مقال شهر رجب 1440هـ
إشعار الطفل بعبودية الحيوانات لله تعالى
إن لهذه الحيوانات إدراكاً خاصاً , تعرف به ربها وتعبده وتسبحه , ولكن الإنسان بغفلته لا يدرك هذا التسبيح وهذا الخضوع الكامل من الحيوان لربه عز وجل, وفي هذا يقول سبحانه وتعالى كاشفاً للبشر عن تلك الحقيقة من التسبيح والتهليل والتمجيد لرب العالمين: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ), ويقول في موضع آخر من كتابه العزيز: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، ويقول عطاء رحمه الله معلقاً على هذه الآية: " أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة " , أي أن هذه الدواب غير العاقلة تحيا حياة فيها الخضوع والذل والعبودية لله عز وجل, كما أنها تعرف خالقها وموجدها وتسبح له وتمجده.
وقد كان نبي الله سليمان عليه السلام يعرف لغات الحيوانات ويكلمها ويعقل عنها, مما يدل على أن لهذه الدواب لغاتها التي تتفاهم بها , وقد ثبت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم إخبار أصحابه أن بقرة كلمت صاحبها, وأن ذئباً كلم راعي غنم , وقد نقل عنه في موضوع إدراك الحيوانات, ومعرفتها به شخصياً عليه الصلاة والسلام مهو كثير, فتارة يأتيه جمل يشتكي صاحبه, وتارة يشهد جمل عنده على رجل , وهكذا فقد نقل عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الجانب ما يوقع في النفس عظمة الخالق سبحانه وتعالى , وعجائب صنعه في هذا الكون، فيخرج الإنسان من كل هذا بأدب مع هذه الحيوانات العجماوات, وعدم إغفالها بالكلية , خاصة وأنها تدرك أسباب البلاء , وتلعن أصحاب المعاصي وتكرههم, فقد ورد في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ), قال مجاهد رحمه الله: " إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم"، وقيل أيضاً: " ويلعنهم كل شيء حتى الخنفساء " , فهذه البهائم تعرف أن أسباب جدب الأرض, وقلة الخيرات: معاصي بني آدم وانحرافاتهم، لذلك تلعن العصاة منهم , كما أنها في الوقت نفسه تحب الصالحين منهم, وتستغفر لهم , وتدعو لهم كما جاء في الحديث: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
فمن هذا المنطلق , ومن هذه المفاهيم الجليلة , يدرك المُربي أهمية إشعار الولد بهذا الجو المليء بالحياة , المفعم بالذكر , ليعيش الولد أوقاتاً من الزمن مستحضراً لهذا الخضوع الكوني العجيب لله رب العالمين , ومن ثم يعرف أن هذه الحيوانات , حتى الحشرات منها, تعرف أهل المعاصي فتبغضهم وتلعنهم ولا تحبهم , فيتجنب أن يكون منهم, أو أن يتشبه بهم , كما أنه في نفس الوقت يعرف أن هذه الدواب تحب أهل الخير وتستغفر لهم, فتراه يتشبه بهم, ويحاول أن يكون منهم.
ومن المستحسن أن يذكر المربي الولد بهذا الشعور من وقت لآخر, خاصة في أوقات الخلوات مع الولد, وعند الأصيل قرب الغروب إذا كانا في نزهة, على شاطىء البحر, أو بين الأشجار, ففي ذلك الوقت تكون النفس مستقرة , ومتفتحة لقبول ما يقع فيها، من مثل هذه المعاني الروحانية المباركة , فإن شعر الطفل بهذه القضية وأدركها إدراكاً لا شكوك فيه, فإنه يعيش حياة لا ملل فيها، فهو ليس الوحيد في عبادة الله , بل غيره كثير من دواب الأرض وحشراتها فضلاً عن عباد الله الصالحين , الكل منهمك في عبادة الله عز وجل, منشغل بالتسبيح والتهليل والتكبير.
إن دور الأب وعموم المربين في هذه القضية هو تركيزها في نفس الولد , وجعله يعيشها وقتاً من الزمن, متجنباً مناقشتها من الناحية العلمية المخبرية, فإن المؤمن بالله المصدق لرسوله صلى الله عليه وسلم, لا يحتاج إلى أدلة علمية ليصدق ويؤمن بما جاء عن الله ورسوله, بل يسلم بكل ما ورد عن الله ورسوله , ويحاول أن يفهم ويعقل , فإن وصل إلى بغيته من إقامة الأدلة الشرعية العلمية التجريبية على قضية من القضايا فهذا حسن , أما إن لم يتمكن من ذلك اكتفى بالإيمان بالأدلة الشرعية دون الأدلة العلمية التجريبية.
إذا فهم المربي هذا المبدأ العظيم فإنه من السهل عليه عندما يحاول الولد أن يدرك هذه القضايا الغيبية إدراكاً تجريبياً,أن يلفت نظره إلى عظم قدرة الله, وأنه قادر على كل شيء, فلا يعجزه أمر, فإن هذا الإيمان الكامل بعظيم قدرة الله عز وجل كاف لأن يصدق المسلم بكل ما يرد عن الله ورسوله من عجائب الغيب , وغرائب الكون.
ويمكن للمربي أن يركِّز هذا المبدأ عملياً في نفس ولده, فإن رآه مقدماً على إيذاء نملة أو خنفساء , أو غير ذلك من الحشرات غير الضارة, فإنه يزجره زجراً خفيفاً مشيراً له أن هذه الدابة تسبح ربها, وتدعو للصالحين , فيأمره بتركها، وبهذا الأسلوب يستقر في نفسه عملياً إدراك هذه الدواب وخضوعها لله عز وجل , فلا يقدم على إيذائها بعد ذلك.