأهواء - ليتناولوا أحكام الشرع الإسلاميِّ المطهَّر : حكْماً حكْماً ؛ لوجدوا في كلٍّ منها آية للحكمة والاعتبار ، ممَّا يزيد في إيمان المؤمنين ، ويقيم الحجَّة على الكافرين .
ومع ذلك يقْبع المسلمون - في هذا العصر - في ذيل ركب الحضارة الإنسانيَّة ، ضمن هامش الحياة المعاصرة ، يعيشون عالة على المجتمع الدولي ، فيقتاتون من زرع غيرهم ، ويلبسون من نسج غيرهم ، ويركبون من صنع غيرهم ، ويُقاتلون بسلاح غيرهم ، ويتعالجون بدواء غيرهم ، حتى ما عادت لهم حجَّةٌ - من واقعهم - يتذرَّعون بها مع هؤلاء الأغيار ، حتى غدا المسلمون فتنة للقوم الظالمين .
حتى في هذه النازلة العظيمة - التي لهم فيها الكثير من حجج الشرع - لم يكن للباحثين المسلمين - للأسف - سهمٌ جادٌّ ضمن الجهود الطبيَّة العالميَّة ، المُتنافسة في مضمار تطوير علاجٍ لهذا الفيروس القاتل ، أو تركيب لقاح لحماية الناس من انتشاره المرعب ، فإنه لمن المحزن حقًّا : أن تتنافس دول العالم المتقدِّمة - عبر مراكز أبحاثها العلميَّة - في محاولة للظفر بالسبق في وضع علاج ناجع لهذا الفيروس ، أو تركيب مصلٍ يقي الإصابة به ، ومع ذلك تبقى أمة الإسلام في منأىً عن هذا التنافس الطبيِّ البنَّاء ، تنتظر - مع باقي دول العالم الثالث المُتخلِّفة - ما تجود به قرائح علماء الدول المُتقدِّمة في هذا السبيل ، لتلْتقط عندها فتات مُختبراتهم العلميَّة ، وكأن الدنيا لم تنعم قطُّ بعلوم المسلمين ومُخترعاتهم ، ولم يعرف الدهر لهم يوماً كانوا فيه قبْلة العلم والمعرفة ، حتى قام مقام الأمة من عاش دهره في عصور الظلام ، يتلمَّس - من القساوسة والرهبان - صكوك الغفران ، ممَّن كانوا يتخبَّطون صرعى بين الجهل والخرافة ، وبين الظلم والاستبداد .
الجنود المجهولون :
وإن من الحقائق البارزة ، التي تجلَّت في تفاعلات هذه الكارثة الإنسانيَّة العالميَّة : الدور الحيوي والفعَّال للأطْقم الطبيَّة في المستشفيات ، والباحثين العاملين في المختبرات الطبيَّة ، ومن يتبع لهم من الفنيين والمُساعدين والإداريين ، الذين أثبتوا وجودهم في هذه المُصيبة العالميَّة ، فبرزوا لواجهة الحياة العامة والخاصَّة ، كالتَّاج على رؤوس الناس فوق الجميع ، بما فيهم الزعماء والقادة السياسيون ، ليصفُّوا جميعاً - هم والعامة - مُتفرِّجين على فرسان الساعة ، وروَّاد الوقت ، بعد أن غيَّبهم الفنانون واللاعبون والممثـِّلون دهراً من الزمان ، فعادوا ليحتلُّوا صدارة المشهد الإنساني من جديد ، وليس ذلك لمُجرَّد التسلية والترويح عن الناس ، وإنما للسعي الحثيث في إنقاذ حياتهم من الهلاك المُتوقَّع ، ومحاولة تأمين العيش الهنيء لهم ، حتى إن كان ذلك على حساب راحة أنفسهم ، أو تعرُّضهم إلى الإصابة القاتلة ، فهؤلاء - ومن في حكمهم من رجال الأمن والمستخدمين في القطاعات الصحيَّة - أولى بالثناء والشكر والتقدير ، ممَّن أخَّرتهم الكارثة الفاضحة ، فغاب وراء صخبها وغبارها ، حتى بدا واضحاً للجميع : أن الحياة يمكن أن تستمرَّ وتزدهر بغير هؤلاء العابثين ، وأن اللَّهو - المحرَّم منه أو المكروه - ليس حتماً ضروريًّا لحياة الناس ، فقد كفَّت الجائحةُ الناسَ عن كثير من لهْوهم ومُجونهم ، حتى غدت المجتمعات أكثر نقاءً ، وأفضل سلوكاً .
