مقال شهري رمضان وشوال 1439هـ
العاجزون الأبرار
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه في الأرض ولا في السماء ، والصلاة والسلام من الله الجليل على سيد الناس ، وحبيب الحقِّ محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد فكثيراً ما يستشهد المحترقون اجتماعيًّا بالعبارة القصيرة ، المنْسوبة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – التي يقول فيها : ( اللهم إني أعوذ بك من جَلَد الفاجر ، وعجز الثقة ) ، فهذه العبارة المُوجزة في كلماتها ، والقصيرة في جملتها : تُعبِّر بقوَّة عن حالة الإحباط النفسي ، والضيق الاجتماعي ، التي تكْتنف المُصلحين الاجتماعيين في فترات الغرْبة الدينيَّة ، واختلال معايير التقويم الأخلاقي ، وانكماش مجالات التغيير الإيجابي ، في مقابل شيوع روح الفرديَّة المطْلقة ، والانعزال الاجتماعي ، التي هيَّئت للفرد – أيًّا كان مستواه العلمي والعقلي – أن ينفرد باختياراته السلوكيَّة ، مهما كانت شاذة ، ويستقل بآرائه الفكريَّة ، مهما كانت حادَّة ، بزعم أن الساحتين - الاجتماعيَّة والفكريَّة - تتَّسع للجميع !!
ورغم أن أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – كان يحيا ضمن أفضل القرون الإسلاميَّة ، حين أطْلق هذه العبارة المُؤْلمة ، فلعلَّه كان يستشرف بها حالة اجتماعيَّة مقْبلة على الأمة ، ممَّا علمه من أخبار فتن آخر الزمان ، التي يستقْوي فيها الفاجر ، ويستضْعِف فيها الصالح ، أو لعلَّه قاس واقع عصره على ما كان عليه الناس في عصر النبوَّة من التَّمام ؛ إذ لا بدَّ لكلِّ زمان من نقص ما ، ينْدرس فيه شيءٌ من الدين ، وبكلِّ حالٍ ، فإن ما لحق الأمة في قرونها المتأخِّرة – بلا شكٍّ - أبلغ وأشدُّ ممَّا كان في زمنه ، من ضعف الصالحين ، وجَلَد الفاجرين .
ولعلَّ من أشدِّ ما مُنيَت به غالب مجتمعات الإنسانيَّة اليوم : هو قبولها بإدراج الشذوذ السلوكي ، والتطرُّف الفكري ، والشرود الذهني : ضمن نطاق المقبول اجتماعيًّا ؛ بحيث ينفتح أمام الغلاة المتطرِّفين - من كلِّ مذهب ونحلة واتجاه - مجالات التعبير الفكري والسلوكي كأوسع ما يكون ، فلا يجد الواحد من هؤلاء حرجاً ، في أن يُعبِّر بارتياح عمَّا يجول في خاطره من الأهواء الفكريَّة العابثة ، والوساوس الشيطانيَّة الشاردة ، التي يصعب تصنيفها ضمن شيء من حقول الفكر الإنساني المحترم ، أو حتى إدراجها ضمن حدود الحريَّة الشخصيَّة المقبولة ، التي يحترم فيها الإنسان نفسه ، حين يُفْصح عنها للآخرين ، إذ لم يعد كابح الحياء الاجتماعي يردع هؤلاء وأضرابهم ، عن المُضيِّ في عرض نتن أفكارهم ، ووساوس عقولهم ، عبر المُتاح من وسائط التواصل الاجتماعي ، وأدواته الإعلاميَّة المختلفة .
