مقال شهر شوال 1440هـ
حقُّ الفتاة في التَّعلُّم
(من الإرشيف)
إن العبرة المعوَّل عليها في تقدم الشعوب ونهضتها هي توافر الوسائل المناسبة التي تجعل المعرفة العلمية متاحة للجميع دون استثناء، بحيث تُزال كل أسباب الجهل، وعوائق التعلم المادية والمعنوية، وتصبح المعرفة في متناول القاعدة العريضة من الشعب، خاصة التعليم الأساس الأولي، فإن الاختراعات الحديثة الفائقة لم تقم كلُّها على دراسات علمية متخصصة، بل كان كثير منها نتاج خبرة صُنَّاعٍ مهرة، لا تزيد أصول معارفهم عن العلوم الأساسية الأولية .
هذا النمط المتسع للطبيعة التعليمية كان سائدًا في الحياة الإسلامية الأولى، فمع كون التعليم كان يُقدَّم للناس دون مقابل، فقد كان مشاعاً لا يُمنع عنه أحد، بحيث لا يكاد يوجد في المجتمع المسلم من لا يعرف مهارتي القراءة والكتابة ؛ فقد كتب مرة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – إلى عامله أبي بكر بن حزم يقول له:"لتُفْشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يَعْلَمُ ؛ فإن العلم لا يهلكُ حتى يكون سرًّا"، وهذا هو عين النهج الذي سلكته حكومة اليابان، ولا تزال تُصرُّ عليه – مهتدية في ذلك بالخبرة والمنطق – فكان سببًا رئيسًا في تقدمهم العلمي، ونهضتهم الحضاريةالحديثة.
ورغم أن الإسلام منح الإناث حق التَّعلُّم، وإعمال الفكر والنظر إلا أن هذا الحق المشروع لم يجد الصيِّغ العملية المشروعة والكافية لتحقيقه وإعماله في الحياة الاجتماعية المعاصرة، ولهذا فهن أكثر فئات المجتمع تضررًا بقصور سبل المعرفة، ووسائلها المتاحة.
ومن هذا المنطلق فإن على التربية في العالم الإسلامي أن تسهم في إيجاد القاعدة العريضة المتعلمة، بحيث يتحقق على الأقل لكل فرد – ذكرًا كان أو أنثى – الحد الأدنى من التعليم الأساس، وتتخذ في سبيل تحقيق ذلك الأساليب التعليمية المختلفة، والوسائل التقنية الحديثة، والأنظمة التربوية المتطورة .
ولما كان للفتاة المسلمة كيانها الخاص، وطبيعتها التي تختلف عن طبيعة الذكور، ودورها المتميِّز في الحياة الاجتماعية: فإن نظام تعليمها لا بد أن يتوافق مع كيانها المتفرِّد، ويتناسب أيضاً مع طبيعتها الخَلْقية، ودورها الاجتماعي .
إن من الظلم الاجتماعي أن يوجد خلاف في مبدأ جواز تعليم الإناث، فقد عقد أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي – رحمه الله – فصلاً في وجوب طلب المرأة العلم، وجزم أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي بجواز تعلم المرأة للكتابة، وأظلم منه أن يستقر رأي أمة من الأمم على وجوب تجهيلهن، وحجب العلوم والمعارف عنهن ؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية – رغم إنجازاتها العلمية المعاصرة، وانفتاحها المعرفي في هذا العصر، وتمكين الإناث فيها من التعليم على قدم المساواة مع الذكور- فإنها – مع ذلك – لم تعترف بحق الفتيات في التَّعلُّم إلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وما نصَّت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على أن التعليم الأساس إجباري وحق مشاع لكل إنسان إلا عام 1948م، وذلك بعد مرور مائة عام تقريباً على إعلان حق الفتاة الأمريكية في التَّعلُّم .
إن التربية في التصور الإسلامي تتعامل مع الإنسان بغض النظر عن كونه ذكراً كان أو أنثى، فتعمل على تنشئته بصورة شاملة من جميع النواحي: الجسمية، والروحية، والعقلية . . . وتزوِّده بالمعارف والقيم والخبرات التي تضمن سلامة نموه طبقاً لأهداف الإسلام التربوية الكبرى، بحيث يبلغ كلُّ إنسان مسلم – أياً كان – في المجتمع " درجة كماله التي هيأه الله لها، حتى يكون قادراً على القيام بحق الخلافة في الأرض " .
إن شواهد المجتمع النبوي – المجتمع المقياس – تدل على هذا المذهب بقوة، فمع أن الصحابيات – رضوان الله عليهن – كنَّ يستفدن علمياً من الجو العام الذي شاع فيه علم النبوة ؛ فقد استجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لانفرادهن بشيء من حديثه الخاص، ولم يكن يمتنع عن إجابة أسئلتهن مهما كانت محرجة، بل حتى الموضوعات الاجتماعية العامة التي قد لا تدخل أهمية تعلُّمها ضمن ضروريات الدين: كان – عليه الصلاة والسلام – لا يبخل بتعريفهن إياها، ومن لم يكن يستطيع – عليه الصلاة والسلام – أن يصل إليهن من النساء فقد كان يأمر محارمهن من الرجال بتعليمهن, وتبليغهن العلم .
إن هـذا الجـو المفعم بالمعرفة، المشـبع بالعلـوم، الذي يُحـثُّ فيه الرجل على أن يُعلِّم ويؤدب مملوكته : لا يمكن معه أن يرتاب مرتاب ، أو يشك في مبدأ جواز تعليم الفتيات، فإذا كان تعليم الفتاة المملوكة مُرغَّباً فيه بالأجر والثواب، فإن تعليم الحرائر – بالضرورة – آكد وأعظم أجراً ؛ فإن للفتاة الحرة ضعفي ما للمملوكة من الحق في المفهوم الإسلامي، وفي هذا يقول ابن باديس مبيِّناً أهمية تعليم الفتيات : " إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً فعلينا أن نكوِّن أمهات متدينات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليماً دينياً، وتربيتهن تربية إسلامية " .
ورغم وضوح هذا المبدأ الإسلامي في حق الفتيات في التعليم؛ فإن المجتمع المسلم المعاصر قد قصَّر في تعليمهن من جهتين :
الأولى : من جهة عدم القيام لهن بهذا الحق المفروض شرعاً حتى عمَّت الأمية – بنسب عالية متفاوتة – غالب النساء في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، واحتاجت الأمة للتوصية والتذكير بضرورة تعليمهن ضروريات الدين عبر المؤتمرات والندوات العلمية، بل احتاج أيضاً ملوك ورؤساء الدول الإسلامية إلى أن يجددوا العهد فيما بينهم على التعاون بهدف نشر التعليم في بلدانهم ومحاربة الأمية المتفشية فيها .
الثانية : من جهة عدم تعليمهن ما ينفعهن، فمن نجت من أميَّـة القراءة والكتابة، وقعت – في كثير من المجتمعات الإسلامية – في أميَّـة الدين والأخلاق، حتى حُوصرت الفتاة من الجهتين، فلم يخدمها العلم القاصر، ولم تغن عنها الأميَّة شيئاً ؛ لهذا فإن بعض العلماء يمنع من تعليم الفتاة إذا كان ذريعة إلى مفسدة .