الوحوش المُتحضِّرة :
وإن من أعظم الآيات التي برزت للعيان - في هذه الأزمة العالميَّة - صحَّة مُعتقدات المسلمين في المطاعم المُحرَّمة ، فقد أجمع العالم على لوم الصينيين في توسيع أنواع مآكلهم ومشاربهم ، فقد بلغت بهم الجُرأة على أن تعدَّوا على مُختلف أصناف البيئة الحيوانيَّة ، بطريقة فجَّة مقيتة ، فلم يكد ينجوَ شيءٌ من المملكة الحيوانيَّة - المُتاحة في البيئة المحليَّة والبريَّة - من أن يكون طبقاً شهيًّا لموائدهم القذرة ، ممَّا أفقد البيئة الفطريَّة توازنها الطبيعي ، حين عبثوا بكائنات لم تُخلق للأكل ، وإنما خُلقت - كما خُلق كثيرٌ من الكائنات الأخرى - من أجل التوازن البيئي ، وفق حكمة الخالق العظيم جلَّ جلاله .
ولئن كان العذر قائماً لقبائل مُسْتوحشة في بعض صحارى العالم وأدغاله النائية ، حين يفقد أهلها حاسَّة التمييز الإنسانيَّة ، بين ما يُستحسن وما يُستقْبح من الأطعمة والأشربة ، لا سيما حين تضيق عليهم سبل العيش : فإن العذر ممْنوعٌ عن دولة مُتقدِّمة كالصين ، بلغت ما بلغت من التقدُّم العلمي والصناعي في جميع المجالات الحيويَّة ، حتى إن مُنتجاتهم الصناعيَّة قد غزت جميع أسواق العالم الحديث بلا استثناء ، ومع ذلك تقبع فئات واسعة من شعبها في هذه الحمأة النتنة من الرذائل السلوكيَّة .
هذا إضافة إلى أساليبهم الوحشيَّة في إعداد هذه الأطباق الفاسدة ، التي يتجرَّؤون فيها على فظائع إجراميَّة تجاه الحيوانات حيَّة ، قبل أن تزهق أرواحُها ، بل بلغت ببعضهم الجرأة : أن يتناولوا بعض هذه الحيوانات المُستقذرة حيَّة دون طْهيٍ ، ضمن سلوكيَّات مُتوحِّشة بشعة ، تصعب - على السويِّ - حكاية وصفها ، وهذه المسالك القبيحة من عجائب ما يمكن أن يصدر عن ضُلال بني آدم ، حتى ضجَّت - لذلك - العديد من المنظَّمات الحقوقيَّة منذ سنوات ، مُعترضةً على هذه الجرائم الوحشيَّة بحقِّ الحيوانات ، رجاء تكثيف الجهود لوقف هذه الممارسات الظالمة ، أو على الأقل الحدِّ منها ، فلم تسْتجب حكومة الصين إلا مُؤخَّراً ، بعد أن ظهر الوباء القاتل ، مُنبعثاً من باطن أحد هذه الأسواق الموبوءة ، فعملت على إغلاق كثير منها ، ومع ذلك بقيت أسواق الصين السوداء عامرة ببيع اللحوم القذرة الممنوعة .
وهكذا البشر - مهما بلغوا من التقدُّم الحضاريِّ - هم - على الدوام - في ضرورة مُلحَّة للهداية الإلهيَّة ، سواءً في معتقداتهم وعباداتهم ، أو في أخلاقهم وسلوكيَّاتهم ، لا يستغنون - بحالٍ - عن إلهِهِم - تبارك وتعالى - في شيء من كبير شأنهم أو صغيره ، فإذا لم يُذعنوا للعمل بحكم الشرع عن طواعية : جاءهم بطش القدر يدكُّ رقابهم ، ويدوس جباههم ، ويُرغم أنوفهم ، في صورة من صور انتقام البيئة لانتهاك طبيعتها الفطريَّة ، ليكون معلوماً ومُتحقِّقاً عند الجميع : أن المُحرَّمات الدينيَّة ليست خرافة عبثيَّة ، وإنما هي حقيقةٌ ربَّانيَّة ، ورحمةٌ إلهيَّة ، ومصلحةٌ إنسانيَّة .
وأما حديث بعضهم عن عذر الصينيين في إضافة طوائف جديدة من المملكة الحيوانيَّة إلى قوائم مأكولاتهم : إنما هو من أجل تعويض ما قضمته مصانعهم المُشيَّدة من أراضيهم الزراعيَّة ، حين تحوَّلت مساحاتٌ زراعيَّة واسعة إلى مُنشآت تصنيع وإنتاج ، لمواكبة تطلُّعات خطط الحكومة لريادة العالم الصناعي ، ممَّا انخفض معه حجم المُنتجات الزراعيَّة عن استيعاب حاجات أكبر سوق استهلاكيَّة في العالم ، فاندفعوا مُضطرِّين إلى التعويض الغذائي بالمُتاح من البيئة الحيوانيَّة ، وإن كانت مُسْتقذرة !!
ولئن كان هذا العذر منطقيًّا للمُضطَّر زمناً ما ، حين تضيق به السبل ؛ فإنه ليس بعذر لدولة كالصين ، التي أثبتت قدرتها الفائقة على استحداث أنشطة تجاريَّة واستثماريَّة مذهلة ، في أزمنة قصيرة قياسيَّة ، فلن يعوزها تطوير تربية الأنعام والدواجن والأسماك ، وغيرها ممَّا استحسنه الناس على مرِّ عصورهم المُتعاقبة ، لتلبية حاجات المواطنين ، مع توسيع الأراضي الزراعيَّة وتطوير مُنتجاتها بدلاً من قضْمها ، ضمن خطط مُحكمة متوازنة ، بين المُنشآت الصناعيَّة والأخرى الزراعيَّة ، فإن هوس الإنتاج الصناعي ، على حساب الإنتاج الزراعي لن يكون ذا جدوى في مواجهة الأزمات الاقتصاديَّة ، والجائحات الوبائيَّة المُفاجئة .
وقد أثبت التاريخ الاقتصادي : أن أمة لن تجوع ما دام أنها زراعيَّة ، وما زال المجتمع الزراعيُّ - دائماً - هو قاعدة الانطلاق نحو التحضُّر والتقدُّم ، وما نهضت المجتمعات الحديثة في أوروبَّا وأمريكا ، إلا من بطن المجتمعات الزراعيَّة ، فهي الأصل في النهضة ، وهي أيضاً الضمانة - بإذن الله تعالى - في تحقيق السلامة والأمان الغذائي .
حديث المؤامرة :
ولئن تحدَّث بعضهم - في هذه الأزمة - عن مؤامرة النخبة الرأسماليَّة المُحترمة في العالم ، على الحثالة المُسْتحقرة من الشعوب ، في تطوير سلالة هذا الفيروس الخبيث ؛ ليكون وسيلة حربٍ بيولوجيَّة جرثوميَّة فتَّاكة ، يُهلكون بها خصومهم ، ممَّن يُنافسونهم على التحكُّم في الأسواق ، ويُزاحمونهم على نهب الثروات ، فيستفردون وحدهم بالموارد الشحيحة المُتاحة ؛ لتخلُص مُقدَّرات العالم - في نهاية المطاف - إلى أيدي حفنة قليلة من الاقتصاديين والسياسيين ، تتحكَّم في حركة الناس وأنشطتهم ، من خلال شرائح إلكترونيَّة دقيقة جداً ، تُزرع في أجسادهم بحجَّة اللِّقاح ، فيُتتبَّعون من خلال شبكات الإنترنت الواسعة العملاقة ، وفي الوقت نفسه : يُطهِّرون - حسب ظنِّهم - البشريَّة ممَّن لا حاجة للحياة فيهم ؛ من المرضى المزمنين ، أو العجزة المعمِّرين ، أو الآخرين ممَّن هم عالة على غيرهم ، ممَّن يستهلكون ولا يُنتجون ، بناء على الفكرة الدارونيَّة في بقاء الأصلح .
إذا صحَّ الأمر على هذا النحو العام والشامل ، فهو أيضاً من قدر الله تعالى ؛ حين يُسلِّط الناس بعضهم على بعض ، فإنه لا يجري في كونه - جلَّ وعلا - إلا ما أراد من الخير أو الشر ، ومع ذلك فلن يتعدَّوا بمكرهم قدْراً حدَّه الله تعالى لهم ، فإن أمضى لهم - بحكمته - بعض مكْرهم : فلن يُمضيَه لهم كلَّه ، وإن أذن لهم في شيء من الأمر : فلن يأذن لهم في الأمور كلِّها ، فإن لكلِّ شيء قدْراً لا يتجاوزه : من المكان والزمان والحجم ، والله غالبٌ على أمره ، وقضاؤه لا بدَّ نافذ في خلْقه .
ومع كلِّ هذه التكهُّنات المُتداولة بين المحلِّلين : فما يزال الغموض يلفُّ قضيَّة هذا الفيروس وتداعياته العالميَّة ، والجزم بأحد الاحتمالات : يبقى ضرباً من الظنِّ ، ما لم تُؤيِّده الأدلَّة العلميَّة ، وتشهد له الوقائع القائمة .
ولا يغيب عن أذهان المراقبين - في هذه الأحداث الجارية - أن الساسة الغربيين : هم أسرع الأقوام إفاقة عند الأزمات حين تفجَؤهم ، وأبلغهم قدرة على التأقْلم مع الأحداث حين تُباغتهم ، فلا يبعد عنهم ارتداء ثوب الزور ، بادِّعاء ما ليس لهم ، فيُوحون للعالم - عبر بعض وسائلهم اللَّطيفة - أنهم أصحاب الحدث الأكبر ، فهم من يتحكَّم في العالم وفق إرادتهم ، فما يجري فيه قد سبق الإعداد له ، وفق خطط مُتقنة مُحكمة ؛ ليكون ذلك أبلغ في سيطرتهم على الآخرين ، وأمضى في هزيمة خصومهم النفسيَّة .
لا سيما وقد ثبت في السنَّة الصحيحة - كما جاء في صحيح مسلم - أن في السنَّة ليلة ينزل فيها وباء عام ، يُصيب الآنية المكْشوفة ، فلعلَّ ما عمَّ العالم هو من هذا الوباء السنويِّ الذي ينزل ، فإن قذارة الأسواق الشعبيَّة في الصين : جديرة باستقبال مثل هذا الوباء ، وليس هو ما يدَّعيه المزوِّرون لأنفسهم من القدرات الفائقة ، ليمضوا بها فوق ما ينبغي لهم ، إمعاناً منهم في فتنة الشعوب .
والعجيب في الأمر : أن أحد رواة هذا الحديث ، وهو الإمام اللِّيث بن سعد - وأصله من فارس من أهل أصبهان - قال في تتمَّة الخبر : ( فالأعاجم عندنا يتَّقون ذلك في كانون الأول ) ، أي يتوقَّعون نزول الوباء في شهر كانون الأول ؛ ولهذا يخافون نزوله عند قدوم هذا الشهر ، وهو الشهر الثاني عشر من الأشهر الآشوريَّة ، الذي يُقابله شهر ديسمبر ، وهو الشهر الثاني عشر أيضاً من الأشهر الميلاديَّة ، وهو الشهر بعينه من عام 2019 الذي أُعلن فيه عن الوباء لأوَّل مرَّة ، فهذه موافقةٌ نبويَّةٌ واقعيَّةٌ : تربط المسلمين بدينهم ، فلا يمضون - مع المُدَّعين - بعيداً عن الحقائق .
ومثل هذه التصريحات الدعائيَّة : لا ينبغي أن تمضي على العقلاء دون مراجعة وتمحيص ، لا سيما وأن الأزمة الحاليَّة انحطَّت بثقلها على الجميع ، وانعكست على العموم ، وتصنيع الأسلحة البيولوجيَّة : لم يعد سرًّا علميًّا ، ولا حكراً على دولة بعينها ، فمن لعب منهم بالنار : فقد ناله من لظاها ، فإن المصيبة - حين نزلت - لم تُميِّز مُتآمراً ولا غافلاً .
ومن ظنَّ من الخرَّاصين : أن البشر ينقرضون بمثل هذه المؤامرات الحالمة ؛ ليخلص المُتآمرون إلى النخبة الذهبيَّة : فقد ظنَّ ما لا يكون أبداً ، فإن نفساً لن تموت قبل حضور أجلها المكتوب ، وكذلك الأمم والجماعات : قد ضرب الله لهم آجالاً ، لا يستقدمون عنها ساعة ولا يسْتأخرون ، فمن مات - من فردٍ أو جماعة - فقد مات بأجله المُقدَّر ، ضمن أمر قد فُرغ منه في الأزل ، وليس بإرادة مخلوقٍ ماكرٍ مُتآمر .
بل لو عزم أئمة الكفر المُعاصرون : على استخدام كلِّ ما أُوتوه من أسلحة الدمار الشامل : بأنواعها وأصنافها المُختلفة ؛ لإنهاء الحياة على كوكب الأرض : ما قدروا على ذلك ؛ لأن نهايتها مرهونة بنفخة الصور ، حين يأذن الله تعالى لصاحب الصور - عليه السلام - بالنفخ فيه ، أما قبل ذلك فليس الأمر إليهم .
وإنما الخشية فيما يُنتظر منهم - ممَّا لا يُؤتمنون عليه - هو احتمال استثمارهم هذه الجائحة وتداعياتها الصحيَّة ، فيما يكون فيه الضرر - بوجهٍ ما - على المسلمين ، سواءً كان ذلك في مخاطر تجارب اللقاح الجديد على البشر - فاستباحتهم لمثل هذا السلوك العنصريِّ المشين معلومة - أو في مكرهم بحقن أكبر عدد من المسلمين بما يضرُّهم في الآجل من عواقب صحيَّة ، لا يُدرى حجم آثارها المستقبليَّة ، ممَّا يُضاعف المسئوليَّة على الطواقم الطبيَّة المسلمة ، في أن يكونوا مقدِّمة الأمة للتصدِّي لهذا المكْر .
لا سيما وأن النزاع - بين الأطباء المُختصِّين - لا يزال قائماً حول جدوى الأساليب المُتَّخذة حالياً في علاج مرضى الوباء ، باعتبار أنها تسير في الاتجاه الطبيِّ غير الصحيح ، ممَّا اعتُبر تضليلاً طبيًّا ، اتـُّهمت به مُنظَّمة الصحة العالميَّة ، كما اتـُّهمت بالتواطؤ على كتمان خطر الوباء عند أوَّل أمره ، حتى بلغ ما بلغ من الانتشار والعموم .
هذا إضافة إلى حجم الأرباح الطائلة المُتوقَّعة ، من وراء الاستثمار في صناعة الدواء وتسويقه ، لا سيما للشركات المُحتكرة ، والأخطر منه احتكار تطوير صناعات اللقاحات الوبائيَّة ، التي أصبحت حكراً على شركات عالميَّة بعينها ، تجني من ورائها أرباحاً خياليَّة ، فلا يبعد - تحت ضغط الحاجة العالميَّة والجشع التجاري - أن تتخفَّف من الْتزام بعض الخطوات العلميَّة المخبريَّة في تطوير اللقاح ، والانتقال به إلى درجة عالية من النجاعة والأمان ؛ ليكون أبلغ في كفاح الداء ، وأسلم من آثار جانبيَّة غير محمودة ، فالتداخل في المصالح بين الشأنين السياسيِّ والاقتصاديِّ : قد يسمح بنفوذ بعض هذه الشركات المُحتكرة إلى مصالحها الخاصَّة ، على حساب مصلحة المجتمع وصحَّة أفراده .
واجب الدعوة :
إن صحَّ الخبر عن المؤامرة : فإن اللائمة تنحطُّ أوَّل ما تنحطُّ على عموم المسلمين ، أصحاب الرسالة الخاتمة ، الذين يحملون الحقَّ الصريح ، ويعرفون الطريق الصحيح ، ممَّن كلَّفهم الله تعالى الشهادة على الناس أجمعين ، ثم هم - مع ذلك - ساهون عن واجب إقامة الحجَّة على العالمين ، وقيادة البشريَّة إلى الصراط المستقيم ، وحماية الإنسانيَّة من تعدِّي المُبطلين ، ممَّن يتآمرون على إهلاك الناس ، ويسعون إلى تخريب العالم ، فأنى للمسلمين أن يُقيموا حجَّة - فضلاً عن أن يُدافعوا عن مظلوم - وهم بالمكان الذي هم فيه من التخلُّف والفرقة والهوان !!
ومع ذلك لا يُعذرون جماعات ولا فرادى - كلٌّ بحسبه - أن يعملوا بدينهم ضمن المُتاح ، ويدعوا إليه قدر المُستطاع ، ويُقيموا به الحجَّة على من يبلغونهم من الناس ، فإن العجز عن البلوغ بالدعوة الناسَ أجمعين : لا يُسقط فرض القيام بالواجب - الممكن - تجاه الواحد أو الاثنين منهم ؛ فإن ما لا يُدرك كلُّه : لا يُترك جلُّه ، وانعطاف الواحد من الكافرين إلى الحقِّ ، وإذعانه بدين الإسلام : هو خيرٌ من نفائس الأموال ، كما جاء في الحديث النبوي .
ثم ما أُتيح في هذا العصر من وسائل الاتصالات الواسعة واليسيرة : لم يترك لأهل العلم والدعوة عذراً في إهمال ما أُتيح منها في نشر الحجَّة بدين الإسلام ، سواء كان بدعوة الآخرين إليه ، أو بالعمل على إصلاح ما فسد من حياة المسلمين وأخلاقهم ، فكلُّ ذلك أصبح اليوم مُتاحاً ، فمن تُراه يعجز - من شباب هذا الجيل - أن ينشر - عبر شبكات التواصل الاجتماعي - آية قرآنيَّة ، أو حديثاً نبويًّا ، أو نصيحة خلقيَّة ، أو مقْطعاً وعظيًّا ، أو منظومة أدبيَّة ، أو نحو ذلك ممَّا ينفع الناس ، فالقيام بشيء من الواجب الدعوي : أولى عند الله تعالى من أعذار العجز والكسل ، وقد تُوفيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ بالدعوة أعيان جميع أهل الأرض قاطبة ، فهذا واجب المسلمين المُتاح في هذا الوقت ، وهذا ظرف زمانهم ومكانهم الذي قدَّره الله تعالى لهم ، فليس لهم النكوص عمَّا نيط بهم من المُتيسِّر من واجب الدعوة ، فإن من المُتقرِّر شرعاً : أن الميْسور من الواجبات : لا يسْقط أداؤه بالمعْسور منها .
ثم إن المؤمن الصالح حين يموت بهذا الوباء - سواءٌ من جرَّاء مؤامرة أو بدونها - فهو إلى رحمة الله تعالى بكلِّ حال ، فالموت تحفة المؤمن في آخر الزمان ، حين لا يبقى من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة ، فهو كالحبيب حين يأتي على شوق ، وأسوأ المسلمين حالاً من يموت بهذا الوباء ، فيكون تحت مشيئة ربِّه الكريم ، بين عدله وفضله ، ثم هو في نهاية أمره إلى رحمة ربِّه .
وأما الكافر - حين يموت به - فإن مصيره إلى عذاب الله تعالى ، مفتوناً بملايين المسلمين الصادِّين عن سبيل الحقِّ والهدى ، فما أتعسه بشراكة هؤلاء المُتقاعسين عن الدعوة ، فأيُّ جناية اقترفها المسلمون المعاصرون في حقِّ هؤلاء الضالِّين ، حين حرموهم حقوقهم في نعمة الإسلام ورحمته ؟
ولا يُعتذر هنا بالقضاء والقدر ؛ فيقول القائل : لو شاء الله لهداهم !! فيُلقي بمسئوليَّة تكاليف الدعوة على المشيئة الكونيَّة ، مُتغافلاً عن واجب العمل بالمشيئة الشرعيَّة ، التي حكمت على أهل التوحيد جميعاً بفرض التبليغ ، والقيام بالشهادة على العالمين ، والنهوض بالدين للمُسترشدين ، ولو كان ذلك بقدر آية واحدة ، فمن كان - من المسلمين - سبباً في فتنة الكافر عن الدين الحقِّ : فلن يفوت الله تعالى بجرْمه ، ومن مات من الكفَّار مفتوناً بواقع المسلمين ، فلم تقم عليه الحجَّة الشرعيَّة ، التي يسقط بها عذره : فهو من أهل الفترة ، وأمره إلى الله تعالى ، ولا يظلم ربُّك أحداً .