ويكفي مثالاً لهذا الهوى المُسْتحكم الغلاب : تلك التعبيرات الإلحاديَّة ، الصادرة عن بعض الموتورين من الشباب الأرعن ، حين ينْطلق أحدهم بالإهانة والوقاحة لينال بها أقدس مقدَّسات المجتمع ، ظنًّا منه أنه بذلك يُنْجز فكرياً ما عجز عن إنجازه أكاديميًّا ، فيُغطِّي إخفاقه العلمي ، ويستر إحباطه النفسي ، ويتجاوز تخلُّفه الحضاري : بهذه الترَّهات التعبيريَّة الوقحة ، التي لا تزيده في نفسه إلا سُفولاً وانحداراً ، وفي نظر الأسوياء : لا تزيده إلا قبْحاً واحتقاراً ، فإن الدين عند كلِّ أمة ما زال موضع احترامها وتقديرها ، حتى وإن كان ذلك من بعضهم مجاملة وملاطفة ، فما زال استهداف الرموز الدينية المقدَّرة - عند شعوب أهل الأرض كافَّة - مُسْتنكراً ومُسْتهجناً ، لا سيما ما تعارف عليه المجتمع واعتاده ، ورسخ في وعيه ، واستقرَّ في وجدانه ، من ثوابت الدين ومسلَّماته ، إلا ما يكون من بعض سفهاء الأقوام وأرذالهم ، الذين لا يكاد يخلو منهم مجتمع ، فكيف بما استقرَّ وتواتر تعظيمه وتقديره عند عموم المسلمين ، من الثوابت الدينيَّة والأخلاقيَّة ، التي توارث المسلمون تعظيمها وتقديسها ؛ ممَّا يعدُّونها من المحرَّمات والمقدَّسات ؟!
وكذلك الحال في مجال السلوك الشخصي ؛ إذ لم يعد للفرد رادعٌ في وسطه الاجتماعي ، يكفُّه عن مسلك الشذوذ السلوكي ، الذي يصدر عن أحدهم بقصد المعاندة للخُلُق الاجتماعيِّ السائد ، والمناكفة لآداب المجتمع العامة ، حيث يشعر المُعاند في نفسه بالإنجاز ، ولو كان في ثوب شاذ ؛ لأن مشاعر الإحباط العامة ، التي تكتنف مجتمعات العالم الثالث : لم تترك للعمل الإيجابي المُثمر ساحة ينشط فيها ، فيجد المأزوم في ساحات السقوط الأخلاقي مجالاً سهلاً للتعبير عن نفسه المُحْبطة ، ولو كان ذلك في عطبه وهلاكه .
إن تمادي الفاسقين في جرأتهم على دين الله تعالى ، وعلى مقدَّسات الأمة وثوابتها ، في مقابل انكماش الصالحين وتراجُعهم في غُرْبتهم : هو نذير شؤْم على المجتمع بأكمله ، يُنذر بزواله وأفوله ؛ فإن انتشار الخَبَث الاجتماعي دون مدافعة ، وتراجع أسباب الإصلاح الأخلاقي دون مقاومة ، حتى يتجاوز الخبيثُ الطيبَ ، ويعلو الباطلُ الحقَّ : فهي نُذر هلاك اجتماعي عام ، ينال الجميع بلا استثناء : الطيبَ والخبيث ، الصالحَ والفاسد ، فقد مضى العرف الاجتماعيُّ بأن الخير يخصُّ ، وأن الشرَّ يعمُّ ، وأصدق من هذا وأبلغ قول الحقِّ جلَّ وعلا : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (8/25) .
إن أسوأ ما يمكن أن يلحق الصالحين : هو الخور الاجتماعي ، فلا يجد أحدهم من القوى الروحيَّة والنفسيَّة الكافية لمواجهة الواقع المتردِّي ، بما يُناسبه من أسباب الإصلاح المشروعة والمُتاحة ، وذلك بالقدر الذي يُعذر فيه الواحد منهم شرعاً ، وهو القدر الذي يُبقي على الصالح دينه في نفسه ، وينجو به من تبعات سؤال التفريط يوم القيامة ؛ فإن العجْز الشرعي عذرٌ ينفع الصالحين في أمرين ؛ أحدهما في سلامة قلوبهم من الزيغ عن الحقِّ ، الذي ينال المنافق المُتظاهر بالدين ، وأما الثاني ففي سقوط المحاسبة عنه عند الله تعالى يوم الدين ، فإنه – سبحانه – لا يُكلِّف نفْساً إلا وسْعها .
ومع ذلك فقد يبلغ الكاره للباطل بقلبه المُحْترق : أعلى الدرجات عند الله تعالى ؛ لأن النيَّة الحسنة في إنكار المنكرات ، والرغبة الطيِّبة في الصلاح والإصلاح : هي مطيَّة المؤمن العاجز إلى بلوغ مرضاة ربِّ العالمين ، لا سيما في آخر الزمان ، عندما تُظلِم الدنيا على أهلها ، وتغيب عن الناس معالم الدين الحقِّ ، حين لا يجد المؤمن على الخير أعواناً يُكثِّرونه ، فينفرد الصالح بنفسه عن مجتمعه ، وربَّما اغترب حتى عن أهله وولده ، فلا يجد في من حوله من يُشبهه في فهمٍ ، ولا من يُشاطره في رأي ، ولا من يوافقه على سلوك ، الكلُّ معجبٌ بنفسه ، تائهٌ في هواها ، فحينئذٍ يكون ثبات الباطن على الحقِّ الخالص : فضيلةٌ دينيَّة معتبرة مقبولة ، وتكون المدافعة للباطل - بيسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – من محاسن صالحي آخر الزمان ، حتى يكون أمثل المسلمين وأفضلهم – عند انتشار الفواحش والموبقات في العامة – من يأمر بالاستتار بها ، ومع ذلك لا يجْرؤ على النهي عن مواقعتها !!
وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سننه (4/530) ، عن القدر من الدين في آخر الزمان ، الذي ينجو به الرجل من المساءلة يوم القيامة : ( إنكم في زمان من ترك منكم عُشْر ما أُمر به : هلك ، ثم يأتي زمانٌ من عمل منكم بعُشْر ما أُمر به : نجا ) .
ومع صحَّة الرخصة الشرعيَّة للعاجز في هذا : تبقى لأهل العزائم مراتبهم العالية ، ممَّن لا يرضى بأقلَّ من التَّمام لدينه ، وإن لاقى في سبيل ذلك ما لاقى ، فكما أن مقامات الأنبياء : مراتب يعلو بعضها على بعض ، فكذلك الأولياء - في كلِّ زمان ومكان - هم أيضاً مراتب ومقامات ومنازل ، تجمعهم سلامة الباطن ، ويوحِّدهم صلاح السريرة ، وتُفرِّق بينهم العزائم الدينيَّة ، في ترك الترخُّص بالرخص الشرعيَّة .
وليس هذا الاختيار للعزيمة منهم : تعالياً على الآخرين ، أو تحريماً على المُترخِّصين ؛ وإنما يقصدون بلوغ الكمال الديني ، وينْشدون تمام النجاة الأخْرويَّة ، فإن فتوى الترخُّص الشرعيَّة : لا تستقرُّ في نفس صاحب العزيمة العالية ، ولا تسكن في ضميره المحترق ، حين يستفتي قلبه عنها ، فما تزال نفسه تنازعه في قبولها ، وضميره يُشاغله في الركون إليها ، فلا تهدأ نفسه حتى يطرح الرخصة ، وينهض بالعزيمة .
وفي هذا يُذكر موقف عثمان بن مظعون – رضي الله عنه – حين دخل في جوار الوليد بن المغيرة ، عندما دخل مكة عائداً من هجرته إلى الحبشة ، فمكث في جواره زمناً ، فلمَّا رأى أصحابه من الضعفاء يُؤذون في الله تعالى ، وهو آمنٌ على نفسه في جوار رجل مشرك : نبذ إلى الوليد جواره ، وآثر العزيمة على الرخصة في ذلك ، وقيل في هذا : ( جوار الله خيرٌ من جوارك ) ، فلحقه من أذى قريش في نفسه ، ما رفعه – رضي الله عنه – إلى مجموع أهل العزائم .
في حين أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما رجع من الطائف مهْموماً مغْموماً ؛ لقبيح ردِّهم عليه ، وسوء فعلهم معه : دخل مكة في جوار المُطعم بن عدي ، وقد كان مشركاً ، وليس في هذا منه إيثارٌ للرخصة على العزيمة ، فهو في أعلى مراتب أُلي العزم من الرسل – عليهم جميعاً الصلاة والسلام – ولكنَّه التشريع للأمة ، وسنُّ السنن لهم ، فيما يجوز لهم الترخُّص فيه من أمور دينهم ، فيما فيه التلطُّف بهم ، والتخفيف عنهم ، لما يعلم من ضعف غالب أمته ، وعجز أكثرهم عن الأخذ بالعزائم العالية .
وكذلك كان اختياره لرخصة التخفِّي والسريَّة في هجرته العظيمة إلى المدينة ، في الوقت الذي أقرَّ فيه اختيار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على المُجاهرة بهجْرته ، آخذاً في هذا بالعزيمة والقوَّة ، فهو بسيرته – عليه الصلاة والسلام – بين اختياراته وإقْراراته : يشرِّع لأمته حدود الدين ومعالمه ، بين أعلاها وأدناها ، ثم يترك لهم اختياراتهم الاجتهاديَّة ، ويفسح لهم ميدان التنافس الإيماني ، في غير تكلُّفٍ يُرهقهم ، ولا ترخُّصٍ يُفسدهم ، فقد كان نهجه الأغلب على الدوام – عليه الصلاة والسلام - الأخذ بالأيسر والأسهل ، ما لم يكن في ذلك إثمٌ أو حرْمةٌ ، وإلا كان أبعد الناس عنه .
ثم هذا الإنكار بالقلب ، حين يصدر عن العاجز المُحْترق : يأتي في أعلى مراتب الإيمان ، إذا ضعُف صاحبه عمَّا هو أفضل منه - والله تعالى أعلم بدواخل النفوس – فلو صحَّت تسميتهم بالعاجزين الأبْرار : ما بعُد ذلك عن الحقيقة كثيراً ، وإنما ينزل إلى أدنى المراتب الإيمانيَّة وأضْعفها ، فلا يبقى وراء ذلك من الإيمان قدر حبَّة من خردل : إذا كان صاحبه مُترخِّصاً بالأدنى ، قاعداً عن الأحسن والأفضل ، وهو قادرٌ عليه ، يعلم الله تعالى ذلك منه .
ولا يُفهم من هذا فجور الصالحين في خوضهم في منازعات مع الجاهلين المُتجرِّئين ، فينزلون بأخلاقهم مُتمادين في نزاعاتهم مع هؤلاء إلى حيث نهاهم الله تعالى ؛ فإن القبيح من الناس يسْعد بمشاتمة الشريف وينْتشي ، في حين يهلك ويخْسأ بمجرَّد الإعراض ، فهو أمضى وأبلغ في كفِّه وتبْكيته .
بل إنْ كان ولا بدَّ من هزيمة تلْحق بالصالح الكريم من الجاهل البذيء : فهي – بكلِّ حالٍ - خيرٌ له من سقْطة في التمادي تُحْسب عليه ؛ فإن الثوب الأبيض النقيَّ : لا يحتمل براز ذبابة ، بل حتى لو عُيِّر الكريم بالهزيمة : فليخْترْها على الفجور ، فقد جاء في مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يأتي على الناس زمان : يُخيَّر فيه الرجل بين العجْز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان : فلْيخْتر العجْز على الفجور ) ، فهذه فتوى نبويَّةٌ كريمة ، باختيار موْقف العجْز – وإن كان مؤْلماً - عن أن يظْهر الصالح بمظْهر الفجور .
ولئن كان هؤلاء الصالحين أقلَّ الناس فساداً ، وأكثرهم طيباً ونقاءً ، وأفضلهم خُلُقاً وإيماناً ، فإنه لا ينبغي بحالٍ نسْبة العصْمة - من الذنب أو الخطأ – لأحد منهم ؛ فإنه لا عصمة لأحد من الأولياء بعد السادة الكرام الأنبياء ، فليس أحدٌ منهم بمأمنٍ من الوقوع في سقْطة كبيرة ، فضلاً عن الوقوع في صغيرها ، وإنما يتميَّزون - عن عموم الخطَّائين - بسرعة اليقظة والانتباه ، وبتعجيل التوبة والانقياد ، إذا ذكِّر أحدهم تذكَّر ، وإذا وُعظ تنبَّه ، كما قال الله تعالى عنهم : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (7/201) ، فهم - رغم مقام التقوى - ليسوا بمنأىً عن أن يلحقهم الشيطان بشيء من الغواية تقلُّ أو تكثُر ، غير أنهم إلى التوبة والأوْبة أسرع ما يكونون ، وإنما ينْبل الواحد منهم بقلَّة الخطأ ، وكثْرة التوبة ، وليس بالعصمة من ذلك ، فالعصمة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .